وعلى العكس من ذلك أي شيء أجلب للغنم والفائدة، وأدعى إلى النجح والفلاح، وأجمع لشمل الأمور، وأحوط للسلطان والدولة، وأكسب للمجد والحسب مما يورثه روح التفاؤل والاستبشار من تنبه الهمم، ونهضة العزائم الداعيان إلى التناصر والتضافر؟
بل أي شيء لا تستطيعه قوة العزيمة وبعد الهمة؟ إن قوة العزيمة لتوجد لكل باب موصد مفتاحا، ولكل شبهة مظلمة مصباحا، وتبرز كل شيء في صورة جديدة وشكل مستحدث، وقد رأينا الرجل القوي العزم المصمم المضاء يستطيع - بشكل وقفته إزاء الحادث الجلل وبنبرة صوته وسط ملتطم الخطوب ومصطدم الكروب - أن يأمر الداهية الدهياء المنهمر سيلها المتدفق تيارها فتجمد وتقف، ويزجر الكارثة النكراء المنتشر شرها المتسيطر شررها فتخمد وتكف، وقد جاء في المثل القديم: «ينال الظفر من يرى نفسه قادرا على نيله.»
أو لم نر مثل هذا الرجل الماضي العزيمة في شخص بطل النهضة الحالية عبد الخالق ثروت باشا؟ ألم يقف هذا الرجل العظيم في وجه الحادث الجلل وقفة من يشعر أنه يحمل بين جنبيه من روح الله ومدده ما هو أجل من الحادث الجلل ومن ردعه وكفه وقمعه.
وحينما رفع ثروت باشا صوته المهيب يؤيد قضية وطنه، ويطالب برد حقوقه المغتصبة، ألم يسمع الملأ في نبرات ذلك الصوت العميق تلك الرنة العاصفة القوية، النافذة إلى أعماق قلب الاستبداد، القارعة حبة فؤاد السطوة والجبروت؟ ألم يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت المرهوب ذلك الدوي القاصف القاهر الغلاب الذي ترتعد من هوله فرائص الظلم، وينزوي من هيبته شبح الباطل المتسلط على الأمم بسلاح الطغيان والعدوان؟ ألم يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت الجهير تلك الرنة المؤثرة العميقة، التي اعتاد أن يسمعها في صوت الطبيعة القاهر، المتغلب على كل قوة إنسانية في صوت الرياح العاصفة، والرعود القاصفة، والموج الطامح، والسيل الجائح؟ ألم يلق هذا الصوت الهول في نفوس الإنكليز حتى ثار له ثائرهم، وقامت من أجله قيامتهم يوم نفرت أحزابهم، ووثبت طوائفهم تفرق من عظم ما نادى به ذلك الصوت، وتستكثر ما طلبه وما اشترطه يوم ضج برلمانهم من هول تلك الشروط والمطالب، وصاحت جرائدهم، وضجت تحذر القوم من الرضوخ لتلك المطالب، وتعلن أن في قبولها ما يؤذن بتهديد عظمة الإمبراطورية وسلطانها، وإضعاف شأنها وكيانها؟
ألم يملأ هذا الصوت قلوب المصريين فرحة وطربا؟ ألم يستثر هممهم ويحفز عزائمهم ويفعم صدورهم بروح القوة والتأييد والتشجيع؟ ألم يبن لنا هذا الصوت مبلغ تأثير روح الرجل العظيم في أرواح الملايين من البشر وقوة سلطان شخصيته على شعورهم ووجدانهم؟ ألم يثبت لنا هذا الصوت أن الرجل الفرد الذي يستطيع ببصره الثاقب أن يلمح نتائج الشئون وعواقب الأمور من وراء حجب الغيب، ويستطيع أن يتبين أقصد الطرق وأسد المسالك إلى تلك النتائج والعواقب خلاف العقبات والقحم والمآزق، لهو في الحقيقة خير من ألف رجل، بل هو المسيطر والمسير للأمم والشعوب ممن لا يستطيعون استبانة النتائج والعواقب، ولا الاهتداء إلى ما يؤدي إليها من الأسباب والوسائل؟
وماذا ترى يكون الأساس الذي يقوم عليه صدق النظر ونفاذ البصيرة في عظماء الرجال أمثال ثروت باشا؟ هو بلا شك رباطة الجأش وهدوء النفس في الزعازع والزلازل، وذلك ما يؤثر عن وزيرنا الجليل ثروت. لقد روي عن أكابر قواد العالم أن أحدهم كان يزداد سكينة وهدوءا كلما ازدادت زوبعة القتال من حوله ثورة وهياجا، وأن القائد العظيم «مالبرا» كان يظل أصفى ما يكون وأدق حسابا في أشد أدوار الموقعة اضطرابا وارتباكا، وأن بعضهم كان إذا انهزم جيشه وولى الأدبار، ووقع فيه من الهرج والمرج، والتخبط والفوضى ما يعتري الجيوش المدبرة ساعة الهزيمة بلغ من صفاء ذهنه في تلك الساعة العصوف الهوجاء، ودقة تفكيره وهدوء باله أنه كان يستطيع رد تلك الفلول المنهزمة، وضم شواردها، وجمع شتاتها، وتنظيم صفوفها، والكر بها في ساحة الوغى على جيش العدو في أتم نظام وأدقه، فربما تمكن بعد ذلك من القبض على ناصية الحال، ثم من هزيمة الأعداء. ويروى عن نابليون الأول أنه كان آية معجزة في رباطة الجأش وفرط الجلد والرزانة؛ وذلك أنه خسر الدنيا بحذافيرها فلم يأبه لذلك ولم يبال وكأنه لم يخسر إلا دورا في لعبة النرد أو الشطرنج.
كل هذه الأمثال ضربناها للقراء لنظهر بها فضل تلك الخلة العظيمة - أعني رباطة الجأش وهدوء الدماغ في الزوابع والزعازع - وأنها أساس كل نجاح وسبب كل فلاح، وأن عليها مدار نهضة الأمم والشعوب وتشييد مجدها ورفعتها، ولنقارن بها (أعني بهذه الأمثال المضروبة) وافر نصيب ثروت باشا من هذه الخلة المجيدة وجسيم حظه منها، ولنبين بها أن شر ما تبتلى به الأمم والأفراد في أوقاتها العصيبة هو فقدان رباطة الجأش وهدوء الدماغ الناشئ من خور القوى ووهن العزائم المتسبب عن بث روح التشاؤم والسخط والقنوط في أفراد الشعب، وما أصدق ما قاله أحد قواد الفرنس في هذا الصدد: «إذا فقد الرجل رباطة الجأش، وتملكه الذعر فغرب عنه عقله - كما هو شأن المروع المذعور - أصبح لا يدري ما يأتي وما يذر، فإذا ما سألت الله شيئا فسله أن يفر عليك عقلك كاملا، فإنه ما دام لك ذلك فما من خطر يهددك أو كرب يحزبك إلا كنت بفضل ذهنك جديرا أن تصيب منه مخرجا بوجه ما. فأما إذا استحوذ عليك الروع، وذهبت نفسك من الجزع شعاعا فقد كتب لك الفشل والخيبة، وسد في وجهك باب النجاة والسلامة، وألفيت البر بحرا والبحر برا، وحسبت الحبل ثعبانا والقطرة طوفانا.»
كأن فجاج الأرض وهي عريضة
على الخائف المذعور كفة حابل
يؤتى إليه أن كل ثنية
Página desconocida