هذه الطائفة كان من صداها في هذا العصر ظهور نوع من الأدب جديد هو مقامات بديع الزمان الهمذاني، ثم الحريري، وكلها حكايات قصيرة تدور كل منها حول حيلة يحتالها رجل لكسب شيء من المال عن طريق التكدي، صيغت في أسلوب أدبي. وكل مقامات البديع بطلها أبو الفتح الإسكندري، وكل مقامات الحريري بطلها أبو زيد السروجي، والبطل يحتال لقنص المال في كل مقامة.
وقد ورد ذكر الساسانيين في مقامات بديع الزمان، وأوضح لنا الحريري في مقامته المسماة بالمقامة الساسانية كثيرا من البواعث الدافعة على التسول، فقال: «سمعت أن المعايش إمارة، وتجارة، وزراعة، وصناعة، فمارست هذه الأربع؛ لأنظر أيها أوفق وأنفع، فما أحمدت منها معيشة، ولا استرغدت عيشة، أما فرص الولايات، وخلس الإمارات، فكأضغاث الأحلام، والفيء المنتسخ بالظلام، وناهيك غصة بمرارة الفطام، وأما بضائع التجارات فعرضة للمخاطرات، وطعمة للغارات، وما أشبهها بالطيور الطائرات، وأما اتخاذ الضياع، والتصدي للازدراع، فمنهكة للأغراض، وقيود عاتقة عن الارتكاض، وقلما خلا ربها عن إذلال، أو رزق روح بال، وأما حرف أولي الصناعات فغير فاضلة عن الأقوات، ولا نافقة في جميع الأوقات ... ولم أر ما هو بارد المغنم، لذيذ المطعم، وافي المكسب، صافي المشرب؛ إلا الحرفة التي وضع ساسان أساسها، ونوع أجناسها، وأضرم في الخافقين نارها، وأوضح لبني غبراء منارها ... إذ كانت المتجر الذي لا يبور، والمنهل الذي لا يغور ... وكان أهلها أعز قبيل، وأسعد جيل، لا يرهقهم مس حيف، ولا يقلقهم سل سيف ... ولا يرهبون ممن برق ورعد، ولا يحفلون بمن قام وقعد ... أينما سقطوا لقطوا، وحينما انخرطوا خرطوا، لا يتخذون أوطانا، ولا يتقون سلطانا.»
ثم بين شروط النجاح فيها، وقال: إنها تحتاج إلى النشاط والحركة، وإلى الفطنة، وإلى القحة، وإلى المكر والحيلة، وروى أنه كان مكتوبا على عصا شيخنا ساسان: «من طلب جلب، ومن جال نال.» كما أنها تحتاج إلى الخلب بصوغ اللسان، وسحر البيان، والصبر، وعدم اليأس، وتفضيل الذرة المنقودة على الدرة الموعودة ... إلخ.
واشتهر من شعراء بني ساسان في القرن الرابع شاعران كبيران يعاصران البديع، ويسبقان الحريري، وهما الأحنف العكبري، وأبو دلف الخزرجي. فالأحنف كان آدب بني ساسان ببغداد، وقد اشتهر بالظرف والشعر الرقيق في الحرفة الساسانية، كقوله:
قد قسم الله رزقي في البلاد فما
يكاد يدرك إلا بالتفاريق
ولست مكتسبا رزقا بفلسفة
ولا بشعر ولكن بالمخاريق
والناس قد علموا أني أخو حيل
فلست أنفق إلا في الرساتيق
Unknown page