وكان يوسف يرى الدمع ينسكب بغزارة من عيني جورجي فسكت معتبرا، ثم أقعده على المقعد قائلا: إني مدهوش من أمرك. - ما الذي يدهشك؟ - أرى فيك شعور الأب الحقيقي، فمن أين لك هذا؟ - منك، أما قلت لي: إنك ترد سعادتي، فقد رددتها وأنا الآن أتمتع بها. - وهذه الدموع؟ - دموع السرور واللذة، فلماذا تحرمني سعادتي؟ هل ندمت على ما نفحتني؟ - فلم يتمالك يوسف دموعه أيضا، وقال: هل تحبني كما تحب هيفاء؟ - إذا كنت تأذن لي بقبلة تعلم.
وأمسك جورجي بيدي يوسف، وهو لا يزال واقفا واجتذبه إليه وعانقه، وهو يقبل خده قبلة لا نهاية لها، والدمع يتدحرج من عينيه ونفسه يتصعد ويتصوب حتى شعر يوسف بمثل حرارة بخار، ثم ما لبث أن تراخت ذراعا جورجي عن صدر يوسف، واستلقى على ظهره ويوسف يتأثر شديد التأثر من هذا الخفقان الذي لم يفهمه.
ثم جلس يوسف إلى جانبه وهو يقبض على كفه، وقال: أحمدك يا قوة القوى؛ لأنك استجبت صلاتي إذ أنبت نبتة حب في أرض مجدبة، واستخرجت ماء من صخرة.
ابن الطبيعة
عند ذلك تنهد جورجي، وقال: من لقنك هذا اللاهوت يا يوسف؟ - مدرسي لقنني. - وماذا تلقنت من أبويك؟ - ليس لي أبوان. - إذن من ولدك؟ - الطبيعة، فأنا ابن القوة والمادة. - أين ربيت؟ - في العالم العقلي. - أين قطنت؟ - في دار الخيال. - أرجو أن تخرج إلى عالم المادة وتخاطبني، فقل متى جئت إلى مصر؟ - منذ بضعة أسابيع. - أين كنت قبلا؟ - في أوروبا. - وقبل أوروبا؟ - في القارة الغارقة في الأوقيانوس. - أي أوقيانوس؟ - أوقيانوس الجهل. - في أي قطر من أقطار تلك القارة؟ - في قطر العبيد والإماء. - العبيد والإماء؟ - نعم، عبيد السلطة المطلقة المستبدة. - تعددت السلطات المطلقة في تلك القارة، فأيها تعني؟ - أعني السلطة التي صبغ شعارها بالدم، السلطة التي تفرق العناصر ضاربة بعضها ببعض. - في أي عنصر كنت؟ - في العنصر الذي لم تكن المعرفة إلا سلاحا ينتحر به، في عنصر الدسائس، في عنصر معكوس التركيب يقوى مشتتا ويضعف متجمعا. - لماذا تركته؟ - لم أتركه بل نبذني؛ لأني غريب عن مادته. - إنك تزيد بيانك إبهاما بهذه الكنايات، فلماذا لا تسميه باسمه؟ - لأني أرتعد غضبا إذا سميته. - هل العنصر كله نبذك؟ - كلا. - إذن أتنقم على العنصر بجريرة ذرة من مادته؟ - نعم؛ لأن العنصر الذي تتنافر أجزاؤه، وتتقاتل كريات دمائه وتتهالك حتى جواهره الفردة لا أستطيع الالتئام به. - منذ متى انتبذت منه؟ - منذ صحوت من سبات الصبا. - ألم يعد يجتذبك إليه؟ - بل أنكرني. - أود مزيد إفصاح يا يوسف، هل لك أقارب في سوريا؟
فانتفض يوسف قائلا: لا تروعني بهذا الاسم. - لا ترتع فنحن بعيدان عنه الآن، فقل لي أين أهلك الماديون؟ - هناك. - من هم؟ - جد وزوجة جد وعم وأبناء عم. - تقول: زوجة جد؟ أما هي جدة؟ - كلا، بل هي جدة أولاد عمي فقط. - وأبوك؟ - لم يبق لي أب. - وأمك؟ - ولم يبق لي أم. - إخوة ... أخوات؟ - لا إخوة ولا أخوات. - ألم يزل أقاربك الذين ذكرتهم أحياء؟ - لا أدري، ولا أريد أن أدري. - عجيب هذا النفور ودمك من دمهم. - ليس عجيبا؛ ففي الطبيعة كثير من ذلك، الزيت والماء تكونا في حبة الزيتون، فمتى ولدتهما تنافرا؛ لأنهما يختلفان طبيعة مع أنهما توأمان.
ففكر جورجي هنيهة ثم قال: من أي طبيعة أبوك وأمك؟ - من طبيعتي المنبوذة. - لو بقيا حيين. - لكنت وإياهما ثالوثا متحدا.
فتدفق الدمع من عيني جورجي قائلا: لا أدري يا يوسف ما هي طبيعة أبيك الجديد من طبيعة أبيك القديم. - أشعر بألفة بينهما. - يا لله هل نسيت السجن؟ - لن أنساه.
فأجهش جورجي في البكاء قائلا: هل فعل بك أقاربك أشر مما فعلت أنا بك؟ - لا يهمني ماذا يفعل غيري بي؛ لأن الفعل بي مهما كان نوعه لا يتجاوز المادة المتغيرة، ولا يبلغ إلى القوة الخالدة. - إذن ماذا يهمك؟ - يهمني ماذا أفعل بغيري. - ماذا فعلت بأقاربك؟ - لم أستطع أن أفعل شيئا، فإذا وعظتهم كنت كناطح صخرة يكسر قرنيه والصخرة ثابتة. - وماذا فعلت بي؟ - جعلت منك أبا حنونا. - وسعيدا يا يوسف، فدعني أقبلك ثانية.
وتعانق الأب والابن عناقا قد يفهمه القارئ، ولا يقدر أن يصوره الكاتب.
Página desconocida