7
تقع الفرن فيما يلي قهوة كرشة، لصق بيت الست سنية عفيفي. بناء مربع على وجه التقريب، غير منتظم الأضلاع، تحتل الفرن جانبه الأيسر، وتشغل الرفوف جدرانه، وتقوم مصطبة فيما بين الفرن والمدخل ينام عليها صاحبا الدار: المعلمة حسنية وزوجها جعدة. وتكاد الظلمة تطبق على المكان ليل نهار، لولا الضوء المنبعث من فوهة الفرن. وفي الجدار المواجه للمدخل يرى باب خشبي قصير يفتح على خرابة، تسطع فيها رائحة تراب وقذارة؛ إذ ليس بها إلا كوة في الجدار المواجه للمدخل تطل على فناء بيت قديم. وعلى بعد ذراع من الكوة، وعلى رف ممتد، مصباح يشتعل، يلقي على المكان ضوءا خفيفا يفضح أرضه المتربة المغطاة بأنواع لا يحصيها العد من القاذورات المتنوعة، كأنها مزبلة. أما الرف الذي يحمل المصباح فطويل ممتد بطول الجدار قد رصت عليه زجاجات كبيرة وصغيرة وأدوات مختلفة وأربطة كثيرة، كأنه رف صيدلي لولا قذارته النادرة! وعلى الأرض - تحت الكوة مباشرة - كان يوجد شيء مكوم لا يفترق عن أرض المكان قذارة ولونا ورائحة، لولا أعضاء ولحم ودم تهبه الحق - على رغم كل شيء - في لقب إنسان؟ ذلك هو زيطة مستأجر هذه الخرابة من المعلمة حسنية الفرانة. وحسبه أن يرى مرة واحدة كيلا ينسى بعد ذلك أبدا؛ لبساطته المتناهية؛ فهو جسد نحيل أسود وجلباب أسود، سواد فوقه سواد، ولوا فرجتان يلمع فيهما بياض مخيف هما العينان. ولم يكن زيطة - على ذلك - زنجيا، بل إنه مصري أسمر اللون في الأصل، ولكن القذارة الملبدة بعرق العمر كونت على جثته طبقة سوداء. كذلك جلبابه لم يكن في البدء أسود، ولكن السواد مصير كل شيء في هذه الخرابة. وهو لا يكاد يمت بسبب للزقاق الذي يعيش فيه، فلا يزور ولا يزار، لا نفع فيه لأحد ولا نفع في أحد له، اللهم إلا الدكتور بوشي، والآباء الذين يستعينون بصورته على تخويف أطفالهم. وأما صناعته فمعروفة لدى الجميع، وهي صناعة تخول له لقب دكتور وإن لم يتخذه إكراما لبوشي. كان يصنع العاهات، ليست هذه العاهات الطبيعية المعروفة، ولكن عاهات صناعية من نوع جديد. يقصده الراغبون في احتراف الشحاذة، فبفنه العجيب - الذي يحشد أدواته على الرف - يصنع لكل ما يوافق جسمه من العاهات. يجيئونه صحاحا ويغادرونه عميانا وكسحانا وأحدابا وقعسانا ومبتوري الأذرع أو الأرجل. وقد اكتسب البراعة في فنه من تجارب الحياة التي صادفته، وعلى رأسها جميعا اشتغاله عهدا طويلا في سرك متجول، ولاتصاله بأوساط الشحاذين - اتصالا يرجع عهده إلى صباه حين كان يعيش في كنف والدين شحاذين - فكر في تطبيق فن «الماكياج» الذي تلقنه في السرك على بعض الشحاذين، في بادئ الأمر على سبيل الهواية، ثم على سبيل الاحتراف حين ضاقت به أوجه العيش. ومن مشاق عمله أنه يبدأ في الليل، أو عند منتصف الليل على الأصح، ولكنها مشقة غدت بالعادة مألوفة ميسرة. أما في أثناء النهار فلا يكاد