Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Géneros
وقد كانت هذه الإيماءات وما يجري مجراها - ومازالت - بعض ما يتوسل به الإنسان من قديم الزمان إلى التعبير، فلم يبلغ بها إلا أيسر الحاجات وأدناها منالا. وعلى قدر الحاجات تكون الخواطر والخوالج وعلى قدر كثرتها ومبلغ إلحاحها يكون طلب الإبانة والرغبة في الإفصاح. وقد ألفى الإنسان نفسه تكثر حاجاته وتقوى غريزة عقله ويترامى أفقه ولكن أداة الإيماء لا تسعفه لأنها تعجز الرقي، والتعبير الوافي بها يفوت الذرع، والاكتفاء بها خليق أن يورث نفسه التثاقل وطبيعته التقاعس، والخاطر يبطئ بها. والعجز يظهر ووجد أن الأصوات ألين وأسرع مؤاتاة، فمضى على الأيسر والأصلح.
وما زالت سنة الطبيعة أن كل موجود يؤثر الذي هو أسهل، ولن تجد ماء يجري إلى فوق، وله متسرب إلى تحت وهكذا كانت اللغة. •••
وقد شبهوها بالوعاء، والظرف، والجسد، والثوب - يعنون أنها تضمن بالمعاني وتحويها، وأن المعاني تحل فيها، وتكتسبها ، فتظهر بها .
ويقول الجاحظ في رسالته في «الجد والهزل»: «إن الله تعالى علم آدم جميع الأسماء بجميع المعاني، ولا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغو، كالظرف الخالي، والاسم في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح. واللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح، ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهبه شيئا جامدا لا حركة له. وشيئا لا منفعة عنده. ولا يكون اللفظ اسما إلا وهو مضمن بمعنى».
وهذا صحيح. ثم يقول «وقد يكون المعنى لا اسم له، ولا يكون اسم إلا وله معنى».
والشق الأول من هذه العبارة خلط. فأما أن اللفظ وحده وبمجرده ومن غير أن يكون في كلام مؤلف منظوم، «شيء جامد لا حركة له، ولا حس فيه» فصحيح إذ كان المعنى لا يستفاد إلا من تأليف الكلام. وأما أن المعنى يكون، ولا عبارة عنه، ولا لفظ يؤديه، فهذا هو الذي لا يكون.
وقد يستطيع الإنسان بعد بضعة آلاف من السنين أن يستغنى عن اللغة جملة، وأن يبلغ من اقتداره على التعبير أن يرسل خوالجه - من معان وإحساسات - موجات في الهواء يتلقاها ويتلقفها غيره كما تتلقى أجهزة الراديو الموجات التي تطلقها في الجو محطات الإذاعة. وأنا أعتقد أن هذا سيكون بعد أن يبلغ الإنسان من العلم المبلغ الذي يجعل ذلك ميسورا.
وإن أحدنا ليفهم عن صاحبه مراده بنظرة ولا يحتاج في هذا إلى كلام أو إشارة، فلست أرى ما يمنع التوسع في هذا إلى آخر المدى. ولكن هذه منزلة لاتزال بعيدة.
وليس بنا عن اللغة إلى الآن، وإلى زمان آخر طويل، غني وما دمنا عاجزين عن التعبير بغير هذه الأداة فلا سبيل إلى معنى إلا بلفظ، ومن كان يتوهم أن من الميسور أو من الممكن أن يحصل المعنى بغير لفظ فليجرب وليحاول أن يتصور معنى يدور في رأسه، أو إحساسا يضطرب به صدره من غير أن يكون له لفظ يتبدى فيه، أو فليحدث نفسه بأمر ما، فإنه خليق أن يجد أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا اهتدى إلى اللفظ الذي يفرغه فيه ويصبه منه في مثل القالب، وإنه بغير ذلك لا يشعر بأكثر من جيشان أو اضطراب فكأنه ينظر إلى سحاب غليظ متراكب لا تنفذ العين فيه، أو شيء ملفف. ولا سبيل إلى الرؤية الواضحة إلا بعد أن يتفتق السحاب أو ينقشع، ولا يتبين المرء ما يدور في نفسه إلا إذا صار لما يخالجه لفظ يكتسبه ويبدو فيه، وهذا هو السبب في غموض الكلام ووضوحه فالغموض هو قصور اللفظ، والوضوح هو حلول المعنى في لفظه، أو قل أن الغموض مرجعه إلى أن المرء لم يمهل معانيه أو خوالجه أو إحساساته حتى تصفو مما يخالطها ويعتورها، أو تطرحه عنها، وتخرج منه، ويتسنى لها أن تتخذ ما يبررها ويميزها. أما لماذا يدع المرء الإمهال، فمسالة أخرى، فقد يكون عجولا بطبعه، أو يكون به كسل عقلي، أو تكون المعاني أو الخوالج أدق أو أعوص عليه من أن تحيط بها عبارة، أو يكون قد ركبه الوهم فظن أنه فهم وأدرك، وما أدرك شيئا على وجهه، وما وسعه لهذا أن يعرب، إذ لا إعراب إلا بعد إدراك. أو يكون فاهما ولكنه مغتر أو ذو بطر، كحديث العهد بالنعمة، فيسرف في البيان أو يقصر.
ونعود بعد هذا الاستطراد فنقول إن المعنى لا يمكن أن يحصل أو يتيسر تصوره إلا بلفظه، ومن هنا كان الخطأ في تشبيه اللفظ بالوعاء أو الظرف أو الثوب أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وذلك أن اللفظ ليس شيئا مستقلا عن المعنى، وقائما بذاته، وإنما هو والمعنى كل لا يتجزأ، وليس للمعنى وجود بغير لفظ ولا للفظ بمجرده حقيقة تدرك، وكل ما يقال في الإيجاز والإطناب هراء ما لم يفهما على وجهيهما الصحيحين.
Página desconocida