وأخلاقه تنأى به وتخالف
فلما وصل إلى مصر، مات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها، فزعموا أنه قال وهو يتقلب: «لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا.»
34
وهذا أبو حيان التوحيدي البغدادي، وهو ما هو في علمه الواسع وأدبه الفياض، وفلسفته، وبلاغته، وتصوفه، واتصاله بالوزراء والعلماء، وكده في الحياة البوراقة ونسخ الكتاب، وتآليفه الكثيرة، كل هذا ويقول محدثا عن نفسه: «ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.»
35
ولما أعيته الحيل تحول طلبه وملقه ورياؤه ونفاقه إلى غيظ من الناس وحقد عليهم، فأحرق في آخر أيامه كتبه، وقال: «إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة عندهم، ولمد الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله.»
وقد ملأ كتابه «الإمتاع والمؤانسة» شكوى من الفقر ومن سوء الحال، ورفع صوته إلى الوزراء والأغنياء، فعاد من ذلك كله صفر اليدين.
وهذا أبو سليمان المنطقي، أعقل عقلاء بغداد وأوسعهم نظرا، وأعمقهم فكرا، ومن اطلع على الفلسفة اليونانية، فأدرك أسرارها، وعرف مراميها وأغراضها، مع استقلال في الفكر، وشخصية ممتازة في الحكم، وكان أعور، وكان به برص منعه من الاتصال بالناس، وحمله على لزومه منزله، فلم يتصل به إلا تلاميذه الذين عرفوا قدره، ولم يجدوا بغيتهم عند غيره - كان فقيرا، وقال فيه أبو حيان، وهو من تلاميذه: «إن حاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكن، وعن وجبة غدائه وعشائه.» فلما من عليه الوزير ابن سعدان بمائة دينار، سره ذلك غاية السرور، وترفل وتحنك.
وهذا أبو علي القالي البغدادي، ضاقت به الحال قبل أن يرحل إلى الأندلس، حتى اضطر أن يبيع بعض كتبه، وهي أعز شيء عنده، فباع نسخته من كتاب «الجمهرة» وكان كلفا بها، فاشتراها الشريف المرتضى، فوجد عليها بخط أبي علي:
أنست بها عشرين حولا وبعتها
Unknown page