الجماهير السعيدة ترقب أفاعي النور التي شرعت تتلوى في الظلام، ترقبها وتهتف، والشيخة التعسة تجيل الطرف وتبكي. وما كانت الدموع لتنقلب يوما ذهبا وفضة يفيها المدين، ويرضى بها الدائن!
هذه هي الطاولة التي تتناول عليها طعامها الغث الجاف، وهذا هو المقعد الذي طالما جلست عليه تستطلع خبايا الليل البهيم، وهذه هي المرآة الكالحة البلور التي ترجع صورة وجهها الكئيب، وقامتها الممسوخة، ودموعها الغزيرة.
وجيع، وجيع مشهد دموع اليأس في المرآة الصلبة الباردة!
كم كانت تحرص على هذه الأمتعة الحقيرة! هي تلمسها الساعة ملاطفة، شاكية، شاكرة، آسفة، إلا أنها لم تعد لها، فمن أين هي آتية بمثلها الآن؟
تعاون الرجال على إخراج أكبر متاع من الغرفة، فهرولت الشيخة إليهم، والزفير في صوتها يقطع الشهيق: هو ذا السرير! السرير الذي طالما أنال أعضاءها الكليلة راحة بعد مشقة النهار الطويل.
وضع السرير بجوار الحوائج الأخرى، ووقفت هي عنده واستولى عليها الهدوء بغتة، وطفق رأسها ينحني ببطء حتى استقر عند نحرها، وظلت كذلك كأنها في جمودها تمثال الحزن على ضريح ميت حبيب.
الجماعات تضج والمدافع تقصف، والأضواء تجعل الليل نهارا وهاجا، غير أني لم أعد أرى سوى نقاب القنوط المجلل وجه الشيخة الذليلة، وكأني لمحت غائرات الكواكب يتشاورن في مؤاساة تلك المرأة الوحيدة؛ الوحيدة وسط ازدحام الجماهير. •••
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوه الثكل والوداع يفطر لبه، وتجهده المسئولية في ميدان الأعمال، فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال.
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
Unknown page