Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Géneros
ذكرى المازني
1 - أعياد الأمة
2 - أثر الراديو في الموسيقى والتمثيل والأدب
3 - الأدب والجمهور
4 - في الاتجاهات الحديثة
5 - حديث عن الهجرة
6 - مصرع الحسين
7 - الجزيرة والتاريخ الإسلامي
8 - الرأي العام المصري
9 - مبادئ عامة في النقد
Página desconocida
10 - في اللغة
11 - من دروس الحياة
12 - السيد جمال الدين الأفغاني
13 - فائدة هندسية
14 - النحو
15 - القطط
16 - التنكر
17 - بركة «الإمام» ...!
18 - في رأس السنة
19 - في النسيان
Página desconocida
20 - الحظ المعاكس
21 - في الحب..
22 - كلمة عن الشعر
23 - الزواج
24 - حديث مجلس
25 - كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
26 - واجبات الشباب العربي
ذكرى المازني
1 - أعياد الأمة
2 - أثر الراديو في الموسيقى والتمثيل والأدب
Página desconocida
3 - الأدب والجمهور
4 - في الاتجاهات الحديثة
5 - حديث عن الهجرة
6 - مصرع الحسين
7 - الجزيرة والتاريخ الإسلامي
8 - الرأي العام المصري
9 - مبادئ عامة في النقد
10 - في اللغة
11 - من دروس الحياة
12 - السيد جمال الدين الأفغاني
Página desconocida
13 - فائدة هندسية
14 - النحو
15 - القطط
16 - التنكر
17 - بركة «الإمام» ...!
18 - في رأس السنة
19 - في النسيان
20 - الحظ المعاكس
21 - في الحب..
22 - كلمة عن الشعر
Página desconocida
23 - الزواج
24 - حديث مجلس
25 - كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
26 - واجبات الشباب العربي
أحاديث المازني
أحاديث المازني
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
ذكرى المازني
«بعد أن كنت آخذ الآراء من الكتاب أو الناس صرت آخذها من الحياة بلا واسطة وأعرضها على عقلي بلا مؤثر فاعتدت الاستقلال في النظر والحرية في التفكير ... وصار نظري إلى الناس نظرا إلى مادة تدرس.. وتذهب عن الموضوع الصبغة الشخصية فكأني أمتحن نظرية ولست أرى صنع إنسان أساء أو أحسن..».
Página desconocida
هذا ما يقوله الأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني الذي نحتفل اليوم بذكراه الثانية عشر.
وهذا هو المازني الذي نقدمه إلى قراء العربية في يوم ذكراه في كتاب جديد لم يسبق نشره.
لقد أعطى المازني للناس من حياته وقلبه وخلجات فكره مادة غزيرة بأسلوبه الذي تفرد به.
لقد شاءت المصادفات أن يكون تاريخ مولد المازني هو نفس تاريخ وفاته فقد ولد يوم 10 أغسطس سنة 1889م وتوفي يوم 10 أغسطس سنة 1949م. والمازني الساخر لم يرهب الموت بل ودع الحياة بنفس الابتسامة التي واجه بها الحياة.
إن أدب المازني سيظل محفوظا في صدر التاريخ.. وسيظل ثروة لوطنه ولأبناء العروبة.
عبد الواحد الوكيل
مقدمة
بقلم إبراهيم المازني
أترى يرضى كل امرئ عن نفسه.. أحسب أن الجواب نعم، وقد يتمنى ما أوتي سواء من جاه أو مال أو فصاحة أو غير ذلك، ولكنه لا يقبل أن يغير شخصيته، وأن يستبدل بها سواها. ولعل العادة هي السبب، فإن المرء يألف نفسه كما لا يألف شيئا غيرها. والذين قرأوا «جبل الهموم» لأديسون الكاتب الإنجليزي المشهور - أم ترى القصة لغيره وأنا ناس - يذكرون أن الكاتب تصور أن الله أذن مرة للناس في إلقاء ما لا يرضون عنه من خلقهم، فراح كل واحد يلقي ما كره، فهذا يرمي أنفه، وذلك يقذف بأذنيه، وثالث يخلع ساقيه إلخ إلخ حتى عظم الجبل، ثم أمره الله أن يختار كل منهم بديلا مما ألقي. ففعلوا، ولكنهم نظروا بعد ذلك في مراياهم فسخطوا وتذمروا وتوسلوا إلى الله أن يسمح لهم بأن يستردوا ما ألقوا - ولا أعرف أصدق من هذا التصوير لرضى كل امرئ عن نفسه.
وسؤال آخر يخطر لي «أترى مع ذلك يعرف المرء عيوبه أم تخفى عليه» والجواب أني لا ادري، والأرجح أن الإنسان يفطن إلى عيوبه، وإن كانت الفطنة لا تمنع أن يغالط نفسه فيها. وآية هذه الفطنة ما نرى من سعي كل امرئ لتعويض ما يحسه من نقص أو ضعف. على أن الذي أدريه أني أنا لا تخفى علي عيوبي، وأني لأعرفها جميعا وأنكرها وأشمئز منها وأنا راض بما قسم لي الله، ولكني لا أراني أستطيع أن أغضي عما أعرف من عيوبي ونقائصي. وقد سمعت صوتي مرة فاستقبحته، وكانت محطة الإذاعة قد طلبت مني كلمة لمناسبة احتفال نسيت بأي شيء كان. فاعتذرت بأني سأكون مشغولا في وقت الاحتفال، فاقترحوا أن يسجلوا الكلمة على شريط كهربائي، فقبلت. واتفق أن فرغت من الشأن الذي كان يشغلني قبل الوقت المقدور، فعدت إلى البيت وفتحت المذياع، فسمعت كلمتي، فنظرت إلى زوجتي وقلت «هل تعرفين هذا الصوت» قالت وهي تحسبني أمزح «أولا تعرف صوتك» قلت «أعوذ بالله يا امرأة ... أعرف أن صوتي منكر ولكن لا إلى هذا الحد.. يا حفيظ.. ولكن قولي جادة، أهذا هو الصوت الذي تسمعينه منى؟» قالت «لا شك..» قلت «ولكنه في أذني غير ذلك حين أتكلم.. فإذا كان هذا الصوت الذي أسمعه الآن هو صوتي المألوف فإن البكم يكون والله خيرا».
Página desconocida
وأرى وجهي أحيانا في المرآة فأنكره - وأمط له بوزي أيضا - وأنا أعلم أن الجمال لا يطلب في الرجل، ولكن مثل هذا الوجه لا يليق أن يحمله إنسان. ولو كنت أقول الشعر الآن لقلت فيه مثل ما قال الحطيئه في وجهه، بل لقد قلت في وجهي قديما شعرا أذكر منه مطلعه: «أنظر إلى وجهي هذا اللعين
وأحمد على وجهك رب الفنون»
إلخ ...
وما أصبحت يوما على وجهي إلا لقيت ما أكره، ولهذا أتحرى أن أرى أي وجه آخر قبل أن تطالعني هذه السحنة.. وأراني أقتصد في ذم الوجوه الدميمة لفرط شعوري بما «حباني» الله إن صح التعبير بهذا اللفظ. وما وقفت أمام المرآة - لا جزى الله خيرا من اخترعها - إلا ذكرت قول ابن الرومي: «أقصر وعرج
وثقل في واحد»
وأعتقد أن في رواية البيت خطأ، ولكن هذا هو المعنى العام ولا وقت عندي للمراجعة.
ومن المصائب أن ما كان خليقا أن يعد من محاسني ومزاياي هو الذي أقعدني عن الغايات، فإن في حياء شديدا سببه دقة الشعور بالذات، ومن متناقضاتي أني على حيائي أراني في كثير من الأحيان ثقيل الصراحة وهذه الصراحة مرجعها إلى البلاهة - ولا أدري ماذا غيرها - فإني أقول الشيء فأحسبه لا يسوء إنسانا لأن مثله لو قيل لي لما حفلته، وإذا بالدنيا تقوم ولا تقعد وأنا مذهول لا أفهم سبب هذه الثورة، وهذه إما أن تكون بلاهة وإما أن تكون غباء أو شيئا يجري هذا المجرى.
ويطيب لي أن أجالس الفقراء والعامة والأميين وأشباههم، ولا يطيب لي أبدا أن أجالس الأغنياء والأعيان والكبراء أو من يعدهم الناس كبراء، ولاسيما إذا كانوا من ذوي الألقاب فما أعرفني أكره شيئا مثل كراهتي للألقاب، وهي عندي تفقد المرء شخصيته، فيصبح «سعادة الباشا أو البك» بعد أن كان محمدا أو عليا أي شخصا متميزا باسمه الخاص الذي لا يشاركه فيه مشارك، ويصبح واحدا من جماعة بعد أن كان إنسانا قائما بذاته، وتخاطبه فتقول له «يا باشا» وتهمل اسمه، والغريب أن البعض يسره أن يكون باشا أو بك بغير اسم..
وفي الهند طائفة يحقرها بعض الهندوكيين ويعدونها من المنبوذين وأنا لا أحتقر أحدا، ولكن ذوي الألقاب عندي منبوذون - أعني أني أنفر منهم وأكره مجالسهم وأتقي مخالطتهم وأوثر عليهم البسطاء الفقراء بل حتى الجهلاء والأميين، وأرى لي عطفا عليهم وحبا لهم وفهما وإدراكا لأساليب تفكيرهم وسرورا بحديثهم، وإن كان كله تخليطا.
وقلما أطيق المحافل والاجتماعات الكبيرة التي يكثر فيها الناس، والعزلة والاستفراد أحب إلي فإذا كان لابد من الناس فيكونوا اثنين أو ثلاثة أو أربعة على الأكثر على شرط أن يكونوا ممن ألفتهم وإلا شعرت أن على عنقي حبلا يأخذ بمخنقي. وأنا ثرثار ولكني أمام من لا أعرف طويل الصمت نزر الكلام، ولهذا أفر من معرفة الناس لأني أحب أن أثرثر، واغتبط بأن أرى نفسي مرسلة على سجيتها، ولكني لا أستطيع ذلك مع إنسان أنا به حديث العهد.
