كان عمر يتحدث بحماس ويداه تعبران عن الغضب، أما زربة فكان يحشو فمه بالقات محلقا فوق السحاب على بساط القات، يشاهد صنعاء بعينيه وجلس فوق جبل نقم، شاهد مناظر غريبة، كأنه في كابوس مرعب: غربانا، نسورا، صقورا بأحجام كبيرة لها أياد بشرية، تحلق فوق سماء صنعاء، ونافورة حمراء من الدم وسط بحيرة من الدماء. كانت تلك النافورة ترتفع إلى عنان السماء، والطيور الجارحة تحوم حولها وتضحك كالإنسان، ثم شاهد أناسا يخوضون في الدم ويرقصون على أطراف البحيرة رقصة الحرب. كانت أرجلهم تطول حتى صاروا عمالقة. انتشروا في كل مكان وحين مر أحدهم فوقه وهو على جبل نقم تبول عليه. أخذ زربة يمسح رأسه وكتفه، فاستغرب الحاضرون في السهرة من فعلته. لعن زربة الشيطان وعاد يستمع إلى جمال عمر وهو يقول: استمر القتال بين الفريقين خمسة أيام من 18 إلى 22 أغسطس (1968م)، قصف معسكر الصاعقة ومدرسة سلاح المشاة وسلاح المدرعات ... وكان القتلى بالآلاف من ضمنهم النقيب محمد فرحان قائد سلاح المشاة، قتل وهو على سطح مقر قيادة سلاح المشاة، وانتصر اليمين الثوري علينا وانضم الكثير إليهم من الذين كانوا يقفون مع الملكيين، بعد إعلان توبتهم وغفران عما سلف عن وقوفهم مع الملكيين. هرب البعض منا إلى خارج الوطن، والبعض عمل في الزراعة والسواقة والبناء، وأخيرا التحق الكثير منا في صفوف الجبهة الوطنية.
ذهب العمال إلى النوم وهم في قهر إلى ما مضت إليه الثورة. كان زربة يعتمد على العامل جمال في نقل الأحجار المستطيلة الكبيرة تلك التي توضع على سطوح النوافذ، يرفعها رجلان شديدان فوق ظهره، كان المقاول عبد العزيز يعطيه أجرة زيادة عن الآخرين، ليس لذلك الأمر فقط؛ بل لشعوره أنه رفيق دربه في الكفاح ؛ فقد كان المقاول جنديا سابقا وهو الآن متخف عن النظام منذ عودته من ليبيا، حين ذهبوا إلى هناك باسم اليمن ليساهموا في تحرير فلسطين بعد نكسة (1967م). حاول زربة أن يذهب إلى زوجته ليلة الخميس، ويعود ليلة السبت، لكن أصدقاءه العمال والمقاول أقنعوه بالعدول عن رأيه، ووعده بحزمتين قات واثنين بواري مداع حتى الصباح. أعجب زربة بعرضهم وجلس يحدث نفسه «اصبر يا زبي إلى الخميس الثاني، لا تحرمني من القات الشراري».
6
في صباح الجمعة، التقى المقاول عبد العزيز مع الضابط جمال وجلسا معا. سأله ما لم يستطع أن يسأله أمام الغير، عن انتمائه السري للجبهة الوطنية. أسند جمال ظهره على حجرة وكان عابس الوجه، شابك كفيه تحت رأسه، وحكى عن انضمامه مع الجبهة. قال: كانت تحركاتنا تحدث ليلا في القرى المنقسمة بين مؤيد للجبهة ورجال السلطة ومؤيد للإخوان المسلمين المدعومين من مشايخ القبائل، كان بعض الفلاحين يزودوننا بالمعلومات والطعام. قاتلنا بشراسة وحين اشتد الصراع في المناطق الوسطى من البلاد، أثناء حكومة القاضي عبد الله الحجري، زرعنا الألغام للسيطرة على الأرض. كنا نباغتهم من حيث لا يعلمون، وكبدنا السلطة خسائر كثيرة. كانت هناك طلائع كثيرة من الشباب المغرر بهم من قبل السلطة التي تزج بهم في المعارك. كانوا يقاتلوننا دون معرفة بقتال العصابات، ويعتقدون أنهم يقاتلون في سبيل الله. كنا نرثي لحالهم وجثثهم ملقاة في العراء. أما الآن فكما ترى أنا هنا في القرية، بعد أن هدأت المواجهات وتراجع النشاط المسلح لفصائل اليسار، في فترة الرئيس إبراهيم الحمدي. تزوجت وفضلت أن أعيش حياة يكتنفها الحب، بدلا عن تلك الحياة التي كان يطغى عليها الكراهية. لدي الآن ثلاثة أطفال. المضحك أن أسماءنا ما زالت تنزل في كشوفات الرواتب، لا ندري من يستلمها.
ثم راح يهمس إلى المقاول: زربة هذا أراه طيبا وأخشى أن يخفي أمرا ما، فالطيبة هذه كنا نشاهدها في وجوه الفلاحين، الذين كانوا يعملون جواسيس معنا، أراه غير مهتم بمصلحة البلاد، يرى الصراع على السلطة صراع مصالح لا غير. يقول إنه صديق محمد مدهش المنتسب لحزب البعث ، الذين انضموا إلى اليمين المنتصر؛ ليحظوا بنصيبهم من السلطة.
ضحك عبد العزيز وقال: هذا هو زربة، يرى جنته في الدنيا: قات، لحم، حلاوة، مداعة. لا يهمه من يحكم الوطن، يحلم أن يتزوج الأرامل اللاتي لديهن أطفال. يقول «إنه يعمل خيرا معهن ومع أولادهن». وأنت تعرف أننا في حالة حروب مستمرة في البلاد.
استمر زربة يعمل في مناطق عدة من الحجرية مع المقاول عبد العزيز، يتنقلون من منطقة إلى أخرى: بني حماد، قدس، ... حين كان يعمل في منطقة بني يوسف، عرف أن اللص عبادة، قد سرق خيل الشيخ طربوش، وذهب به إلى سوق الثلاثاء ليبيعه. شاهده بعض الناس وكانوا يظنون أنه عبد الشيخ طربوش. وفي السوق عرف البعض أن الخيل يخص الشيخ والعبد ليس عبد الشيخ. وحاولوا الإمساك به لكنه هرب من بين أيديهم.
7
عاد زربة والحطاب إلى القرية في بداية موسم الزراعة، واشترى أثناء العودة عشر حزم قات وعشرة كيلو حلاوة. فاجأهم المطر الغزير وهم في منطقة الزبيرة، فجلسا في جرف صغير على جانب الطريق يمضغان القات ويشاهدان هطول المطر الغزير. شاهد زربة الحطاب وهو يتزحزح من مكانه قليلا إلى الأعلى، ثم أخذ يسعل بقوة، فضربه على ظهره؛ ليخرج رذاذ القات العالق في قصبته الهوائية. قال الحطاب بعد أن توقف عن السعال وقد فتح عينيه على اتساعهما: تخيلت يا زربة، سيل الوادي طلع وأغرقنا. - مش
27
Unknown page