فنظر فيه جورجي غاضبا، وقال: إذن ابق نعجة يا بني، ابق نعجة، إني أبكيك حيا لأنك ميت يتحرك ليس إلا.
وبعد سكوت هنيهة قال يوسف: قضيت عهد الصبى وأنا أربي نفسي لكي أكون صالحا، فهل تريد أن تحولني في ساعة إلى إبليس رجيم؟ لا أطيق ذلك. - آه، ليت الناس كلهم مثلك فتسهل عليك معاملتهم، ولكن ما داموا كلهم أبالسة يجب أن تكون إبليسا مثلهم؛ لكي تستطيع أن تعاملهم.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: أقول لك يا أبي: إني لست مثل الناس، ولا أقدر أن أكون مثلهم فلا أعاملهم ولا يعاملونني، والحق معك ما أنا تاجر بل أنا عامل، فيجب أن أطلب خدمة حيث أجد.
فهز جورجي رأسه، وقال: إذن تكون أداة في معمل، والميكانيكي يصنع منك الآلة التي تعمل مسيرة وتعمل جهد قوتها، فإن صلحت عضاضة جعلك عضاضة تحمل الأثقال، ومتى انكسرت هذه العضاضة رمى بها بين الحطام المهملة وصنع غيرها، فهل تريد أن تكون كذلك؟
ففكر يوسف وقال: لا أرى وجه الشبه بيني وبين العضاضة. - أنا أريك، خذ مثلا، كان فتى مثلك يشتغل في معمل فكان عاملا ثم جعل يترقى حتى صار ناظرا، ولكن صاحب العمل لم يرقه إلا حين ثبت له أنه ينتفع من خدمته عشرة أضعاف أجرته، وفي ذات يوم حصل اختلال في الآلة، فانتثر بعض أدواتها، وأصابت هذا الناظر في وجهه ففقأت عينيه، وشوهت وجهه، ولم يعد يستطيع أن يقوم بواجباته، فاضطر صاحب المعمل أن يرقي غيره إلى وظيفته وأعطاه تعويضا حقيرا، فلزم الرجل بيته وكان فيه ميتا في شكل حي، وقد ظلمه الذين كانوا يطيلون عمره بإحسانهم؛ لأنهم كانوا يطيلون عمر شقائه، هل رأيت وجه الشبه الآن؟ - ولكن هذا نادر لا يقاس عليه. - لا بأس من أن نضرب عنه صفحا، ونعود إلى الذي خلفه في منصبه، فإنه بذل جهده في إرضاء صاحب المعمل، وبعد عام أصيب بمرض صدري من جراء إجهاد قواه، واضطر أن يستعفي ليستشفي فلم يجد من مكافأة صاحب المعمل ما يسد حاجات الاستشفاء شهرين، فكان نصيبه نصيب سلفه، وهكذا تبدل على تلك الوظيفة في ذلك المعمل خمسة، وصاحب المعمل يتنعم متمتعا بتعبهم. - إنك تريني من الدنيا الوجه المظلم يا أبي. - أريك الحقيقة، هذا مصير السواد الأعظم من العمال والمستخدمين. - وما قولك بالذين ترقوا حتى بلغوا المناصب العالية، وصاروا أصحاب أعمال؟ - معظم هؤلاء وحوش ضوار يحسنون الحرب فقد استوطأت أقدامهم أمثالك، فسحقوهم وصعدوا إلى تلك المناصب، فإن كنت تعدني أن تكون وحشا ضاريا أبشرك بنيل المناصب العالية، لقد خدمت في بنك وفي مصلحة حكومة، أما شعرت أن غيرك كان يسحقك تحت قدميه؛ لكي يرتقي عليك؟
فبقي يوسف صامتا مفكرا.
الاهتداء إلى الفخ
في ذات يوم في تلك الأثناء كان جورجي جالسا في قهوة الشيشة كعادته، فجاءه فتى في أول الشباب وسأله: هل حضرتك المسيو جورجي آجيوس؟ - أنا هو فهل من خدمة؟ - نعم إذا كنت تتفضل وتزور أختي بضع دقائق؟ فهي في حاجة إليك. - من هي أختك؟ - لا تعرفها أنت، ولكنها تعرفك وتريد مقابلتك لأمر. - ما اسمها؟ - ماري الجهوري، فهل تريد أن تتفضل الآن؟ - لا أفهم ما شغلها مع من لا يعرفها. - متى قابلتها تفهم. - أين تسكنون؟ - في شارع عابدين.
بعد قليل كان جورجي عند تلك المرأة، وهما مختليان في غرفة فقالت: سمعت يا سيدي أنك تبحث عن فتاة. - من قال لك: إني أفعل؟ - ما من سر يبقى مكتوما فقد بلغني أن فهيم بك رماح كلفك بالبحث عن فتاة، كان يبتغي أن يتزوجها فهربت؛ لأنها لا تريده، فهل وجدت الفتاة؟ - لا أفهم بغيتك من هذا التحقيق يا سيدتي، فهبي أن الأمر كما سمعت وعلمت فما شأنك؟ - أود أن أعلم هل لك مأرب خاص بتزويج الفتاة من فهيم بك؟ - ربما كان لي فأود أولا أن أعلم غرضك. - إذن لا بد من قول ما أقوله أولا. - نعم قولي يا سيدتي فإني أسمع، هل لك علاقة بالفتاة أو بفهيم بك؟
فقالت: نعم لي علاقة بفهيم بك وحده، ولا شأن لي مع الفتاة، كان فهيم بك صديقا حميما لنا منذ جاء إلى مصر، وكان يتردد علينا كثيرا على نية أن يخطب ابنتي، فكنا نرحب به ترحاب أهل الفتاة بعريس لائق بفتاتهم إلى أن صار كواحد منا، ولكنه كان يماطل بإعلان الخطبة، ونحن نحتمل مماطلته مصدقين أعذاره، وأما ابنتي فقد تعلقت به تعلق العاشقة بالمعشوق، وليس من يلومها إذ لا يخفى عليك مقام فهيم بك، ولا سيما إذ كان دائما يمنيها ويمهد السبيل لآمالها، وقد بلغ منها الحب حتى استسلمت له وهي واثقة بوعوده، وما صحت من سكرة الحب إلا وهي في مصيبة ... - يا لله، مسكينة.
Página desconocida