Página desconocida
وأحسبني من أسوأ الناس ظنا بالناس، وقد تعبت في رياضة نفسي على حسن الظن فلم أفلح، ولهذا لا يخيب لي فيهم أمل. على أن هذا لا يثيرني عليهم لأني لا أزال أسأل نفسي «هل أنت خير منهم» ولا أجد إلا جوابا واحدا هو «لا» بالثلث. ومن طول ما اعتدت محاسبة النفس صرت عظيم التسامح، ومن طول ما وطنت النفس على معاناة الشر والأذى والمتعبات والمنغصات صرت لا يروعني حادث مهما جل. والذين يعرفونني يظنون هذا جلدا ولكنه ليس من الجلد في شيء، وإنما هو ثمرة ما تقرر في نفسي من سوء الظن بالدنيا والناس.
وأنا في العادة أوثر الاحتشام أمام الناس، ولكني حين أكون بين أخواني وخلصائي أطلق لنفسي العنان ولا أبالي ما أقول أو أفعل مادمت أريد أن أقوله أو أفعله ولو وسعني أن أملأ الدنيا سرورا واغتباطا لفعلت ، فإني عظيم الرثاء للخلق، وأحسب أن هذا تعليل ميلي للفكاهة، فإني أتسلى بها وأنشد أن أدخل السرور على قلوب الناس لاعتقادي أن عند كل منهم ما يكفيه من دواعي الأسى. ومادام في الوسع أن نعرض عليهم الناحية المشرقة الضاحكة فلماذا نغمهم ونحزنهم.. ثم إن للفكاهة مزية أخرى هي أنها من أقوى ما أعان على احتمال الحياة ومعناة تكاليفها والنهوض بأعبائها الثقال، فهي ليست هزلا ولا تسلية فارغة، وإنما هي تربية للنفس. والرجل الذي يلقى الحياة بابتسامة المدرك الفاهم - لا الأبله الغافل - خير وأصلح ألف مرة من الذي لا يزال يدير عينيه في جوانبها الحالكة ويندب ويبكي ويعول. ولو نفع السخط والغضب والبكاء لقلنا حسن فلماذا لا ننظر إلى الجانب الوضاء.. أو لماذا نعمى عنه وهو موجود.. أي لماذا نفقد القدرة على الاحتفاظ بالاتزان أو صحة الوزن للأمور؟
لو كان إنسان يستطيع أن يعرف نفسه معرفتها، لكنت أنا خليقا بذلك، فما أنفك أدير عيني فيها وأحاول أن أغوص إلى أعماقها. ولكنه مطلب عسير، وأعترف أني كثيرا ما أفاجأ من نفسي بألغاز تحيرني وتهدم كل ما بنيته من الآراء والنظريات، ومع كثرة الإخفاق وتواليه لا أزال أعتقد أن كل إنسان صورة من غيره، فمن عرف نفسه، فقد عرف الناس جميعا. ولكنه مثال بعيد كما قلت، غير أن مطلبه على بعده جميل فاتن، وقد صار هذا نهجي في الوصول إلى المعرفة، وهو ليس بأشق ولا بأيسر وأسهل من نهج سواي. ولكل امرئ سبيله، وإذا كانت سبيلي تنأى بي عن الناس، فإنهم معي وفي قلبي، ألم يقل الشاعر: «وفيك انطوى العالم الأكبر».
الفصل الأول
أعياد الأمة
لما قال لي إخواني في محطة الإذاعة أنهم يريدون مني أن ألقي كلمة في أعياد الأمة لم أتردد في القبول. مضت أيام وأنا لا أعد الكلام الذي يلقى ولا أفكر في الموضوع الذي رضيت أن أدير عليه حديثي.. وكلما تذكرت وعدي قلت لنفسي على سبيل الاعتذار لها أو عنها إنه لا تزال هناك أيام باقية فلا بأس من هذا الكسل الذي يقضي به الحر، وظللت أجري على عادتي حتى لم يبق إلا أقل ما يكفي. وعادتي هي أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك. ومن الغريب أني إذا سافرت بالقطار أكاد أبيت في المحطة من فرط الحرص على التبكير وعلى ألا يفوتني القطار. ولكني إذا أردت الكتابة لا أتناول القلم إلا في اللحظة الأخيرة. وأحسب أن عملي في الصحافة وضجري منها عوداني ذلك. على أني أؤمن بأن الكسل طبيعي وأنه هو الأصل في الإنسان لأنه راحة ومن ذا الذي يؤثر التعب على الراحة إذا كان له الخيار.. وقاعدتي في حياتي هي أن أخالف ما علمني أساتذتي في المدرسة وكانوا يحثونني عليه من عدم إرجاء الأمر إلى الغد فأنا أرجئ إلى الغد كل ما يسعني إرجاؤه ولا أصنع في يومي إلا ما لا أرى لي حيلة فيه أو وسيلة للهرب منه.
وضاق الوقت بكر الأيام وألح الإخوان أن هات الحديث الموعود فلم يبق لي مفر وقعدت أكتب فإذا رأسي ليس فيها شيء أو أنا لا أحس أنه فيه شيئا فما العمل؟
وتمنيت في تلك اللحظة لو أن في وسع الإنسان أن يتناول رأسه بكفيه وينزعه عن كتفيه ويرفع عنه غطاء العظام وينظر ليعرف ماذا فيه.. ولكن هذا لا سبيل إليه فلابد من وسيلة أخرى للجس والاختبار.. فجردت من نفسي شخصا آخر وجلست أحادثه وأسأله واستخيره فقلت له ما هذه الأعياد التي تتخذها الشعوب. ما داعيها أو فائدتها. قال: أولا راحة لأنها أيام بطالة وخلو من العمل وارتفاع لتكاليفه عن الناس وإعفاء لهم من واجباته.
وفتح لي هذا الجواب البسيط أبوابا كنت أحسها موصدة فقلت لنفسي إن هذا صحيح فإن هذا أول ما يفهمه الإنسان من العيد؟
أنه يوم راحة، والمرء يحتاج إلى فترات يكف فيها عن العمل المألوف ليمتنع الضجر الطبيعي من مزاولة العمل الواحد أو المتشابه يوما بعد يوم بلا انقطاع أو اختلاف، وليستعيد الجسم بعض ما فقده من العمل المتواصل ويستجم فيسترد نشاطه.
Página desconocida
وللراحة مزية أخرى غير تعويض الخسارة البدنية هي الرضى فإن المرهق المكدود لا يكون إلا متسخطا أو في خير الحالات متبرما فمن المصلحة وحسن السياسة وحزم التدبير إعطاء الناس جرعة من الرضى الذي تفيده الراحة بعد فترات معقولة من الكد لا يشقى بها الصبر ومن هنا كانت الراحة من حين إلى حين مكسبا لا تشوبه شبهة خسارة لأصحاب الأعمال وللحكومات أيضا في سياسة الشعوب لأن المرء يعود بعدها أقدر على العمل والنشاط فيه وأحسن إقبالا عليه وأكثر انشراحا ورضى وماذا يطلب أصحاب الأعمال أو حكام الشعوب أحسن من أن يكون الناس راضين مستبشرين.
ومزية أخرى لهذه الأعياد متفرعة على مزية الراحة هي أنها حث على السرور وحض على التماس أسبابه. لأن مجرد القول بأن اليوم يوم راحة معناه انتفاء التعب وهذا وحده مدعاة سرور وبعث اغتباط وأخلق بالمرء وقد علم أنه خلا من المتعبات المألوفة المملولة أن يغريه ذلك بالاستزادة من دواعي الغبطة وحشد كل ما يدخل في وسعه من أسباب السرور في يومه هذا وليس أنفع من السرور للأمم ولا ألزم لها منه لأنه ينعشها ويجددها ويجعلها حسنة الاستعداد للنهوض بما يطلب منها من الأعباء الجسام ويفرض عليها من التكاليف الشاقة.
والأمم التي لا تعرف السرور لا تكاد تقوى على شيء وأي الرجلين يكون أقوى وأجلد وأنفذ في المهمات وأنشط في العمل - الرجل المهموم المكروب المحزون الذي تحنيه وتبريه وتثقله الأشجان، أم الفرح الجذلان الراضي عن الحياة المستبشر بها.
أعتقد أن الثاني هو الأكفأ والأصلح حتى ولو كانت مواهبه أقل وأضعف من مواهب صاحبه المكروب الساخط.
وكذلك الأمم - أكفؤها وأقدرها وأكثرها نجاحا وتوفيقا تلك التي تنشد السرور وتحسن التماس أسبابه وتستمتع بدواعيه وتترك نفسها له في مناسباته. فإن من يعرف سرور الحياة يعرف قيمتها، ويحرص على مطالبها، ولا يقصر في فرائضها، ولا يستكثر ما تتقاضاه من نفسه وجهده، ولكن الذي لا يعرف هذا السرور ماذا تكون قيمة الحياة عنده؟ ولماذا يكلف نفسه شيئا في سبيلها؟ وماذا يبذل لها أكثر من الحد الأدنى من جهده؟ وأين العدل في مطالبته بجهد استثنائي أو بذل فوق حدود الطاقة العادية في سبيل حياة لا يعرف له سرور فيها؟
ومن هنا كانت أقدر الأمم على الجهود الضخمة أو الجبارة كما يقولون في تعابيرهم الحديثة تلك التي تنعم بالحياة وتفوز فيها بحظ واف من السرور. والذي لا يحسن أن يلهو لا يحسن أن يجد. والسرور بعد ذلك هو صمام الأمان.
وقد كان شكسبير حكيما حين جعل قيصر يقول وهو ينظر إلى بعض من حوله من الذين يكبتون عواطفهم ولا يسمحون لشعورهم أن يظهر على وجوههم أنه لا يحب هؤلاء النحاف الصفر الوجوه، وإنه يؤثر عليهم أهل البدانة والطلاقة والبشر وليست هذه عبارته بحروفها ولكنه معناها وقد كان يعني أن هؤلاء الصفر الضاوين هم الذين تخشى مكائدهم وتدابيرهم ومؤامراتهم، أما الراضون عن الحياة المقبلون عليها الناعمون بالعيش، فهؤلاء يمكن أن يأمن المرء جانبهم، لأن الكبت يشيع النقمة والنقمة تغري بالانتقام وتجري الخواطر في مجار غير مأمونة. وقد كان هؤلاء الذين خافهم قيصر وتوجس منهم ولم يرتح إلى وجوههم هم الذين ائتمروا به فصح رأيه فيهم. والسرور صراحة، والصراحة تؤمن ولا يخشى شر منها وإن كانت تزعج أحيانا وتربك. أما الوجوم فستار يخفي وراءه ما لا علم به لأحد ويدور تحته في النفس ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه والحذر منه.
