وفي عصر يوم من تلك الأيام، أخذت زينتها، والتحفت ملاءتها وغادرت الشقة لا تعبأ شيئا في الوجود .. وانتهت إلى الطريق في أقل من دقيقة، ثم قطعت الزقاق لا تلوي على شيء. وخطر لها خاطر وهي تميل إلى الصنادقية، ألا يحق له أن يظن، بخرجتها هذه، الظنون؟ ألا تزعم له نفسه المغرورة أنها غادرت بيتها عمدا لتلقاه في الطريق؟! خصوصا وأنه لا يدري شيئا عن نزهتها اليومية المعتادة، وقد جاء أياما فلم يرها يوما تغادر البيت. فسيتبعها على الأثر، ويتعرض لها في الطريق. وقد أبت أن تقيم وزنا لظنونه، ورحبت بما عسى أن يدفعه إليه الغرور، وتوثبت للقائه بنفس تتحرق على التحدي والعراك متوعدة إياه بأن تمحو عن شفتيه هذه الابتسامة الظافرة السخيفة. وبلغت في سيرها الوئيد السكة الجديدة، فتخيلته وقد نهض من جلسته بالقهوة، وغادرها متعجلا حتى لا يضلها، ولعله ينحدر الآن بخطواته الواسعة إلى الغورية، ولعله يفتش عنها بعينيه المتفرستين الجسورتين. إنها تكاد تراه بظهرها وهو يهرول بجسمه الطويل، بينما لا تكاد ترى عيناها ما يضطرب به الطريق من أناس وسيارات وعربات. ترى هل أدرك بصره ما خرج في ابتغائه؟ .. وهل عاودته الابتسامة المتحدية الظافرة؟ .. قاتله الله من حيوان يجهل ما ينتظره! فلتواصل السير دون أن تلتفت إلى الوراء، حذار من الالتفات، فالتفاتة واحدة شر من الهزيمة. إنه وقح جريء، ولعله لا يفصلهما الآن سوى خطوات. ترى ماذا هو فاعل؟! أيقنع بتأثرها كالكلب؟ أم يسبقها قليلا ليريها نفسه؟ أم يحاذيها ويأخذ في مخاطبتها؟ وواصلت السير متنبهة قلقة، مترقبة متوثبة، تتوقع في كل خطوة جديدا، وتتفحص عيناها جميع الذين يلحقون بها من المارة، وتنصت بيقظة للأقدام التي تتحرك وراءها .. أرهقها الانتظار والتربص والتوثب، وكادت تراود إرادتها في التلفت؛ بيد أنها استعادت عنادها وفظاظتها وسارت لا تلوي على شيء، فما تدري إلا وصويحباتها من بنات المشغل يقبلن نحوها غير بعيدات، فخرجت من غيبوبتها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة، ثم سلمت، ودارت على عقبيها تسير وسطهن، وهن يسألنها عن سر غيابها أياما على غير عادة، واعتلت بالمرض وهي تعاين الطريق لترى موقعه منه. ومضت تنازعهن الحديث والمزاح وعيناها تترددان من طوار لطوار، ترى في أي مكان ينزوي؟ لعله يراها من حيث لا تراه، ومهما يكن من أمر فقد أفلتت من يديها فرصة تأديبه اليوم. كانت ترجو أن يتعرض لها بخيلائه فتزفر عليه غضبها وترعد فرائصه، ولكنه نجا من مخالبها. ولكن أين يكون؟ أيمكن أن يكون متأخرا عنهن إلى الوراء؟ ولم تستطع أن تقاوم رغبتها في التلفت هذه المرة. فالتفتت، وفحصت الطريق ببصر حاد، ولكنه لم يكن هناك .. لا إلى الوراء ولا إلى الأمام، ولا إلى اليمين ولا إلى اليسار! لعله تأخر قليلا في الإفلات من القهوة فأضلها، ولعله يتخبط الآن في الطريق لا يدري مكانها! وسرعان ما فترت حماستها وخمد نشاطها. وعندما انتهت إلى الدراسة خطر لها أنه ربما بدا لها هنا فجأة كما بدا يوما عباس الحلو، وتجدد الأمل، ونشطت الحماسة فودعت آخر صويحباتها، وعادت متمهلة تقلب عينيها في جنبات الطريق، ولكنه كان خاليا، أو كان خاليا ممن تبتغي. وقطعت ما تبقى منه بقلب كسير .. تنوء بهزيمة نكراء. وصعدت مع أرض الزقاق، واتجهت عيناها إلى القهوة، وأخذ المعلم كرشة يبدو لها شيئا فشيئا ابتداء من طرف عباءته، فكتفه الأيسر، حتى رأسه المتطامن، ثم .. رباه ما هذا؟ .. إنه لم يبرح مكانه، قابضا على خرطوم نارجيلته! .. وخفق قلبها بعنف، وتصاعد الدم إلى وجهها ورأسها، وهرولت إلى البيت لا تكاد ترى ما بين يديها، وارتقت السلم ذاهلة من الخجل - ولو أن الخجل ليس من سجاياها - وما كادت الحجرة تحتويها حتى انفجرت براكينها واستولى عليها غضب جنوني، فطرحت الملاءة على الأرض وارتمت على الكنبة. لمن إذا يجيء القهوة كل مساء؟ وكيف يسترق إليها النظر بعينيه الفاجرتين؟ .. ولمن يرسم تلك القبلة الخفية في الهواء؟! .. وتناوبت قلبها مشاعر الخيبة والحيرة والخجل والغضب. ثم انثالت عليها الفكر والخواطر: أيمكن ألا يوجد ارتباط بين مجيئه كل مساء وبين أفكارها، وأن ليست هذه الأفكار إلا أوهاما وأحلاما كاذبة؟ .. أم إنه تعمد أن يهملها اليوم تأديبا لها وتعذيبا، فهو يعبث بها عبث القوي بالضعيف؟! .. أتنهض إلى القلة وتقذفه بها فتحطم رأسه وتروي غلة الحنق والانتقام؟! واستولى عليها شعور ممض بالامتعاض لم تشعر بمثله من قبل، حتى لقد تساءلت في حيرة عما أصابها. بيد أنها لم تكن تجهل ما كانت تريد .. كانت تريد بلا شك أن يتبعها وأن يتعرض لها في الطريق.
ثم ماذا؟ ثم تقذفه بحمم الغضب، والحنق والوعيد .. لماذا؟ تحديا لثقته بنفسه وزهوه وابتسامته الواشية بالظفر. كانت ابتسامة الظفر أصل البلاء كله، فأدركت مغزاها بعقلها وغريزتها وروحها وجسمها. هي ابتسامة الصراع والعراك! وإنها على مساجلتها لقادرة، لا بل إنها لم تخلق إلا لتتلقى هذه الابتسامة ومثيلاتها فتجيب عليها. كانت تأسى على فوات معركة طالما ترقبتها بلهفة وشغف. وكانت في أعماقها تتحرق إلى أن تقيس قوتها بقوة هذا الرجل ذي الفحولة والجاه والخيلاء. هكذا تيقظت في عنف وشدة، وانبثت في نفسها روح اللهفة والتمرد والعراك والشوق.
لبثت على الكنبة فريسة لهياجها الوحشي، ثم تلفتت إلى النافذة ترمقها شزرا. وجعلت تتزحزح حتى صارت وراءها، ثم أرسلت بناظريها من خلال الخصاص، ترى ولا ترى، متلفعة بالعتمة التي غشيت الحجرة .. رأته في جلسته الهادئة، يدخن النارجيلة في طمأنينة وسلام، تلوح في عينيه الثقة بالنفس والحذق، وكأنه يعيش في عالم وحده منقطع عما حوله، وقد خلا وجهه من آثار هذه الابتسامة المثيرة. ها هو هادئ مطمئن؛ بينا هي تشتعل نارا. وتفرست فيه بقوة وحنق وما تزداد إلا انفعالا وحيرة. وظلت ملازمة مكانها حتى نادتها أمها لتناول العشاء فغادرت الحجرة. وقطعت ليلة مملة مضنية، ونهارا كئيبا، وانتظرت عصر اليوم الثاني في قلق متواصل. لم يكن يداخلها شك في مجيئه في الأيام الماضية. أما اليوم فباتت تترقب قلقة شاردة النفس. وراحت تراقب ضوء الشمس وهو ينحسر عن أرض الزقاق ويرقى وئيدا جدار القهوة. ومن عجب أن خامرها الخوف من عدم مجيئه، ولعلها ابتدعت ذلك بغريزة المحارب المشاكس وكيده. وجاء موعده دون أن يبدو له أثر، وتصرمت دقائق، فمن المؤكد أنه لا يحضر اليوم. بيد أن هذا التخلف قد حقق ظنها، فأدركت أنه تغيب متعمدا: وارتسمت ابتسامة على شفتيها وتنهدت من الأعماق ارتياحا. لم يكن من شيء واضح يدعو للارتياح حقا، ولكن غريزتها أسرت إليها بأنه إذا كان اليوم قد تخلف عن الحضور متعمدا، فلا شك أنه بالأمس تعمد كذلك ألا يطاردها، فليس ثمة إهمال أو عدم مبالاة، لا بل على العكس من ذلك فإنه يخوض غمار المعركة بمهارة وحذق، وإنه لصامد في الميدان حتى في هذه الساعة التي لا يرى له أثر فيها. وارتاحت إلى سرار غريزتها، واطمأنت إليه، وتوثبت للنضال بعزم جديد. ونبا بها المكوث في البيت فتلفعت بملاءتها وغادرت البيت دون أن تعنى بزينتها كما اعتنت بها أمس. ولفح الهواء البارد في الطريق وجهها فأنعشها، وذكرها انتعاشها بما قاست يومها من قلق وفكر، فغمغمت ساخطة: «يا لي من مجنونة! .. كيف جشمت نفسي هذا العذاب؟! ألا فليزدرده الموت!» واستحثت خطاها حتى التقت بصويحباتها، ثم عادت معهن وقد أنذرنها بأنهن سيفقدن قريبا إحداهن التي ستتزوج من زنفل صبي دكان طعمية سيدهم، وقالت إحدى الفتيات: لقد خطبت قبلها؛ ولكنها ستتزوج قبلك!
