وأما من انفعالها فبما نجده من فعل النار في العسل وغيره من الأشياء الحلوة، لأنا نجد العسل إذا طبخ بالنار وقوي فعل النار فيه وجاوز المقدار، قلت رطوبته وتغيرت حلاوته واكتسب ملوحة. فإذا زاد فعل النار فيه تأثيرا وقارب الافراط، ازداد جفافا وانتقل إلى المرارة، فإذا أفرط فعل النار فيه حتى تفنى أكثر رطوبته الجوهرية وتقارب العدم، صار حريفا.
وجميع القول: أن ما كان من الطعوم حريفا أو مرا أو مالحا كان مزاجه حارا، وما كان منها عفصا أو قابضا أو حامضا كان مزاجه باردا، وما كان حلوا أو دسما أو تفها كان مزاجه معتدلا. وما كان من الطعوم جوهره لطيفا كان إما دسما وإما حريفا وإما حامضا. وما كان منها جوهره غليظا كان إما حلوا وإما عفصا وإما مرا. وما كان منها جوهره معتدلا متوسطا بين اللطافة والغلظ كان إما قابضا وإما مالحا وإما تفها (1). فإذا تركبت أصناف لطافة الجوهر وغلظه واعتداله مع أصناف حرارة المزاج وبرودته، تولد من ذلك تسعة ضروب من التركيب، ويكون منها تسعة ضروب من الطعام: أحدها: الحلاوة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر غليظ. والثاني: الدسومة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر لطيف.
والثالث: التفاهة، وهي من تركيب مزاج معتدل مع جوهر معتدل. والرابع: الحموضة، وهي من تركيب مزاج بارد مع جوهر لطيف تشوبه أرضية. والخامس: القبوضة، وهي من تركيب مزاج بارد مع جوهر معتدل. والسادس: العفوصة، وهي من تركيب مزاج بارد مع جوهر غليظ. والسابع: الحرافة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر لطيف. والثامن: الملوحة ، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر معتدل.
والتاسع: المرارة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر غليظ.
ومتى سمعتني أقول في شئ من الأشياء: أنه حار أو بارد أو رطب أو يابس أو لطيف أو غليظ، فإنما ذلك بإضافته إلى المزاج المعتدل لان الأوائل لما نظروا إلى جميع الطعوم وجدوها لا تخلو من أن تكون إما لذيذة عند الحاسة، وإما غير لذيذة. فما كان منها لذيذا علموا أنه في غاية الاعتدال والتوسط لأنه مشاكل لمزاج بدن الانسان. ولذلك لم تنافره الحاسة وتكرهه مثل الماء المعتدل الفتورة اللذيذ عند حاسة اللمس. وما انحرف عن ذلك قليلا وأثر في الحاسة تأثيرا ما مثل الماء القوي الفتورة، علموا أنه قد خالف بدن الانسان مخالفة يسيرة ونسبوه إلى الدرجة الأولى من الحرارة. وما زاد انحرافه على ذلك قليلا وصار مثل الماء الحار القوى الحرارة، نسبوه إلى الدرجة الثانية من الحرارة، وما زاد انحرافه على ذلك أيضا حتى ينافر الحاسة ولا تدانيه إلا كرها نسبوه إلى الدرجة الثالثة من الحرارة. وما زاد على ذلك وصار محرقا ومفرقا للاتصال بسرعة مفسدا للمزاج، نسبوه إلى الدرجة الرابعة. وكذلك فعلوا في البرودة والرطوبة واليبوسة.
ولما لم يجد الأوائل مرتبة يترقون إليها بعد الاحراق وتفرق الاتصال، وقفوا هناك وصيروا الدرج
Página 34