يفارق الخرابة بحال، يجلس القرفصاء يأكل أو يدخن، أو يتسلى بالتجسس على الفران والفرانة. ولكم كان يلذه أن يسترق السمع لما يدور بينهما من حديث، أو أن يشاهد من ثقب الباب انهيال المرأة بالضرب على زوجها صباح مساء، حتى إذا أتى الليل رآهما وقد شملهما الصفاء وقد أقبلت المعلمة على زوجها القرد تمازحه وتباسطه السمر. وكان زيطة يمقت جعدة ويحتقره ويستقبح وجهه! وفضلا عن ذلك كله كان يحسده على ما حباه الله به من زوج «كاملة الجسم»، أو على حد تعبيره «امرأة بقري»! وكان كثيرا ما يقول عنها: إنها في دنيا النساء تقابل عم كامل في دنيا الرجال! وكان من أهم الأسباب التي دعت أهل الزقاق إلى تجنبه رائحته المنتنة، فلم يكن الماء يعرف سبيلا إلى وجهه أو جسده. وقد آثر وحشة العزلة على الاستحمام! وبادل الناس مقتا بمقت عن طيب خاطر، فكان يرقص طربا إذا قرع مسمعيه صوات على ميت، ويقول وكأنه يخاطب الميت: «جاء دورك لتذوق التراب الذي يؤذيك لونه ورائحته على جسدي!» وربما قطع وقت فراغه الطويل في تخيل صنوف التعذيب التي يتمناها للناس، واجدا في ذلك لذة لا تعادلها لذة، يتصور جعدة الفران هدفا لعشرات الفئوس تضربه حتى تتركه كتلة مهشمة كلها ثقوب! .. أو يتخيل السيد سليم علوان وقد استلقى على الأرض ووابور الزلط يروح عليه ويجيء، ودمه يجري نحو الصنادقية .. أو يتمثل له السيد رضوان الحسيني تجره الأيدي من لحيته الصهباء نحو الفرن الملتهبة ثم يستخرجونه منها زكيبة من الفحم .. أو يرى المعلم كرشة مطروحا تحت عجلات الترام يمزق أوصاله ثم يلمون أشلاءه في مقطف قذر يبيعونه لهواة الكلاب .. وغير ذلك كثير مما يراه دون ما يستحق الناس. وكان إذا باشر عمله وأخذ في صنع العاهة لطالبها، اشتد عليه في قسوة مقصودة، مستخفيا وراء سر المهنة، حتى إذا ندت التأوهات عن فريسته لمعت عيناه المخيفتان بنور جنوني. ومع ذلك كان الشحاذون أحب البشر إلى نفسه، وتمنى كثيرا لو كان الشحاذون أكثرية أهل الأرض. •••
هكذا جلس زيطة غارقا في أخيلته يترقب وقت العمل. وعندما انتصف الليل أو كاد نهض قائما، ونفخ المصباح فانطفأ وساد ظلام ثقيل. ثم تلمس طريقه إلى الباب وفتحه في هدوء بالغ، ثم اخترق الفرن إلى الزقاق، والتقى في سبيله بالشيخ درويش يغادر القهوة، وكثيرا ما يلتقيان في منتصف الليالي دون أن يتبادلا كلمة واحدة، ولذلك كان للشيخ حظ موفور في محكمة التفتيش التي ينصبها زيطة في خياله للبشر. وانعطف صانع العاهات إلى سيدنا الحسين في خطوات قصيرة وئيدة، وكان يقترب في سيره من جدران البيوت على رغم الظلمة الحالكة - كانت بعض قيود الإضاءة ما تزال موجودة - فلا يراه المقبل في الطريق حتى يصطدم بعينيه البراقتين يلمعان في الظلام لمعان القطعة المعدنية في حزام الشرطي. وفي الطريق، يداخله شعور بالانتعاش والزهو والسرور، فهو لا يشقه إلا حين