وأحسب أن قد آن أن تكون لمصر أعياد تسر فيها وتفرح وترسل نفسها على السجية بلا تكلف أو اتقاء لذم الخروج عن مألوف الاحتشام المتكلف والوقار المستعار، الذي لا يعد من الوقار في شيء إذا أردت الحق وإنما هو ثوب من البلادة.
وقد كانت أكثر أعيادنا إلى ما قبل هذا العهد مقرونة في الذهن بالموت وما إليه من المعاني.
وأذكر أني في حداثتي ما قضيت عيدا إلا في المقابر ومن التناقض العجيب أني كنت ألبس الجديد من الثياب في أيام العيد التي لا ملعب لي فيها غير ما بين القبور من مسافات وأبعاد . ولم يكن يسعني إلا أن أشعر أن هذه المقابر وأن اللعب بينها والفرح غير لائقين فكنت أشعر بفتور طبيعي فأكف غير راض. ولا داعي للخوض في الأسباب التي قرنت الأعياد عندنا على هذا النحو بالقبور وساكنيها فإن الحديث في هذا يطول. وقد جاء العهد الحديث بأعياد لم يكن لها فيما مضى وجود أو داع.
Página desconocida
ولا بأس بكثرة هذه الأعياد بل إن كثرتها هي التي تجعل لها معنى وتكسبها الدلالة المنشودة. ولا أحتاج أن أقول أن هذه الأعياد ليست للحكومة التي تقررها وإنما هي للشعب.
نعم إن الحكومة تكف عن العمل في هذه الأيام فتغلق دواوينها ويرتاح موظفوها ولكن هذا ليس هو المقصود بالتعييد وإن كان لا مفر منه، وإنما المقصود بالتعييد هو الشعب. هو الذي يراد الخير له بهذه الراحة وبما هو خليق أن يفوز به فيها من السرور، وهو الذي يراد منه أن يفهم معنى العيد وأن يتأثر بهذا المعنى ويجعل له شأنا في حياته.
لقد عاشت الأمة زمنا طويلا وهي لا تعرف أن لها شأنا في الحياة أكثر من السعي وراء الرزق والتماس وجوه العيش الفردي، ولم تكن للجماعة المصرية وجود ولا للحكومة صلة بهذه الجماعة. وكانت الحكومة لا تحس أنها من الأمة والأمة لا تحس أن الحكومة لها.
هذه الأعياد صفحات في تاريخ الأمة ومراحل في طريقها الذي سلكته إلى غايتها أو على الأصح معالم في مراحل الطريق والأمم عبارة عن أجيال متعاقبة.
فإذا قلنا أن هذه الأعياد تذكير بأيام السعي وأيام القطاف فلسنا نخطئ. وإذا قلنا إنها دروس شعبية تتلقاها الأمة بين مظاهر السرور في تاريخها فلسنا نخطئ أيضا. وشبيه بذلك مع الفارق بطبيعة الحال أن تكون مدرسا فتجمع أطفالك وتقول لهم سنذهب غدا نتنزه في القناطر الخيرية مثلا. ثم يجيء الغد فتصحبهم إلى هذه القناطر التي لم يسمعوا بها والتي لا يحدث اسمها في أذهانهم الصغيرة أي معنى أو صورة وتركبهم القطار أو الباخرة فيعرفون بالتجربة ما القطار أو ما الباخرة ثم تمر بهم على القناطر فيرون ماء النيل تحتها والبوابات المجعولة لحجز الماء أو إطلاقه وتستطيع وأنت تريهم هذا وتدعهم يستمتعون به أن تعرفهم ما القناطر وما داعيها والحاجة إلهيا ومن أنشأها بعبارة قريبة المتناول سهلة الورود على النفس ثم تخرج إلى البساتين الواسعة والرياض الجميلة فيلعبون وينطون ويضحكون ولا تعدم مع ذلك فرصا كثيرة تعرفهم فيها بعض ما ترى أن يعرفوه عن الزروع وعن الحاجة إلى البساتين العامة لرياضة الشعب وتجميل حياته. وتكون هذه نزهة حقيقية نعم بها الأطفال وعادوا منها فرحين جذلين ولكنها تكون كذلك دروسا شتى نافعة تلقوها وهم لا يشعرون ولهذا تكون خير الدروس وأجداها عليهم وأبقاها أثرا في نفوسهم. وقد ينسون كل ما نعلمهم من الحساب والجغرافيا واللغتين العربية والإنجليزية وغير ذلك من العلوم والمعارف ولكنهم لا يمكن أن ينسوا القناطر والنيل والبساتين التي نعموا برؤيتها واللعب السعيد فيها وما اغتنمت الفرصة لتلقينهم إياه وهم ساهون يحسبون أنك تكلمهم كلاما عاديا ليس المقصود به أن يحفظوه ويعوه وإنما المقصود به أن يتسلوا به ويقضوا الوقت.
وكذلك أرى هذه الأعياد دروسا شعبية عامة تلقي على أجيال الأمة وهي فرحة مسرورة بالراحة وبما حرصت عليه من أسباب المتعة والسرور في أيامها.
الفصل الثاني
أثر الراديو في الموسيقى والتمثيل والأدب
الإخلاص شرط جوهري للأديب
أستأذن السامعين الأفاضل - إذا كان هناك من يعني بالاستماع وشكي في ذلك غير يسير - في كلمة وجيز إلا أنها مخلصة، أحيي فيها شعب العراق الشقيق.
Página desconocida
وبعد فقد كنت في القاهرة قبل أيام وإني لهنا الآن إلى أيام ومررت في طريقي بدمشق عاصمة الأمويين فمن هم الأمويون والعباسيون والفاطميون؟ أحسب أني لا أخطأ جدا إذا أنا أغضيت عما كان بينهم من تفاوت ورددتهم إلى أرومة واحدة وأصل لا يتعدد أو يتجزأ هو العروبة التي نمتنا جميعا وامتددنا منها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فتفرعنا عليها في كل اتجاه ولست مبالغا أو مؤثرا للمجاملة حين أقول أني لأشعر وأنا في بغداد إلا كأني في القاهرة وبين أهلي وقومي وليت أهلي يترفقون بي ويحتفون كما أراكم تفعلون إذا لعادت الحياة أطيب وأمتع.
وكان أول ما جرى في الخاطر أن أتحدث إليكم في الأدب المصري الحديث فإنه موضوع كنت أحسبني أدري به من سوانا وكان أكبر ظني أني سأعرفكم ما تجهلون غير أني عدلت وآثرت السلامة فما كدت أجالس بعض رجالكم وشبابكم حتى أدركت أني جاهل بهذا الذي كنت أتوهم أني به عالم.
فقد كانوا يذكرون لي كتابا وشعراء وكتبا حديثة من شتى الموضوعات ما سمعت بهم ولا بها حتى ليخيل إلى أني من أهل الكهف الذين لبثوا في كهفهم سنين لا يعلم عدتها إلا الله ثم فتحوا عيونهم على دنيا غير التي شبوا وشابوا بها فكنت أتلجلج وأتلعثم وأهرب من الجواب الصريح وأحاول أن أعدل بالكلام إلى موضوع آخر غير هذا الذي لا يقبل مني الاعتذار بجهله.
وسمعت فيما سمعت أن أهل العراق يعرفون أدباء مصر من أصواتهم فقلت لنفسي (قاتل الله هذا الراديو) وذهبت أفكر في الراديو وأثره في الآداب والفنون أو بعضها على الأقل مثل الموسيقى والتمثيل. واستطردت من هذا التقريب بين الأمم المبعثرة على رقعة الأرض إلى ما هو أبعد أثرا وأمس بالأصول والجوهر ورحت أتساءل.
أترى الأدب والموسيقى قد اختلفا - أو يوشك أن يختلفا - في عصر الراديو عما كانا من قبل؟ يبدو لي أن الجواب يستوجب تصور الحالين فماذا كانت الحال قبل عصر الراديو؟ كان الموسيقي يعزف للجمهور أو يغنيه؟ وهو يسمع ويرى فكان عليه أن يجعل باله إلى ما يتبين من وقع الأصوات في نفوس السامعين وكان من السهل أن يعرف ذلك من تصفيقهم أو آهات الاستحسان التي تند عنهم، أو طلب الإعادة، أو غير ذلك من مظاهر الطرب مرئية ومسموعة فكان بينه وبين السامعين تفاعل وتجاوب هو يؤثر فيهم بأصواته وهم يؤثرون فيه بما يأخذهم من هزة الطرب أو ما يعروهم من فتور الاستهجان فيضطر إلى مسايرتهم، ويروح يدور من ورائهم طالبا رضاهم، محاولا أن يستولي على هواهم فهو يبدو حرا فيما يصنع من أصوات ويصوغ من ألحان ويصور من أنغام ولكن الجمهور يكرهه - إذا لم يطب له السماع - عل التغيير والتبديل والتصرف حتى يبلغ من ذلك مناه إذا كان هذا مما يدخل في وسعه.