وأثارها قولها فقالت بحدة وخيلاء: إن خطيبي مشغول بإعداد مستقبل باهر.
تباهت بالحلو على رغمها، ثم ذكرت متحسرة السيد سليم علوان - قتله الله ككل شيء غير ذي نفع - فتنزى قلبها ألما، وتولاها الوجوم بقية الطريق .. شعرت بأن الحياة تعاندها وتكيد لها، والحياة هي العدو الوحيد الذي لا تدري كيف تأخذ بتلابيبه. وسارت في رفقة الفتيات حتى آخر الدراسة، ثم ودعت أخراهن ودارت على عقبيها لتعود من حيث أتت. وعلى بعد أذرع رأته - رجلها دون غيره - واقفا على الطوار كالمنتظر! وثبتت بصرها عليه لحظات تحت تأثر المفاجأة التي دهمتها، واعتراها شيء من الارتباك عضت عليه أصابع الندم بعد فوات الفرصة، ثم واصلت السير في شبه ذهول. لم تكن مستعدة لهذا اللقاء، ولم يعد يداخلها شك في أنه كان يتأثرها طوال هذا الوقت. وهكذا يحكم هو التدبير في هدوء، ويدهمها هي في كل مرة الارتباك والذهول. وأخذت تنادي قواها المبعثرة وتستعدي وحشيتها، وقد آلمها أشد الألم أنها لم تجد زينتها كما ينبغي، وأحدث لها ذلك غير قليل من القلق. كان الجو متخشعا تحت سمرة المغيب، والمكان كالمقفر، وكان الرجل ينتظر دنوها في هدوء، بوجه وديع لا أثر فيه لنظرة التحدي ولا لابتسامة الظفر، فلما حاذته خاطبها بصوت منخفض قائلا: من يتحمل مرارة الصبر يبلغ.
ولم تسمع تتمة عبارته لأنه غمغمها، فحدجته بنظرة حادة، ولم تنبس بكلمة، وسارت لحال سبيلها، فسايرها وهو يقول بصوته الهادئ العميق: أهلا وسهلا .. كدت أجن بالأمس لأني لم أستطع الجري وراءك حذر العيون، وكنت أنتظر مثل تلك الخرجة صابرا يوما بعد يوم، فلما جاءت الفرصة دون أن أستطيع انتهازها كدت أجن.
إنه يطالعها بوجه وديع، غير الوجه الذي أهاجها، فلا تحد ولا ظفر، وكلامه أشبه بالشكوى والتوجع والاعتذار، وهي إنما توثبت لغير هذا، فما عسى أن تصنع الآن؟ أتهمل شأنه وتحث خطاها فينتهي كل شيء؟
تستطيع أن تفعل هذا لو أرادت؛ ولكنها لم تجد مشجعا من قلبها، وكأنها تنتظر هذا اللقاء منذ اليوم الأول بشعور امرأة ليس الحياء من سجاياها.
وكان الرجل من ناحيته يمثل دوره بمهارة، ويحيك أكذوبة ماكرة، فلم يكن خوفه الذي أقعده أمس عن تعقبها، ولكنه استوحى غريزته اليقظة وخبرته الفائقة فأوحتا إليه بأن القعود في حالته خير من العجلة، كما أوحتا إليه اليوم بأن يتلثم بهذا القناع الزائف من الأدب والوداعة .. وعاد يقول لها برقة: تمهلي قليلا .. عندي ...
فالتفتت إليه وقاطعته بحدة: كيف سولت لك نفسك أن تخاطبني؟! .. أتعرفني يا هذا؟!
Unknown page