يكاد ينقطع إلا من الشحاذين الذين يدينون له بالسيادة المطلقة. وشق ميدان الحسين منعطفا صوب الباب الأخضر، فبلغ القبو القديم، وجعل يردد عينيه المخيفتين بين أكوام الشحاذين على جانبيه، فملأه الارتياح .. ارتياح السيد إلى قوته، وارتياح التاجر يرى بين يديه السلع النافقة. ودنا من أقرب الشحاذين إليه، وكان جالسا القرفصاء معتمدا رأسه على ركبتيه ويغط غطيطا ، فوقف حياله لحظة متفرسا كأنما يسبر نومه؛ هل هو نوم حقيقة أو تظاهر بالنوم؟ ثم ركله في رأسه الأشعث، فانتبه الرجل من نومه - غير مذعور - كأنما أيقظته أنامل ناعمة، ورفع رأسه متثاقلا وهو يحك جنبيه وظهره بأظافره، فوقع بصره على الشبح المشرف عليه، وحملق فيه لحظة، فعرفه - على عماه - لأول وهلة. وتنهد الرجل فند عن صدره صوت كالوحوحة، ثم دس يده في صدره واستخرج مليما غمر به كف الرجل. وانتقل زيطة إلى من يليه، ثم إلى من يليهما، حتى إذا فرغ من جناح القبو جميعا اتجه نحو الجناح الآخر، ثم مضى إلى الأزقة والحواري المحيطة بالجامع الكبير لا يفلت منه شحاذ واحد. ولم يكن إكبابه على تحصيل يوميته لينسيه واجب رعاية العاهات التي صنعها، وربما سأل هذا أو ذاك: «كيف عماك يا فلان؟» أو «كيف كساحك يا فلان؟» فيجيبونه: «الحمد لله .. الحمد لله.» ثم دار حول المسجد من الناحية الأخرى وابتاع في طريقه رغيفا وحلاوة طحينية وتبغا، ورجع إلى الزقاق. كان الصمت شاملا يقطعه بين آونة وأخرى ضحكة أو سعلة ساقطة من أعلى بيت السيد رضوان الحسيني حيث تجتمع غرزة المعلم كرشة. وجاز الرجل عتبة الفرن في هدوء بالغ أن يوقظ الزوجين، ودفع بابه الخشبي في حذر ورده في سكون .. لم تكن المزبلة مظلمة كما غادرها، ولم تكن خالية. كان المصباح مشتعلا، وعلى الأرض تحته يجلس رجال ثلاثة. ودلف الرجل بينهم في هدوء؛ لأن وجودهم لم يدهشه ولم يزعجه، وعاينهم بعينيه البراقتين، فعرف منهم الدكتور بوشي. ووقفوا له جميعا، وقال له الدكتور بوشي بعد أن حياه تحية طيبة: هاك رجلين مسكينين يستشفعان بي إليك.
فتظاهر زيطة بعدم المبالاة، وقال متظاهرا بالملل: في مثل هذه الساعة يا دكتور؟!
فوضع الدكتور يده على كتفه وقال له: الليل ستار، وربنا أمر بالستر!
فقال زيطة وهو ينفخ: ولكني متعب الآن.
فقال البوشي برجاء: لا رددت لي يدا.
وراح الرجلان يضرعان ويدعوان له، فتظاهر بإذعان مرغما، ووضع الطعام والتبغ على الرف ووقف حيالهما متفرسا في أناة وهدوء، ثم ثبتت عيناه على أطولهما، كان عملاقا قويا، فدهش زيطة لمنظره وسأله: أنت بغل بلا زيادة ولا نقصان، فلماذا تروم احتراف الشحاذة؟!
فقال الرجل بصوت منكسر: لم أفلح في عمل أبدا، حاولت أعمالا كثيرة، حتى الشحاذة نفسها، ولكن لم يقدر لي التوفيق، حظي أسود، وعقلي وسخ لا أفهم شيئا ولا أتقن شيئا.
فقال زيطة بحقد: كان ينبغي إذا أن تولد غنيا!
Unknown page