ومن هنا كان أهل الموسيقى يتوسعون في الاستعداد ويتوفرون على اتخاذ الأهبة لمواجهة الجمهور على سبيل الاحتياط أو يروضون أنفسهم على الارتجال وهو صعب ولكنه ليس بالمستحيل إذا كان الموسيقي ذا ملكة مواتية وسجية مسعفة أو طبع ملهم، أما الآن فالموسيقى المذاعة ينقصها عنصر الجمهور المشهود المحشود. وصحيح أن العازف أو المغني يتخيل الجمهور ولكن الخيال غير الحقيقة ووقعهما متفاوت، ولا سبيل على كل حال إلى تبين ما يجده السامعون لأنهم ليسوا هناك. الوقت أيضا محدود فلا معدى عن جعل الصوت أو اللحن على قدر الزمن المضروب - فالموسيقي إذن يستعرض أمورا أولها مسافة الزمن وثانيها أن صوغ اللحن بحيث يجيء مع مطابقته لمقتضيات الفن، موافقا في تقديره هو لهوى الجمهور وثالثها أن أعفى عند العزف أو الغناء من المفاجآت فلا حاجة به إلى غير ما صور من نغم ولا موجب للاستعداد بشيء آخر يدخر لوقت الحاجة ولا اضطرار إلى تكلف الارتجال. وفي وسع الموسيقي إذن أن يحرص على وحدة الموضوع ومطالب الفن وأحكامه، ولكنه من جهة أخرى غير ذي صلة مباشرة بالجمهور فمن السهل جدا أن تنأى الموسيقى من جراء ذلك عن المزاج أو الذوق العام ولاسيما إذا اقترن احتجاب الموسيقي عن جمهوره بالرغبة في التنويع الذي هو مطلب كل إذاعة لاسلكية اتقاء للملل ونفيا للضجر، إغراء للجمهور بالإقبال على الاستماع. والتنويع مطلب الموسيقي أيضا حتى لا يظل فنه على غرار واحد لا يختلف إلا قليلا، فإذا لم يكن متمكنا من فنه غاية التمكن ومعتزا به وحريصا على صبغته وذا ثقة بنفسه أيضا، وكانت غايته إرضاء الجمهور ليس إلا فإنه خليق في هذه الحالة أن يجنح إلى التقليد والاقتباس من موسيقى الأمم الأخرى فتجيء موسيقاه خليطا أو رقعا شتى كثياب المتسولين، وليست لها صبغة خاصة، أو طابع معروف أو سمة تتميز بها أو لون معهود أو طعم مألوف - إذا جاز استعمال لفظ الطعم في هذا المقام - وتعود لا هي شرقية ولا هي غربية وإنما هي أشبه بقول ابن الرومي في شاعر كثير الغلط يجعل قوافيه شتى في القصيدة الواحدة:
يحشد القافات واللامات
والميمات حشدا
مثل ما ضمت سبيل
من صنوف الناس وفدا
Página desconocida
وليس هذا الذي أصفه تخيلا فإنه هو الحاصل عندنا مع الأسف.
وأنتقل الآن إلى التمثيل، عذري في الإيجاز، أن المقام لا يتسع للإسهاب والتبسط في الكلام، فأقول إن التمثيل قوامه ثلاثة أمور، الموضوع أولا، ثم الأداء أي الإلقاء وتمثيل الشخصيات ثانيا، ثم المناظر ثالثا. فأما الموضوع. فإن أثر الإذاعة فيه أنها جنحت به إلى الإيجاز والتركيز، لأن هم الإذاعة، كما أسلفت التنويع، فهي لا تستطيع أن تهب وقتها كله لرواية تذاع فلابد من الاكتفاء من الكلام بأقل قدر، دون أن يفسد الموضوع أو يغمض فلا محل للحشو وما يجري مجراه، واللمحات الدالة خير من التبسط الذي يضيع الوقت وهذه هي نزعة العصر الحاضر في كل باب - أعني السرعة والاقتصار على ألزم ما يلزم، ولا أظن أن في هذا خسارة أو جناية على الأدب أو القصة، بل رأيي أن العكس هو الصحيح - أي أن تفصيل الألفاظ على قدود المعاني والعبارة عنها ما يكفي في أدائها بغير زيادة، خير من جهتين الأولى أن هذا اقتصاد محمود وإهمال واجب للثرثرة الفارغة التي لا محصول وراءها، والثانية أن هذا يعود القارئ أو السامع أن يكد ذهنه وينفي عنه الكسل العقلي، فلا يعود يعتمد على أن الكاتب أو القائل يبسط له المعنى أو الموضوع بسطا وافيا شافيا كأنه يشرح درسا لتلميذ جاهل.
وفي الإذاعة يستغنى عن الفترات التي تكون بين الفصول لإعداد المناظر وهذا ينشط خيال السامع ويعوده الوثب والانتقال بسرعة مع فصول الرواية، ولما كانت المناظر لا سبيل إليها إلى الآن، ولن يتيسر عرضها إلا بعد أن يشيع استعمال التلفزيون فإن على السامع أن يتخيل هذه أيضا أو يكتفي بوصفها ويروح هو يصورها لنفسه، وليس السماع كالمعاينة ولكن فضل السماع أنه يستحث الخيال فيقوي هذه الملكة وينميها ومازال أنفع للقارئ أو السامع أن يعمل فكره وأن لا يكون كل عمله أن يقنع بالتلقي دون أن يحتاج إلى جهد يبذله من ذات نفسه فخير الأدب ما دعاك إلى التفكير والتدبير، وأحوجك إلى احتثاث خيالك وخير آيات الفنون على اختلافها من موسيقى وتصوير وغير ذلك ما أيقظ عقلك وحرك نفسك وابتعث رقادك أما ما يتركك كما كنت، جامدا أو مسترخيا متفترا، ولا يشعرك بحاجة إلى تخيل أو تأمل فهذا لا خير فيه ولا عناء له.
وأما الأدب من شعر ونثر فكان عهدنا به أنه ينشر ليقرأ وقلما كان يلقى إلقاء إلا في المحافل أو المناسبات العامة. وفرصة التدبر عند القراءة أوسع وأرحب منها عند السماع، والوزن من أجل ذلك يكون أضبط، والنقد أدق، والتقدير أصح. ومازال الأدباء ينشرون ما يكتبون أو ينظمون فالحال لم تختلف من هذه الجهة، بيد أن الإذاعة جاءت بعاملين جديدين هما الإلقاء ومراعاة الزمن المحدود. فأما الإلقاء فعامل سيء الأثر لأن من يحسنه يسعه أن يعول عليه في التأثير في السامعين فيخدعهم بجودة الإلقاء ويغالطهم في القيمة الحقيقية لما يسمعهم من نثر أو شعر، ومما هو من هذا بسبيل أن الإذاعة ليست للخاصة وحدهم والمثقفين دون غيرهم وأهل العلم والرأي بمجردهم، بل للجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وهو خليط من طبقات متفاوتة تفاوتا عظيما ففيها الخاصة والعامة والمتعلمون وأنصاف المتعلمين والأميون وأشباههم والجهلة أو من في حكمهم هم الأكثرون، وقد تكون عناية هؤلاء بالاستماع إلى ما يذاع أعظم من عناية الخاصة إلا إذا كان الموضوع يعنيهم، أو كان المتحدث من ذوي الشهرة أو ممن ترجى الاستفادة منه ومن هنا يميل الأدب المذاع إلى تناول ما هو أقرب إلى الإفهام وأدنى إلى الإدراك وأخلق بأن يكون مرغوبا فيه، مرضيا عنه مقبولا من الجمهور على العموم فلا تعويص ولا عمق، ولا تناول لما يعسر فهمه فالموضوعات سهلة قريبة المنال، وليس بالنادر أن تكون من ذلك الضرب الذي هو أسرع تحريكا للنفوس. واللغة أيضا، الأغلب فيها أن تكون أشبه بلغة الجرائد منها بلغة الأدب. وهذا وحده من شر العوامل وأضرها بالأدب لأن الأدب رسالة وليس بتجارة ومن غاياته رفع النفوس والسمو بها وترحيب آفاقها وتعميق مشاعرها وليس من حقه ولا مما ينفعه أو ينفع الناس أن ينحط إلى مستوى الأواسط أو من هم دونهم أو أن يتوجه إلى الغرائز الساذجة التي لم يصقلها العلم والفهم والعقل.
وأما عامل الوقت فأراه محمود الأثر في الأدب والموسيقى والتمثيل على السواء لأنه كما أسلفت يعود المتحدث والسامعين جميعا الاقتصار على الجوهر والاستغناء عن اللت والعجن ويدرب السامعين على استعمال عقولهم.
على أنه لا خوف على العموم من أن تسيء الإذاعة إلى الأدب وتضر به لأن الأديب المخلص أو الموهوب لا يستطيع أن يخون فنه أو يستخف به وهو لا غنى به عن النشر، لأن ما يذاع يذهب مع الرياح الأربع، أما ما ينشر فيبقى إذا كان فيه ما يؤهله للبقاء. غير أنه يمكن أن يقال من ناحية أخرى أن الإذاعة أجلب للشهرة وانتشار الصيت إلى حيث لا يطمع المرء أن يصل كتبه، والشهرة مع الأسف بلاء وداء عياء، وهي طلبة كل إنسان، وإن أبدى الزهد فيها والعزوف والإعراض عنها ولعل الذي يظهر الصد عنها أطلب لها في قرارة نفسه ممن يبغيها علانية. والإنسان طينه خرع ضعيف، وكم أغرت الرغبة في الشهرة بما تنهي الحكمة ويزجر العقل عنه. وكل ما يمكن أن يطمئننا من هذه الجهة هو أن إخلاص الأديب المطبوع خليق أن يكبحه عن التضحية بأدبه من أجل الشهرة العاجلة. وأقول إخلاص الأديب، لأن الإخلاص شرط جوهري وإلا انقلب فنه صناعة، وحاله تجارة، بل هو شرط أيضا للعالم والسياسي والمصلح. وكل من ينشد الخير للجماعة وما أدري كيف كانت الدنيا خليقة أن تكون لولا إخلاص فئة قليلة من الأدباء والعلماء والحكام والقادة. والإخلاص لا يخلو من تضحية، والتضحية من جانب القلة المخلصة هي التي يسرت للعالم أن يبلغ المرتبة الحاضرة وهي التي ستأخذ بيده، على مراتب أخرى أسمى وأكرم.
1
الفصل الثالث
الأدب والجمهور
كان الأمير أو الوزير أو الثري الغني الوجيه في قومه هو الذي عليه معول الأديب في الزمن الغابر، ينظم فيه شعره ويقصد به إليه، أو يؤلف له أو بأمره الكتب، وكان مقياس النجاح مبلغ ما يظفر به الشاعر أو الكاتب من حظوة ونعمة وقبول عند صاحب السلطان أو المال.
Página desconocida
كان هذا هو الأغلب والأعم، وقد بقي منه شيء إلى أيامنا هذه، فكان شوقي شاعر الأمير وكان حافظ يلوذ بطائفة من أهل السماحة والوجاهة والندى، وكان مصطفى صادق الرافعي يطمح أن يكون شاعر القصر في عهد الملك فؤاد، كما كان عبد الحليم الحصري يسعى ليخلف شوقي في إبان الحرب الماضية، وكان خليل مطران - وهو من شيوخ التجديد في الأدب وأستاذ شوقي - ينظم القصائد يحيي بها والدة الخديو عباس لا استجداء بل بدافع من الوفاء وباعث من مروءة النفس.
