فقال الهلالي: هذه مسئوليتي أنا. - عظيم ... سنبدأ العمل فورا.
الجلسة تنفض؛ ألبث أنا وحدي مع المدير. لي دالة عليه (بحكم الزمالة والصداقة والجيرة القديمة). قلت له وأنا في غاية الانفعال: علينا أن نعرض الموضوع على النيابة.
فقال متجاهلا انفعالي: ها هي فرصة، لتمثل في المسرحية ما سبق أن عشته في الحياة. - إنه مجرم لا مؤلف! - وهي فرصة ستخلق منك ممثلا مهما، بعد عمر طويل مضى وأنت ممثل ثانوي. - إنها اعترافات؛ كيف نترك المجرم يفلت من يد العدالة؟ - إنها مسرحية مثيرة واعدة بالنجاح، وذاك أقصى ما يهمني يا طارق!
فاض قلبي بالغضب والمرارة، انتشرت أحزان الماضي كالدخان بكافة هزائمه وآلامه.
إنها فرصتي للتنكيل بعدوي القديم. ••• - من أدراك بهذه الأسرار؟! - عفوا ... سنتزوج! •••
ويتساءل سرحان الهلالي: ماذا أنت فاعل؟ - يهمني في الاعتبار الأول أن ينال المجرم جزاءه.
فقال بضيق: اجعل الاعتبار الأول لإتقان الدور.
فقلت بتسليم: لن يفوتني ذلك. •••
يقتحمني انفعال قهار عند رؤية النعش، فأجهش في البكاء مغلوبا على أمري، كأنه أول نعش أراه. الدموع في عيني مثلي مثيرة للدهشة؛ ألمح السخريات من خلال الدمع مثل ثعابين الماء. ليس هو الحزن أو العظة، ولكنه جنون عابر. أتجنب النظر إلى المشيعين؛ خشية أن ينقلب البكاء إلى هستيريا من الضحك! •••
أي كآبة تغشاني وأنا أخترق باب الشعرية؟ منذ سنوات لم تقترب منه قدماي. حي التقوى والخلاعة! أغوص في زحام وضوضاء وغبار النساء والرجال والصبية. تحت سقف الخريف الأبيض، كل شيء يلوح لعيني في ثوب الازدراء والكآبة. حتى الذكريات منفرة جارحة، بما فيها مجيئي بتحية لأول مرة وهي تتأبط ذراعي في مرح. مثل الهوان في الظل ومعاشرة الصعاليك والقبوع الحقير تحت جناح أم هاني. اللعنة على الماضي والحاضر، اللعنة على المسرح والأدوار الثانوية، اللعنة على أول نجاح تأمله من لعب في مسرحية عدو مجرم وأنت تعلو الخمسين من العمر. ها هو سوق الزلط النحيل الطويل مثل ثعبان، ها هي بواباته المتجهمة العتيقة، وها هما عمارتاه الجديدتان الوحيدتان، والبيت القديم رابض مكانه بما يطويه في صدره من تاريخ أسود وأحمر. لقد استجد جديد لم يكن، فتحولت المنظرة الخارجية إلى مقلى يجلس فيها للبيع كرم يونس، وإلى جانبه حليمة زوجته. شد ما غيرهما السجن؛ وجهان هما صورتان مجسدتان للامتعاض، ينغمسان في الكدر على حين يأخذ نجم ابنهما في اللمعان. لمحني الرجل، نظرت المرأة نحوي أيضا، لا حب ولا ترحيب هذا ما أسلم به، رفعت يدي بالتحية، فتجاهلها الرجل، وقال بجفاء: طارق رمضان! ... ماذا جاء بك؟
Página desconocida