كيفما قلب يوسف تصرفه وجده نموذج الهمجية والتوحش، ولم يكن ليخف عنه تعذيب ضميره على ذنوبه هذه، إلا إذا خطر له ما يعتقده من تصلف الفتاة وخيلائها.
طلع الصباح ويوسف لم ينم، فنهض ولبس ثوبه وخرج ينوي الذهاب إلى مصلحة التنظيم، وفيما هو خارج من باب المنزل السفلي رأى فتاة تحملق فيه، وهي مئتزرة بمئزر «بحبرة»، فنظر فيها كأنه يسألها إن كانت تريد منه شيئا، فقالت له: بونجور مسيو يوسف. - بونجور مدموزال، أتذكر أني رأيت هذا الوجه، ولكن متى وأين لا أتذكر. - في هذه الناحية طبعا. - نعم نعم، تقطنين في المنزل المجاور لهذا المنزل، يسرني أن أراك الآن؛ لأني لم أعد أراك منذ بضعة أيام، وكنت أود أن أختلس برهة لمقابلتك، فأين كنت؟
فاحمر وجه الفتاة، وقالت: تركت هذا المنزل. - وحدك؟
فأجابت متلعثمة: وحدي. - فعلت حسنا.
فاستغربت الفتاة حديثه، واضطربت قليلا وقالت: لماذا؟ - لأنك نجوت من الهاوية. - أية هاوية هذه؟
فغالط يوسف نفسه، وقال: أما أنت الفتاة التي كنت منذ نحو أسبوع تقطنين في هذا المنزل مع أمك ورجل؟
فاكفهرت الفتاة وقالت: نعم، وكنت أراك كما تراني. - إذن لماذا تنكرين الهاوية التي كانت أمك ترميك فيها؟
فازداد اظطراب الفتاة واحمرار خديها، وقالت: كيف ترميني أمي في هاوية؟ - أما كانت تريد أن تبيعك رخيصة لسافل زنيم؟ - هل روى لك أحد خبرا؟ - كلا إنما رأيت بعيني وسمعت بأذني.
فوجفت الفتاة، وقالت بصوت خافت: ماذا رأيت وماذا سمعت؟ - رأيت الزنيم كحية حواء يستغويك؛ ليرميك في هاوية الإثم الذي لا يغتفره الناس وإن اغتفره الله، وسمعت أمك تساوم ذلك الزنيم على طهارتك، هذا ما سمعت وهذا ما رأيت. - أين ومتى؟ - منذ نحو عشرة أيام تقريبا في نحو الساعة الثالثة بعد نصف الليل، في غرفتك رأيت وفي الغرفة المجاورة لها سمعت، فذاب فؤادي إشفاقا عليك.
فانتفضت الفتاة مدهوشة جازعة، وقالت: أنت ال ... - أنا هو الذي أنذرك و... - وتهدد ذلك الفاسق؟ - نعم. - وكيف نجوت من يد الخفير؟ فقد سمعنا البرابرة الذين على السطح يستصرخون الخفير ويقولون له: إنهم قبضوا عليك. - لم أنج من يده، بل ساقني إلى المخفر. - إني آسفة. - لا تخافي، برأتني المحكمة العادلة، ولكن ألم يخرج الرجل وأمك ليروا من هذا الذي كان يتجسس عليكم؟ - لا، وإني مستغربة ذلك. - لا تستغربي؛ لأن الأثمة يخافون أن يظهروا للناس فأحمد الله أنك نجوت. - ولكن ما معنى قولك: إن أمي كانت تساوم على طهارتي؟ - أما فهمت ذلك؟ - لا. - أما فهمت شيئا من علاقة ذلك الرجل بكم؟ - فهمت أن أمي تريد أن تحبب الرجل بي؛ لكي يتزوجني وأنا كنت أمانع.
Página desconocida