ومازال لنا ولوع بتلقيب الشعراء. فشوقي كان أمير الشعراء، وكان حافظ يسمى شاعر النيل، وما انفك مطران يدعى شاعر القطرين وقد سمعنا بشاعر الأهرام، وبدأنا نسمع بشاعر العروبة. ويرجع حب التلقيب إلى أمرين فيما أرى: ما ورثناه من عادة الاتصال باسم له شأن، والمعهود في شرقنا من حب الألقاب وما يجري مجراها، وكل ما في الأمر أن الانتساب صار إلى غير الأشخاص. وقد كان هذا بداية التطور الذي انتهى بحلول الجمهور محل الأمراء والأغنياء. فما لقولهم شاعر النيل مثلا من معنى إلا أن أبناء وادي النيل يعدونه شاعرهم الذي ينطق بلسانهم ويعبر عما في نفوسهم، أو لقولهم أن مطران شاعر القطرين من مدلول سوى أن أبناء القطرين - مصر ولبنان - مجمعون على توقيره وتعظيمه وتقديمه. وهكذا ...
وقد كان من الطبيعي أن يحدث هذا التطور الذي أحل الجمهور محل ذوي السلطان أو المال، وأسبابه كثيرة أذكر منها على سبيل المثال ظهور الطباعة، فصار في وسع الشاعر أو الكاتب أن ينشر شعره أو تواليفه على الملأ ولا يخص بها واحدا، ومتى أذعت على الناس كلاما فأنت مضطر أن تخرج به من الخصوص إلى العموم، أي أن تجعله مما يعنيهم جميعا وما يعقل أن تكون لهم مشاركة فيه. وإلا فما حاجتهم إليه.
ثم إن التعليم ينتشر، وهو والطباعة يسيران معا، والمتعلم أقدر على النقد والتمييز والموازنة وأطلب للاستفادة من الجاهل، والطباعة والتعليم يخلقان التنافس بين الأدباء، والتنافس يدعو إلى التجويد وإخراج كل ما عند المرء من قدرة، وإلى الافتنان والتنويع، فيصبح المرء كالجواد الأصيل كلما ذهب منه إحضار جاء إحضار.
ومن العسير مع ذيوع التعليم والإقبال على الاطلاع أن يقنع الجمهور باقتصار الشعر مثلا على المدح والرثاء والهجاء والعتاب وما إلى ذلك من الأغراض القديمة، بل من العسير أن يحتفظ الشعر بمنزلته القديمة، وتظل له مكانته الأولى يستأثر بها وينفرد على نحو ما كان يفعل في العصور الماضية، ولهذا طغى النثر على الشعر في هذا الزمان، لأن مجال الكاتب أوسع، وهو أكثر حرية وأقدر على البيان وعلى الدخول فيما لا يدخل فيه الشعر، أو يستطيع تناوله من الأغراض، يضاف إلى هذا كله أن الأمة صار لها شأن ومعنى لم يكونا لها من قبل، وصارت هي صاحبة السلطان، والتي إليها مرد الأمور، ولم يعد الأمير أو الوزير أو الغني هو الذي يسعه أن يشد أزر الشاعر أو الكاتب أو يرزقه القبول بين الناس، ففي وسع الأديب أن يتخلى لفنه الذي يؤثره، وأن ينصرف إلى تجويده. ثم يطرحه على الجمهور، وينتظر حكمه ورأيه، وهو واثق أنه لن يعدم منصفا، وأنه سينال حقه من التقدير من فريق منه إذا لم ينله من كل فريق.
وليس ثم في الحقيقة غمط أو غبن. لأن الجمهور ليس كله من طبقة واحدة، وليس من المعقول أن يوافق الكتاب أو الديوان كل فرد أو طبقة، فإن الناس ليسوا سواء في العلم والفهم والذوق والمزاج، وما من كتاب أو ديوان إلا وهو يجد قبولا من طائفة ونفورا من طائفة أو طوائف أخرى، لأنه قد يدق عن أفهامها، أو يغمض عليها أو ينافي ذوقها أو مزاجها، أو يصدم آراءها وما شبت ونبتت عليه من عادات أو معتقدات أو غير ذلك.
فكل أديب يفوز بحظه المعقول من القبول، ولما كان الجمهور يتغير من جيل إلى جيل، وتختلف نظرته تبعا لذلك، ويزداد علمه وفهمه، ويتفاوت ذوقه، فإن الذي يرضى عنه الناس في زمن قد يسخطون عليه في زمن آخر، والذي يعرضون عنه في جيل قد يقبلون عليه في جيل آخر، وشواهد ذلك كثيرة في كل عصر ومصر.
وإنه لمن دواعي الأسف أن يحرم الأديب حقه في حياته، وأن لا ينصفه الناس إلا بعد فوات الأوان، ولكنه لا حيلة في هذا إلا أن ينال كل فرد من أفراد الجماعة حظا كافيا من التعليم فيتسنى أن ينال كل أديب ما هو جدير به.
وإذا كان في وسع الأديب في زماننا أن يتفرغ لفنه ويتوجه به إلى الجمهور، ويستغني عن ذوي السلطان أو المال، ولا يمني نفسه بالطمع في مؤازرتهم، ولا يبالي أأنصفوه أم غبنوه. وكان هذا التطور أعون على التجويد والإخلاص فإن هذه المزية يقابلها شر ليس من الهين اتقاؤه في كل حال. وأعني به مصانعة الجمهور وتحري ما يوافقه ويرضى عنه ويتقبله بقبول حسن.
وكما أن الشاعر القديم كان يقصد إلى ذي الجاه أو المال أو السلطان فيمدحه ويسرف ويبالغ تملقا ونفاقا، واستدرارا لنواله، كذلك الأديب في هذا العصر قد يغريه طلب الرواج والإقبال بتملق الجمهور، فقد صار هو الذي يعطي ويمنع، ويفيد الأديب الغنى والجاه والمجد أو يضن بذلك عليه، وكل أديب طالب شهرة، ما في هذا في شك، والشهرة غاية ووسيلة في آن معا، هي غاية لأنها حال تنعم بها النفس وفيها عزاء كاف للمرء حتى إذا حرم طيبات الحياة. والشهرة هي الذكر، والذكر باب الخلود المرجو لاسم الإنسان المقضي عليه بالفناء والإنسان يتعزى بهذا الذكر لما يعلم علم اليقين أنه لا مفر من الموت. ولكنها أيضا وسيلة إلى ما يتطلع إليه كل إنسان من نعيم الحياة وطيب العيش ورغده.
Página desconocida
وقد يستطيع الأديب أن يزهد في الشهرة وما تتيحه وتيسره إذا لم تجيء إلا بمجافاة الإخلاص، وصدق السريرة، وخيانة أمانة الفن، ومصانعة الجمهور وتملق آرائه ونزعاته وغرائزه الساذجة ومزاجه، وما إلى ذلك، وقد يكون من قوة الإرادة وسمو الروح وصلابة العود بحيث يستطيع أن يقهر نفسه ويصدها ويزجرها عن طلب الشهرة والحياة الرخية من هذا الطريق الهين، ولكنه قد يكون اشتهاؤه أقوى من إرادته، أو يكون في حال تقصره على التسهل والترخص أو تدفعه المنافسة إلى طلب التفوق بأية وسيلة، أو يغالط نفسه فيزعم أنه يداور الجمهور ويحتال عليه كما يحتال الطبيب على المريض بحلاوة طعم الدواء ويسايره قليلا أو كثيرا ليطمئنه ويدفعه إلى الإقبال ثم يعود فيدور به إلى حيث يريد.
ومهما يكن الباعث على الترخص فإنه مفسدة للأدب. فإن شرط الأدب الأول هو الإخلاص وصدق السريرة، ولا إخلاص مع المصانعة والمداهنة والملق، وإذا فقد الأدب الإخلاص فقد أهم عنصر، والإنسان يحترم القوة التي يكون مبعثها الإخلاص، وقد تروعه في البداية وتصدمه وتنفره. ولكنه لا يلبث متى تبين الإخلاص أن يقبل بعد النفور وأن يتشيع في نفسه الإكبار والتبجيل.
وقد يطول الأمر. وتبطئ الجمهور على الأديب. ولكن كل شيء يحتاج إلى زمن يؤتي ثمرته.
وأنت تغرس البذرة في الأرض فلا تصبح شجرة بين صباح ومساء، وتربة النفوس أيضا تحتاج إلى زمن حتى تنشق فيها البذرة ويمتد منها ما يكون جذورا معرقة، ثم تخرج لها ساق يذهب في الجو ويتفرع عليه الأغصان وتورق وتنور وتثمر. ومازال صحيحا أن في العجلة الندامة والذي يستعجل الشهرة خليق أن يفوته ما هو أولى منها بالحرص عليه وأعنى به المجد الأدبي الصحيح.
الفصل الرابع
في الاتجاهات الحديثة
في النثر العربي بمصر
الاتجاهات الحديث في النثر العربي بمصر موضوع واسع لا أستطيع أن ألم بأطرافه في حديث أو اثنين ولست أقول هذا على سبيل الاعتذار أو من قبيل التواضع أو لستر العجز بل أقوله بيانا للواقع ولأني أنوي - لضيق الوقت - أن أقتصر على الذي هو أوضح وأبرز وأود أن أنبه في فاتحة الكلام إلى أن قولنا «الاتجاهات الحديثة» ليس معناه أنها بنت اليوم أو الأمس ولعل هذه الاتجاهات إنما وضحت وبانت في السنوات الأخيرة وكانت بداياتها قبل نصف قرن وزيادة. وعسى أن تكون هناك بدايات أخرى لاتجاهات جديدة لا نتبينها الآن ولابد من مرور زمن طويل قبل أن نكون من أمرها على يقين كالطفل تراه فلا تستطيع أن تعرف ماذا سيكون بعد أن يبلغ مبالغ الرجال وهل يكون طبيبا مثلا أو مهندسا أو من رجال الدين أو القانون أو صانعا أو غير ذلك.
