Ahadith Mazini
أحاديث المازني
Géneros
وقد يستطيع الأديب أن يزهد في الشهرة وما تتيحه وتيسره إذا لم تجيء إلا بمجافاة الإخلاص، وصدق السريرة، وخيانة أمانة الفن، ومصانعة الجمهور وتملق آرائه ونزعاته وغرائزه الساذجة ومزاجه، وما إلى ذلك، وقد يكون من قوة الإرادة وسمو الروح وصلابة العود بحيث يستطيع أن يقهر نفسه ويصدها ويزجرها عن طلب الشهرة والحياة الرخية من هذا الطريق الهين، ولكنه قد يكون اشتهاؤه أقوى من إرادته، أو يكون في حال تقصره على التسهل والترخص أو تدفعه المنافسة إلى طلب التفوق بأية وسيلة، أو يغالط نفسه فيزعم أنه يداور الجمهور ويحتال عليه كما يحتال الطبيب على المريض بحلاوة طعم الدواء ويسايره قليلا أو كثيرا ليطمئنه ويدفعه إلى الإقبال ثم يعود فيدور به إلى حيث يريد.
ومهما يكن الباعث على الترخص فإنه مفسدة للأدب. فإن شرط الأدب الأول هو الإخلاص وصدق السريرة، ولا إخلاص مع المصانعة والمداهنة والملق، وإذا فقد الأدب الإخلاص فقد أهم عنصر، والإنسان يحترم القوة التي يكون مبعثها الإخلاص، وقد تروعه في البداية وتصدمه وتنفره. ولكنه لا يلبث متى تبين الإخلاص أن يقبل بعد النفور وأن يتشيع في نفسه الإكبار والتبجيل.
وقد يطول الأمر. وتبطئ الجمهور على الأديب. ولكن كل شيء يحتاج إلى زمن يؤتي ثمرته.
وأنت تغرس البذرة في الأرض فلا تصبح شجرة بين صباح ومساء، وتربة النفوس أيضا تحتاج إلى زمن حتى تنشق فيها البذرة ويمتد منها ما يكون جذورا معرقة، ثم تخرج لها ساق يذهب في الجو ويتفرع عليه الأغصان وتورق وتنور وتثمر. ومازال صحيحا أن في العجلة الندامة والذي يستعجل الشهرة خليق أن يفوته ما هو أولى منها بالحرص عليه وأعنى به المجد الأدبي الصحيح.
الفصل الرابع
في الاتجاهات الحديثة
في النثر العربي بمصر
الاتجاهات الحديث في النثر العربي بمصر موضوع واسع لا أستطيع أن ألم بأطرافه في حديث أو اثنين ولست أقول هذا على سبيل الاعتذار أو من قبيل التواضع أو لستر العجز بل أقوله بيانا للواقع ولأني أنوي - لضيق الوقت - أن أقتصر على الذي هو أوضح وأبرز وأود أن أنبه في فاتحة الكلام إلى أن قولنا «الاتجاهات الحديثة» ليس معناه أنها بنت اليوم أو الأمس ولعل هذه الاتجاهات إنما وضحت وبانت في السنوات الأخيرة وكانت بداياتها قبل نصف قرن وزيادة. وعسى أن تكون هناك بدايات أخرى لاتجاهات جديدة لا نتبينها الآن ولابد من مرور زمن طويل قبل أن نكون من أمرها على يقين كالطفل تراه فلا تستطيع أن تعرف ماذا سيكون بعد أن يبلغ مبالغ الرجال وهل يكون طبيبا مثلا أو مهندسا أو من رجال الدين أو القانون أو صانعا أو غير ذلك.
ويجب أن يكون مفهوما ومقررا في الأذهان أن الأدب كائن حي خاضع لنواميس الطبيعة وسنن الحياة وقوانينها ككل مخلوق من حيوان ونبات وأن له على ذلك تاريخ حياة وله طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة وإذا نحن لم ننظر إليه هذه النظرة فلسنا نستطيع أن نفهمه فهما صحيحا ولا أن ندرسه درسا مفيدا. وكلنا يعرف مثلا أن الشجرة لا تنبت في يوم ولا تظهر بأغصانها وأوراقها وثمارها بين يوم وليلة ولكن منا من يتوهم أن الأدب يمكن أني تحدث فيه هذه المعجزة التي تحدث في خلق آخر. وكلنا يعرف أن البذرة التي تضعها في التربة أو العود الذي تغرسه في الأرض يحتاج إلى ما يتغذى به ويقوى ويحتاج إلى العناية والتعهد وإلى التقليم والتشذيب وأحيانا إلى التطعيم والتلقيح وكذلك الأدب وليس يخفى على أحد منا أن الشجرة المهملة غير الشجرة التي وجدت من يسقيها ويسمدها ويرعاها ويوفر لها أسبابا الحياة ويساعدها على الازدهار والإثمار. وكذلك الحال في الأدب بل في كل شيء. وأنا أحب أن أؤكد هذا المعنى وأقرره فإن كل فهم للأدب يكون خطأ محضا وضلالا صرفا إذا لم نعتبره كائنا حيا تجري عليه سنن الخلق جميعا بلا استثناء.
ونعود إلى موضوعنا الذي استطردت عنه فأقول أن الأدب كهذه الشجرة التي ضربنا بها المثل - له أرومة أي أصل في جوف الأرض ثم تنبت له ساق تسمو بنفسها صعدا وتستغني بنفسها عن غيرها أو لا تستغني وتحتاج أو لا تحتاج إلى ما تتعلق به وترقى فيه ثم تتشعب من هذا الساق أغصان دقاق وغلاظ ثم يخرج من هذه الورق ثم ينور إذا كان مما ينور وثمر إذا كان مما يثمر.
Página desconocida