وربما كانت الدولة الإسلامية في هذا العصر أكثر الأمم تسامحا مع المخالفين لها في الأديان، وخاصة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رغم ما كان يبدو بعض الأحيان من ظلم وعسف كالذي كان في عصر المتوكل، وقد سبق ذكره؛ وربما وقع على المسلمين من هذا الظلم ما وقع على غيرهم.
وقديما كان الامتزاج بين المسلمين واليهود والنصارى حتى في الأسرة الواحدة بما أباح الله للمسلمين أن يتزوجوا بالكتابيات.
ونرى في هذا العصر حركة اليهود والنصارى قد اتسعت عما كانت بسبب كثرة الاتصال التجاري والحربي والعلمي والمسلمون في كثير من مواقفهم يعدلون بينهم ويقربون بضعهم، حتى لقد عفوا عن المال الذي يتركه النصراني من غير وارث وردوه إلى أهل ملته؛ فالخليفة المعتضد «أمر أن يرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثا على أهل ملته»، استنادا إلى ما أفتى به يوسف بن يعقوب وعبد الحميد بن عبد العزيز القاضيان كانا بمدينة السلام من أن السنة جرت بأن أهل كل ملة يورثون من هو منهم إذا لم يكن له وارث من ذي رحمه.
105
وانتشر اليهود والنصارى في نواحي المملكة الإسلامية وأطرافها وداخلها، فبلغ عدد اليهود في العراق وحدها حول سنة 1185م/سنة 581ه على حسب تعداد بعض المؤرخين ستمائة ألف، وانتشروا في دمشق وحلب، وعلى شاطئ دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عمر والموصل والجلة والكوفة والبصرة وهمذان وأصفهان وشيراز وسمرقند. ويقول المقدسي: في خراسان يهود كثيرة، ونصارى قليلة. وكذلك يقول في همذان.
ويقول الرحالة بنيامين الذي رحل سنة 1165م/سنة 561ه: إن في القاهرة سبعة آلاف يهودي، وفي الإسكندرية ثلاثة آلاف، وفي الوجه البحري ثلاثة آلاف، وفي الوجه القبلي ستمائة.
106
وفي أوائل القرن الرابع كان في بغداد وحدها نحو من خمسين ألفا من النصارى. ويقول المقدسي في الشام: «إن أكثر الجهابذة والصياغين والصيارفة والدباغين بهذا الإقليم يهود، وأكثر الأطباء والكتبة نصارى.»
107
وانتشرت أديار النصارى في أنحاء المملكة، وكانت غنية ببساتينها وخمورها، واتصل الأدباء بها وأكثروا من القول فيها.
Unknown page