ويجب أن يكون مفهوما ومقررا في الأذهان أن الأدب كائن حي خاضع لنواميس الطبيعة وسنن الحياة وقوانينها ككل مخلوق من حيوان ونبات وأن له على ذلك تاريخ حياة وله طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة وإذا نحن لم ننظر إليه هذه النظرة فلسنا نستطيع أن نفهمه فهما صحيحا ولا أن ندرسه درسا مفيدا. وكلنا يعرف مثلا أن الشجرة لا تنبت في يوم ولا تظهر بأغصانها وأوراقها وثمارها بين يوم وليلة ولكن منا من يتوهم أن الأدب يمكن أني تحدث فيه هذه المعجزة التي تحدث في خلق آخر. وكلنا يعرف أن البذرة التي تضعها في التربة أو العود الذي تغرسه في الأرض يحتاج إلى ما يتغذى به ويقوى ويحتاج إلى العناية والتعهد وإلى التقليم والتشذيب وأحيانا إلى التطعيم والتلقيح وكذلك الأدب وليس يخفى على أحد منا أن الشجرة المهملة غير الشجرة التي وجدت من يسقيها ويسمدها ويرعاها ويوفر لها أسبابا الحياة ويساعدها على الازدهار والإثمار. وكذلك الحال في الأدب بل في كل شيء. وأنا أحب أن أؤكد هذا المعنى وأقرره فإن كل فهم للأدب يكون خطأ محضا وضلالا صرفا إذا لم نعتبره كائنا حيا تجري عليه سنن الخلق جميعا بلا استثناء.
ونعود إلى موضوعنا الذي استطردت عنه فأقول أن الأدب كهذه الشجرة التي ضربنا بها المثل - له أرومة أي أصل في جوف الأرض ثم تنبت له ساق تسمو بنفسها صعدا وتستغني بنفسها عن غيرها أو لا تستغني وتحتاج أو لا تحتاج إلى ما تتعلق به وترقى فيه ثم تتشعب من هذا الساق أغصان دقاق وغلاظ ثم يخرج من هذه الورق ثم ينور إذا كان مما ينور وثمر إذا كان مما يثمر.
Página desconocida
والشجر يخرج من الأرض فهي تربته أما الأدب فتربته هي الحياة نفسها - الحياة الإنسانية في جملتها وتفصيلها. وكما أن التربة لها أثر في تكوين الشجرة وقوتها ومبلغ صلاحها. كذلك حياة الجماعة وعاداتها وتقاليدها وألوان تفكيرها ودرجة تهذيبها ومبلغ تثقف عقولها ونفوسها أثر في الأدب الذي يخرج منها وينبت فيها. وكما أن الأرض القوية تخرج نباتا قويا حتى بغير عناية كبيرة من الإنسان كذلك الجماعة الإنسانية القوية وإن كانت ساذجة يمكن أن يظهر فيها أدب قوي فطري لا تقلل قيمته نقص الثقافة الخاصة وكما أن الشجرة في الأرض الضعيفة يمكن أن تجد مما يهدي إليها العلم عوضا عما ينقصها من الأرض كذلك الأدب يستفيد من الثقافة ما يعوض نقص عوامل القوة في التربة التي نشأ فيها.
وهنا ندع مثل الشجرة لأنها غير مدركة - ولا الأرض - لما هو حاصل. أما الأدب فصادر عن إدراك وإن لم يكن في بعض الحالات صادرا عن «وعي» تام. ونأخذ في تشبيه آخر. ولكل تشبيه عيبه ولكنه يعين على الفهم والتبسيط. فنقول إن الإنسان في طفولته يكون في الأغلب والأعم مغرى باللعب والعبث وبالزينة والمنظر والرونق وما إلى ذلك أكثر مما هو مغري بالجد والفائدة. والطفل لا يعرف نفسه معرفة صحيحة. وهو يعرف أن له أبوين وقد يعرف أن له جدين أو جدودا ولكنه ربما كان لا يعرف كيف انحدر من هؤلاء جميعا. ثم يشب ويكبر فيزداد معرف بنفسه وقد لا يسلم من العبث ولكنه يكون في شبابه أكثر نظرا وأصح فطنة وأطلب للجد من الأمور. ويزداد نضجا مع ارتفاع السن واتساع التجربة والمعرفة ويزداد نظره بعدا وعمقا وتصبح صلته بالحياة حوله أوثق والميزان على العموم أكثر اعتدالا وليس من الضروري أن يكون الكهل أصدق نظرا في الحياة من الشاب فقد يؤتى الشاب ما لا يؤتاه الكبير العارف المجرب من استقامة النظرة وقوة الفطنة وحسن الإدراك بالفطرة والاستعداد. ومن الناس من ينضج قبل الأوان وهذا لا حكم له لأنه من الشاذ ولا قاعدة تجري عليه وتضبطه.
ولا نظن أننا نخطئ كثيرا إذا شبهنا تطور الأدب في الأمة - على العموم والجملة - بحياة الإنسان وتطورها من الطفولة إلى الكهولة الناضجة ثم الشيخوخة الضعيفة الفاترة ففي الطفولة يكون الأدب أقرب إلى الزينة والعبث ثم يشب ويترعرع ويقوى وتتدفق فيه الحياة القوية ولا يخلو في هذه الفترة من اندفاع واجتراء ولف وشطط ولكن هذه هي طبيعة الشباب. وفي هذا الطور يشرع الأدب في معرفة نفسه ودرس أصوله ولا يمنعه هذا التلفت إلى الأصول من الجري في مضماره الذي يغريه به شبابه وشعوره بقوته. ثم يجيء طور الكهولة الناضجة المجربة الحكيمة العارفة المدركة.
وحديثنا عن النثر دون الشعر فلندع الشعر ولندع أيضا عهد الطفولة في النثر العربي الحديث فقد كان النثر في ذلك العهد أشبه بعبث الأطفال ولهوهم وكان الناس يتظرفون ويتزينون كما تتزين المرأة بالعقد أو الرجل بمظاهر الغنى. ثم جاء شباب فرأينا الأدباء في هذا العهد يتلفتون باحثون عن الأصول البعيدة والقريبة ومعنيين بدرسها وفحصها من جديد مع إرسال العين فيما حولها وإجالة النظر في الحياة. والماضي للأمة أشبه بالذاكرة للفرد وليس يستطيع المرء أن يعرف نفسه وماذا هو إذا فقد ذاكرته لهذا عني الأدب في هذا العهد من الشباب بتقصي الماضي وتدبره ودرسه وكان الذين فعلوا ذلك ممن جمعوا بين ثقافتين - الثقافة العربية التي أفادوها من تحصيلهم الخاص في الأغلب لا مما تلقوه في المدارس فما كان لهذا غناء أو فضل يستحق الذكر نقول هذا من غير غمط لفضل طائفة قليلة كان الذين انتفعوا بآثارهم من غير أن يتلقوا عليهم شيئا أكثر من انتفاع تلاميذهم بدروسهم.
والثقافة الأخرى ثقافة غربية - فرنسية وإنجليزية - وبفضل الجمع بين الثقافتين العربية والغربية استطاع الأدباء في هذا العهد من الشباب أن يدرسوا الأدب درسا جديدا وأن ينظروا فيه نظرات أعمق ومن هنا نشأ ما يسمى النقد الأدبي على قواعد أصح ووفق أصول أعم وأثبت. والنقد الأدبي ليس معناه إظهار العيوب والكشف عن مواطن الضعف والنقص وإنما معناه الوزن الصحيح الدقيق للأثر الذي فيه البحث. والاهتداء إلى الأصول والقواعد التي ينبغي أن تراعى. ولم يحل الاشتغال بالنقد الأدبي دون الإنتاج الخاص ونعني به الإنتاج الذي يجيء ثمرة النظر المستقل والتدبر الخاص وأكبر مزية استفادها الأدب في هذا العهد هي التحرر من التقليد في الموضوع وفي الأسلوب فذهب وكان مشغوفا به من قبلهم من احتذاء مثال العرب والافتياس بهم والضرب على قوالبهم وصار الموضوع هو الذي يفكر فيه الأديب نفسه والأسلوب هو الذي يفي بالعبارة عما يريد فكان هذا تجديدا لا شك فيه ولا في قيمته وستتاح لي فرصة أخرى فأورد لكم نماذج من الأساليب الحديثة تبين الفرق بينها وبين الأساليب القديمة التي كان تقليدها شائعا فيما سميته عهد الطفولة وإن كان التقليد في تلك الطفولة للمتأخرين لا للقدماء من العرب.
ولا يزال النقد الأدبي مستمرا إلى الآن وسيستمر بلا شك ولابد من ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة تامة بغير ذاكرة والماضي هو مصدر الحاضر والقاعدة التي يقوم عليها ولا سبيل إلى بت هذه الصلة ومن درس الأدب في أوسع نطاق وعلى أدق وجه وأصحه يمكن أن يستخلص الأصول الصحيحة والقواعد السليمة. ثم إن هذا الدرس بعض الوسيلة إلى معرفة النفس. فغير مستنكر أو مستغرب - بل واجب - أن يظل النقد الأدبي ماضيا في طريقه.
غير أن النقد الأدبي - كما قلنا - لا يمنع - وهو لم يمنع الإنتاج الذاتي أو ما يسمى الأدب الصرف وأوضح اتجاه جديد هو الاتجاه إلى القصة وهو اتجاه طبيعي وليس من قبيل التقليد للأدب الغربي ونعني بالقصة أنواعها من قصة طويلة وأقصوصة قصيرة تكون كاللمحة أو المنظر والقصة التمثيلية. والإنسان مفطور على القصص. وأكثر ما تدور عليه أحاديث الناس في حيث يجتمع بعضهم ببعض هو رواية ما جرى أو ما رأوا أو ما سمعوا به أو ما يتخيلونه أو يتمنونه. وحديث الناس حوار ووصف وتصوير وتعليق وتحليل وتعليل. وليست القصة أكثر من انتزاع جانب أو بعض جوانب من الحياة وعرضها ورفعها قبل العيون وهي أشبه بذلك الضرب من التصوير الذي يسمونه «الامبرشنزم» وأصله كما هو معروف أن تنظر إلى الشيء وتتأمل تفاصيله وتدير عينك فيه على مهل لتأخذه في جملته وتفصيله - أو تنظر إليه نظرة عامة لا تتوخى فيها تأمل التفاصيل - أو تنظر إلى جزء معين منه تعلق فيه عينك وتترك ما حوله يبدو لك في غير وضوح لأنك لا تقصده بنظرك ولا تجعل بالك إلا إلى الجزء الذي عليه عينك.
والمصورون على طريقة الامبرشنزم يتوخون الحالتين الأخيرتين دون الأولى أي أنهم لا يعنون بالجملة والتفاصيل. وإنما يؤثرون النظرة العامة التي لا تفصيل فيها أو العناية بجزء دون بقية.
