تيممها ترمي إليه بنابل
وإذا بصر بفرد من أعدائه خيل إليه أنه يرى خميسا عرمرما، مثله في ذلك كالسكران ينظر إلى الشمعة الواحدة فيخالها ألف شمعة.
هذه آفات الخبل الناجم من فقدان هدوء الدماغ ورباطة الجأش المتسبب عما يبثه جماعة المتطيرين في بعض طبقات الشعب من روح التشاؤم والسخط والقنوط.
فأين هذه الحال مما يجب أن يستشعره الشعب الناهض المطالب بحقوقه من روح التفاؤل والاستبشار، والابتهاج الموقظ للهمم والعزائم، الباعث على الخفة والنشاط؟ وبارك الله في العزم والنشاط. ألم يقل الحكماء إن الدنيا تنساق للنشط المعتزم والمنجرد المصمم؟ ألا ترى أن قوة الإرادة ومضاء العزيمة تخلق له عينين جديدتين يرى بهما من ضروب الحيل والتدابير وصنوف الذرائع والوسائط ما لم يكن يراه من قبل؟ هلا نظرت إلى الرجل المتشائم الواهن العزم الفاتر الهمة كيف يجد نفسه مقرورا ويظل يرتعد ويرتعش، وعليه مثل جلد الفيل وفروة الدب من دافئ الثياب والملابس، ثم نظرت إلى «الإسكيمو» ساكن القطب ذلك المتفائل المبتهج المملوء مرحا ونشاطا كيف يصنع لنفسه ثيابا دفئه من البرد والبلل والثلج ذاته؟ أفلا تعلم - علمت الخير - أن من المصاعب والأخطار ذاتها، ومن الأهوال والمحن والمصائب يعرف الرجل المتفائل المرح العزوم كيف يخلق الأسباب والحيل لتذليل هذه المصاعب، وإزالة هذه الأخطار، وإبادة تلك المحن والمصائب؟ أليست الطبيعة ذاتها تلقي علينا هذا الدرس حينما تراها تحفظ على البحيرات دفأها وحرارتها بتغطيتها بملاءة من الثلج، وتصنع مثل ذلك بأديم الأرض بتغشيته لحافا من الجليد؟
إن المتشائم يسكن الجنة فيصيرها من جراء سخطه وضجره وفتور عزمه وقلة حيله جهنم، ويسكن المتفائل النار فيصيرها بفضل انشراحه وارتياحه وبحدة نشاطه وقوة عزيمته وسعة تدبيره وحيلته فردوسا.
إن الإنسان بفطرته متفائل مجبول على الميل إلى الاستبشار والانشراح والنشاط والعزم، وأن هذا التفاؤل هو الذي يجعله صالحا لسكنى هذا الكوكب الأرضي الذي لا يهب الإنسان شيئا على لزومه خطة التسخط والضجر وفتور الهمم والعزائم، ولكنه يسخو له بكل شيء على التزام سنة التفاؤل والابتهاج، وما يورثانه من سعة التدبير والحيلة. فأبناء البشر باعتبارهم متفائلين نشطين ترى كل فرد منهم كأنه مجموعة قوى وجعبة كفاءات فتخاله قضيب مغناطيس فوق كرة من حديد، فكل إنسان في هذا الوجود كأنه مبدع ومخترع قد أبحر في سياحة استكشافية يسترشد بخريطة ذهنه الخاصة التي لا يوجد لها نظير مع غيره من سائر البشر، وهذا العالم الأرضي يظل في نظر المتفائل وكله أبواب ومنافذ ومسالك، وكله فرص ونهز ومغانم، وكله حساس وكأن في كل موضع منه وترا مشدودا يجاوب بالنغمة المطربة كل عزفة عازف، وهذه الأرض الصخرية الصلدة هي في الحقيقة جوهر حي حساس يفيض روحا وشعورا، يتأثر بكل لمسة، ويجاوب على كل مسة وجسة، وسواء سبرت غوره بمحراث آدم أو سيف قيصر أو قارب كولومبو أو مرصد غاليلو أو منطاد زبلين فلا بد أن يجاوبك على كل واحدة من هذه التجارب بأعظم جواب وأروعه.
كذلك جبل أبناء البشر على التفاؤل، وعلى أن يستثمروا بفضله وبفضل ما يورثه من القوة والمقدرة صخرة الأرض الصلدة، ويسخروا الطبيعة الهائلة في قضاء أوطارهم ومآربهم، وعلى أن يغتبطوا ويفرحوا برؤيتهم انتصار الإنسان على الطبيعة وسيطرته على العناصر، وبرؤيتهم أن كل رجل متفائل سليم الفطرة قوي الإرادة يظل مصلحا منظما، ويكون كأنه قانون أفضى إلى تشويش وفوضى فاستخلص منه نظاما وصلاحا.
وجبل الناس أيضا باعتبارهم متفائلين نشطين على الاغتباط والفرح باستعراض ثروة الطبيعة العظمى وكنوزها العديدة، وبرؤية هذه الذخائر الجمة بمتناول من كل متفائل مستبشر من سكان هذا العالم، ولا جرم، فذلك يفجر في قلوب الناس ينابيع الأمل، ويستحثهم إلى المباراة والمساجلة في سبل النشاط والهمة.
وعلى ضد ذلك التشاؤم فإنه داعية الفتور والتبلد ومجلبة العجز والتقاعد. وقدما قيل إن انقباض التشاؤم يفقأ الأعين ويشل الذهن، فهو خليق أن يعد انتحارا تدريجيا.
وأي خير - أصلحك الله - في بث روح التشاؤم والاكتئاب في أفراد الشعب؟ وأي بركة في تشويه جمال الحياة في أعينهم، وفي تغشية أبصارهم ذلك المنظار الأسود الذي يبرز لهم كل شيء في رداء قاتم، ويكسو عروس الطبيعة الحسناء ثوب حداد، ويحيل عرسها الدائم المتجدد مأتما، ويرد بشيرها نعيا، ويحدث في السلسل الزلال أقذاء، وفي مذاق الشهد الجني مرارة، وفي انسجام النغمة الرخيمة تنافرا، ويطلع في وجنة الشمس الصقيلة نكتة سوداء، ويجري نجوم السعود بالشؤم، ويريك المشترى ضمن كواكب النحس!
Página desconocida