والحياة أوسع من أن يستطيع إنسان أن يحيط بجوانبها جميعا بنظرة واحدة وفهمها كلها في جملتها وتفصيلها وعلاقة ظاهرها بباطنها واستجلاء كل نواميسها وأثرها ونتيجة تفاعلها في كل آية من آياتها فوق طاقة البشر. ولكن الخلق واحد والسنن لا تختلف ولا يشذ فعلها فإذا استطاع إنسان أن يقتطع جانبا من الحياة ويصور وجها من وجوهها فهو يكون كأنما استطاع أن يصور الحياة كلها وهذه مبالغة ولا شك.
ولكن فهمنا للحياة وللطبيعة الإنسانية يزيد ويعمق ويتسع كلما زاد اطلاعنا على أكثر ما يمكن من جوانبها.
Página desconocida
وليس المعول في القصة على الحادثة أو الحوادث التي تروى وكل إنسان يستطيع ذلك بغير عناء لأن كل إنسان وقعت له حوادث أو شهد حوادث أو سمع بحوادث والحادثة ليست أكثر من مشجب يعلق عليه الكاتب آراءه وخواطره ونظراته وغير ذلك من الخوالج والإحساسات والتحليل والتعليل.
والمعول في القصة على رسم الشخصيات والتفطن إلى البواعث والقدرة على تصوير نتيجة التفاعل بين الوراثة والبيئة وبين الإنسان والجماعة ونوع استجابة الإنسان لوقع الحياة في نفسه وكثيرون يستسهلونها لأنها أقرب إلى الفطرة ولكنها من أعسر ألوان الأدب لأنها تتطلب فهما للحياة ونظرا فاحصا وملاحظة دقيقة وإخلاصا وصدق سريرة ولا غنى في أي لون من الأدب عن الإخلاص وصدق السريرة ثم تتطلب أداء محكما وقدرة عليه وافية لأن الكاتب يحتاج أن يتناول فيها كل باب من أبواب الأدب - من الفلسفة فنازلا إلى الكلام الفارغ في ذاته وأن سوقه في القصة يراد به الاستعانة على تصوير النفوس واتجاهات خواطرها ونزعاتها وعاداتها في التفكير وغير ذلك.
والقصة توجد في كل أدب قديم. والغزل نفسه قصة لأنه عرض جانب من النفس في حالة خاصة. ولكنها باعتبارها عملا فنيا قائما بذاته تعد حديثة نسبية وقد نشأت في الأدب العربي كما نشأت في غيره ولكنها وقفت عند حد ولم يمض فيها الذين جاءوا بعد الذين فتحوا بابها.
أما الآن فإنها لون مقرر من ألوان الأدب الحديث بأنواعها جميعا وقد عالجها كل الأدباء تقريبا دون أن ينصرفوا عن الأبواب الأخرى مثل البحوث والدراسات التي يعنون بها. وقصر عليها بعضهم أدبه تقريبا وبذلك بدأ الاتجاه إلى التخصص في أبواب الأدب وسيزداد هذا ظهورا وبروزا على الأيام.
ولا يتسع الوقت لأكثر مما تناولنا في حديثنا وما كنت أرجو أو أطمع أن يتسع وإنما أردت أن أجعل طريقتي في البحث من شأنها أن تساعد السامع على لمضي وحده في تعيين الاتجاهات الحديثة.
والبحث لا يتم إلا إذا تناولنا أساليب الكتابة بعد أن تناولنا أغراضها على هذا النحو العام المجمل. وموعدنا الحديث الآتي إن شاء الله.
الفصل الخامس
حديث عن الهجرة
يبدو لي من مراجعة السيرة النبوية الشريفة أن الهجرة إلى المدينة لم تجيء عفوا ولا كانت من وحي الساعة وإنما كانت خطة محكمة التدبير طال فيها التفكير بعد أن اتجه إليها الذهن اتجاها طبيعيا أعانت عليه الحوادث.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يشير على المسلمين الذين ضاقوا ذرعا بما كانت قريش تنزله بهم من الأذى أن يتفرقوا في الأرض وينصح لهم أن يذهبوا إلى الحبشة ليأمنوا الفتنة عن دينهم ويرتاحوا من العذاب الغليظ الذي كانت قريش تصبه عليهم حتى يأذن الله بالفرج وأكبر الظن أنه كان يريد أن يؤمن هؤلاء المسلمين على دينهم من ناحية وأن يحمل قريشا على التوجس من عاقبة هذه الهجرة الأولى إلى الحبشة عسى أن تفيء إلى الاعتدال والهوادة.
Página desconocida
ومن الثابت على كل حال أن قريشا أزعجها هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة فبعثت إلى النجاشي برسولين منها ومعهما الهدايا ليقنعاه برد هؤلاء المهاجرين إلى مكة.
ولكني لا أظن أنه كانت لهذه الهجرة إلى الحبشة غاية أبعد من ذلك فما كانت أكثر من معاذ إلى حين وتدبير ألجأت إليه الحاجة لما اشتدت المحنة بالمسلمين وتلويح لقريش بإمكان العون والمدد من هذه الناحية. على أن بعد الحبشة واختلاف أهلها ولغتها ودينها ثم الثورة التي ما لبثت أن شبت على النجاشي وكان من أسبابها إيواؤه المسلمين والعطف عليهم - كل هذا كان من شأنه أن يصرف عن الحبشة ويدعو إلى التفكير فيما هو أصلح منها.
واختلفت الحال في مكة أيضا إلى حد ما بعد أن أسلم عمر ورفض الاستتار والاستخفاء وشرع يناضل قريشا ويدفع المسلمين إلى الصلاة في الكعبة نفسها وأسلم رجال غير قليلين من قريش فصارت لجاجة قريش في تعذيب المسلمين وتقتيلهم كما كانت تفعل غير مأمونة العاقبة. نعم ظلت قريش تؤذي المسلمين وتسيء إليهم ولكن المسلمين كثروا وصار محمد يعرض نفسه على القبائل وأن كان لم يفز بطائل كبير ولا كفت قريش عن مساءاتها إليه.
وقد كبر الشأن واتسعت رقعة الأمل ولكن التفكير في أمر قريش وفي الراحة من عنتهم وفي الوسائل المؤدية إلى نشر الدين بأسرع مما ينتشر بقي واجبا ملحا. ولاسيما بعد أن حوصر المسلمون في الشعب ونقضت الصحيفة ومات أبو طالب وخديجة وازداد أذى قريش وردته القبائل عما كان يدعوها إليه من الدخول في الإسلام.
وتوالت السنون على هذا الحال. فكان من الطبيعي أن يفكر النبي عليه الصلاة والسلام في مخرج حاسم يفرج الكرب ويزيل المحنة ويفسح مجال الأمل ويوطد الأمر. وأحسب أن من الطبيعي والمعقول أن يفكر في يثرب أول ما يفكر وأن تكون هذه أبرز ما يبرز وأول ما يخطر على البال وأسبق ما يرد على الخاطر فقد كانت يثرب طريقه في الزمن السالف أيام كان يعمل في التجارة، ولم تكن طريقه فقط بل كانت له بها علاقة تجارة أيضا، وله فيها عدا ذلك بعض ذوي القربى ونعني بهم أخوال جده من بني النجار ثم إن أباه عبد الله بن عبد المطلب مدفون فيها وقد كانت أمه في حداثته تزور هذا القبر في كل عام وكانت تستصحب ابنها معها وقد شاء القدر أن تمرض أمه وهي عائدة من إحدى هذه الزيارات وأن تموت وتدفن في الطريق بين مكة ويثرب.
فما من شك في أن يثرب كان لها نوطة بقلبه وعلوق بنفسه فما يسعه أن ينسى طفولته ويتمه وأباه الدفين هناك وأمه الراقدة في الفلاة على طريقها.
وقد كان النبي صلوات الله عليه يعرض نفسه على القادمين من يثرب كما كان يعرض نفسه على رجال القبائل الأخرى فأسلم أولا من الأوس واحدا ثم أسلم من الخزرج نفر استجابوا لدعوته وحدثوه بما بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثها اليهود فيهم ليظفروا بهم ويتحكموا فيهم وكان اليهود قد نجحوا في إيقاد نار الفتنة بين هاتين القبيلتين ولكنهم نجحوا في آمر آخر لم يكونوا يقصدون إليه فقد كان اليهود وهم أهل كتاب يذمون إلى الأوس والخزرج ما هم فيه من الوثنية والشرك ويحدثونهم عن دينهم وكتابهم فتركوا في نفوسهم أثرا روحيا لم يكن لمثله وجود في أهل مكة.
وقد عرف النبي
صلى الله عليه وسلم
هذا كله وعرف أيضا أن الفريقين المتعادين - الأوس والخزرج - قد فطنوا على ما هم فيه من الشر واشتهوا أن يجمعهم الله بعد طول العداوة وأدرك أن دعوته خليقة أن تلقى هناك من حسن الإصغاء وطيب القبول ما لا تظفر بمثله في مكان آخر وبلد غير يثرب وقد صدق ظنه وتفتحت القلوب في يثرب لدعوته ولم يمض إلا عام واحد حتى جاءه رجال من يثرب يبايعونه البيعة التي تعرف ببيعة العقبة الأولى على ألا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يكذبوا ولا يعصوا الله. ومما يدل على قيمة هذه البيعة أن النبي احتاج أن ينفذ إلى يثرب من يقرئ المسلمين بها القرآن ويعلمهم ويثقفهم في الدين. وكانت هذه فاتحة ميمونة لانتشار الإسلام في يثرب على صورة جدية وفي نطاق واسع.
Página desconocida
وكان مقام المسلمين في يثرب طيبا محمودا لا أذى فيه ومشقة فغير معقول أن لا يفكر النبي في اتخاذ يثرب مهجرا للمسلمين الذين يعانون الأمرين في مكة ولنفسه أيضا إذا كان لابد من ذلك ولا معدى عن ذلك.. إن التفكير في ذلك هو تفكير يبعث عليه ويوحي به واجب الدفاع عن النفس.
يدل على ذلك أن النبي في العام التالي - لما قدم مكة عشرات من مسلمين يثرب - لقيهم واقترح أو طلب أن يعقد مع مسلمي يثرب حلفا دفاعيا لرد عدوان المشركين وقد تم له ما أراد وعقدت بيعة العقبة الثانية وهي أول تدبير عملي في سبيل الدفاع عن النفس.
وقد أزعج خبرها قريشا جدا فاضطربت وأشفقت وذهبت تسعى لتستوثق من الخبر فإن صحة الخبر معناها ذهاب كل أمل في التغلب على النبي. وقد بلغ من جزعهم من هذا الحلف وصحة تقديرهم لعواقبه المحققة أن قريشا ائتمرت بالنبي تريد قتله ودبرت ذلك فعلا وأحكمت التدبير كما هو معروف مشهور فأدى ذلك إلى التعجيل بهجرة النبي نفسه.
وقد كانت الهجرة في سبيل الله وللدفاع عن النفس ولكنها أدت إلى أمور شتى. فقد كان النبى في مكة حسبه أن يتقي أذى قريش ويتجلد ويصبر على عنتهم واضطهادهم فلما هاجر لم يبق لمثل هذا الصبر مسوغ ولا بالمسلمين إليه حاجة وقد كثروا وصارت لهم قوة من جموع الأنصار والمهاجرين معا. ففي وسعهم أن يردوا الأذى ويقابلوا العدوان بالعدوان. ثم إن كثرة المسلمين في يثرب جعلتهم جماعة يجب فضلا عن تثقيفهم في الدين تنظيم أمورهم والنظر في مصالحهم وإقامة علاقاتهم بغيرهم على قواعد مرضية.
وقد بدأ التشريع الإسلامي بعد الهجرة وبدأت كذلك الحروب باللسان ثم بالسلاح وبدأ التعرض لتجارة قريش . ولا حاجة بنا إلى التفصيل فإنه تاريخ معروف ويكفي أن نقول إن الهجرة أتاحت للمسلمين أن يكونوا أمة وأن ينتظموا كما تنتظم الأمم وأكسبهم مركزا تسنى لهم بفضله أن يتحكموا في مكة اقتصاديا وحربيا أيضا وقد انتهى الأمر بالفعل بفتح مكة وإعلاء كلمة الله.
ويكفي للدلالة على ما كان للهجرة إلى يثرب من قيمة في التاريخ الإسلامي أنه لما أريد بعد ذلك تأريخ الحوادث أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه باتخاذ عام الهجرة مبدأ لهذا التاريخ. والواقع أن هذه الهجرة كانت هي الباب الذي فتحه الله لنشر الدين وإعلاء شأنه والقضاء على الشرك والكفر وجعل من العرب أمة لها في العالم مقام وفي حياته أثر.
ولو أن الهجرة كانت إلى الحبشة لما أثمرت شيئا من هذا ولخرج الأمر على كل حال من جزيرة العرب ولكان الأرجح ألا ينتقل العرب إلى حال أخرى. ولو أنها كانت إلى اليمن مثلا لكان الأغلب أن تبقى مكة بمعزل عن الإسلام ولكن المدينة كانت على طريق التجارة إلى الشام، فالذي يستولي على الأمر فيها يتسلط على مكة ويتحكم في حياتها كما حدث بالفعل.
ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفكر في المدينة من زمان طويل قبل أن يقصد إليها فقد كان كل شيء يدعو إلى ذلك - حنين قلبه ومصلحة المسلمين في الدفاع عن أنفسهم أولا ثم في التغلب على مكة والقضاء على شرك قريش. ولعل من الدلائل على طول التفكير واتجاه النفس وعلى الإيحاء أيضا أن النبي كان أول الأمر يتجه في الصلاة إلى المدينة جاعلا قبلته المسجد الأقصى. فلما انتهى هذا الدور جعل الكعبة قبلته في الصلاة فوجه المسلمين صوب مكة حتى استولى عليها.
الفصل السادس
مصرع الحسين
Página desconocida
كان لنا، قبل الحرب، صديق معمر، من بني الفرس - أو من أجدادهم الأولين على الأصح - فقد كان عمره فوق المائة، وكنا نحاسبه فيكون تارة مائة وعشرين، وأخرى مائة وبضع سنوات، فأضحك وأقول: «يجب أن نقيد هذه الأرقام الرواغة». وأتناول القلم، وأقيم سنه على الورقة، وأنظر إليه، وأقول: «تفضل قبل أن يغرق الطوفان الأرض كنت سعادتك سفيرا لدولتك عند بروسيا، ولما صعق موسى عند دك الجبل، كنت ...» فيتكلف الغضب، ينهرنا عن هذا العبث ويقول: «اختش يا ولد!»
وكان على عظم ارتفاع سنه قوي البنية، متين الأسر، وكنا نسأله عن سر ذلك، فيقول إنه لم يتزوج قط، فأضحك وأقول: «هات شيئا آخر، فإن هذا معلوم، مفهوم بالبداهة!» فيرفع عصاه الغليظة، يلوح بها كأنما يهم بضربي، فينقلب ضحكنا قهقهة عالية مجلجلة، ويسره سرورنا فيفيء إلى الرضى.
ويقول لنا أحيانا: «تعالوا نتمشى، فنسأله: أين؟ وإلى أين؟». فيقول: «في طريق الجيزة»، وكان بيته في «باب الخلق»، فنخرج معه إلى الزمالك ويقف بنا على جسره هنيهة، يحدثنا ويروي لنا أخبار القرون الأولى، أو يرتجل شعرا فكاهيا نجيزة، أو نشطر قصيدة لواحد من شعارير ذلك الزمان تشطيرا يخرج بها إلى الهزل الصريح والمجانة الشديدة، أذكر من مطالع قصائده المرتجلة: «قفي حديثني عند كوبري الزمالك
وروي غليل القلب يا أم مالك»
ثم نستأنف السير بعد أن نميل إلى طريق الجيزة، حتى نفتر ونكل، وتخذلنا أرجلنا، وهو لا يزال كما بدأ، فيسخر منا، ويوسعنا تقريعا وتعييرا، فلا نبالي، ونقعد على الأرض من شدة التعب. ويتفق أن تمر بنا سيارة، تخطف، فيشير إليها ويقول مازحا: «خذونا، أخذكم الله».
ولم يكن هزالا، وإنما كان يوسع لنا صدره، ويتقبلنا على علاتنا، ويأنس بنا كأنسنا به، وكانت الدنيا كلها أصدقاء له، ولكنا نحن كنا نلازمه بعد أن نفرغ من أعمالنا، وكان بيته نادينا، وفيه نعقد حلقتنا الأدبية الخاصة، وما أكثر ما كنا نقول له: «نريد أن نأكل أرزا فارسيا» فيمضي بنا إلى المطبخ لنساعده، فهذا يقشر بصلا، وذاك يغسل آنية، وثالث يضرم النار، وهكذا، حتى يطبخ الأرز ويغرف في الصحون، ثم نحف به - أعني بالأرز - ونقبل عليه فنلتهمه.
وكان لنا خيرا من الأب، وأخلص من الصديق وأوفى، وكان ريما رأى أحدنا ساهما أو واجما، فيسأله عن سبب ما يبدو عليه، فيفتح له صدره، ويبثه ما فيه ، ويقول له بشجوه، حبا كان ذلك أو هما أو غير ذلك فيشير عليه بالرأي الناضج، ويخلص له النصح، ويقوي ضعفه ويشجعه، ولا يزال به حتى تعود إليه البشاشة.
وقال لنا يوما: «خذوا» وناولنا بطاقات فيها دعوة إلى ما كان يسمى «زفة الحسين»، وما هي بزفة، وإنما هي مأتم، ولكنها هكذا كانت تدعى على ألسنة العامة، فذهبنا في الموعد المضروب إلى بيت رحيب في زقاق ضيق، فوجدنا هناك كثيرين من رجال مصر المعروفين، أجلسنا معهم، ثم دعينا إلى مائدة مثقلة بألوان الآكال الشهية، وكان الأستاذ البرقوقي إلى جانبي، فظمئ على الطعام، وأسر إلي بذلك - لا أدري لماذا - فأومأت إلى الخادم، فناوله كوبا رفعه إلى فمه، وما كاد يفعل حتى رده عنه، وقال: «بفففف!»، ذلك أنه كان سكرا مذابا لا ماء، فعجبنا واتقينا أن نشرب.
وانحدرنا إلى صحن الدار، وكان فيها منبر، ارتقى إليه شيخ فارسي وانطلق يقول كلاما لم نفهمه، ولكن صوته كان يتهدج وكانت الدموع تتسايل على خديه وتبل لحيته الكثة، وقيل لنا إنه يرثي الحسين ويندب مصرعه، وكان الذين يفهمون كلامه من بني جنسه يبكون، بل يعولون ومنهم من كانت تهيج حرقاته فيلطم، أو يضرب صدره أو ظهره العاري بسلسلة غليظة من الحديد، أو يضرب جبينه ببطن سيف مسلول، أو بكله - أي قفاه الذي ليس بحاد - ولكن أحدهم اضطرب وهو يفعل ذلك فأصاب حد السيف جبينه فانفجر الدم كأنه نافورة، وقد خفوا إليه، وضمدوا جرحه، وعصبوا له رأسه؛ وهال أحدنا منظر الدم وظن أن الرجل لا محالة هالك، فأغمى عليه، وسقط على الأرض كما تسقط الخشبة، أنشقوه شيئا في زجاجة أنعشه ورد إليه روحه.
ولا أحتاج أن أقول شيئا في وصف الموكب الذي يخرجون به ويطوفون بالشوارع وهم يدقون صدورهم العارية أو يضربونها بالسلاسل أو يخبطون وجوههم أو عواتقهم ببطون السيوف، فإن ذلك كله معروف مألوف، وإن كان قد انقطع، والأكثر من الناس قد رآه في زمانه، ولكني أقول إني بعد بضعة أيام من شهود هذه «الزفة» وقعت على مقال في مجلة إنجليزية لكاتب إنجليزي أو ألماني - لا أذكر، فإن العهد بها بعيد، وقد فقدتها على الرغم من حرصي عليها وتحفظي بها - وفي هذا المقال يذهب الكاتب - والأرجح أنه ألماني - إلى أن الحسين بن علي رضي الله عنهما، تعمد أن يضحي بنفسه؛ وأذكر أنه قال إن الحسين لم يكن أبله، فقد حاول أمرا عرف مبلغ استحالته، ومع ذلك أصر على الزحف وليس معه إلا النساء والأطفال وحفنة صغيرة من الرجال، مضى بهم وبنفسه معهم إلى بوار محقق.
Página desconocida