وقبل إقامة الأفغاني في مصر كان الأدباء يحصرون مواهبهم في مدح الكبير، والتغني بمآثر الوزير، فإذا خرجوا من هذا النطاق نظموا الشعر الماجن، وتباروا في تبادل الهجاء بقصائد أو مقطوعات نثرية، تعتمد على التلاعب باللفظ والإغراق في المجون؛ ليضحكوا أرباب الجاه ويتلقوا منهم الهدايا!
وجاء الأفغاني فجعل للأدب هدفا، وحوله من تسلية وترف إلى تعبير عن آمال الشعب وانفعال بمآسيه، وجعل من الكلمة سلاحا ونشيدا وأغنية.
وكان الأديب المؤرخ اللبناني سليم العنجوري يقيم في مصر، وكان من أصدقاء الشيخ، وقد وصفه فقال: «كان جمال الدين الأفغاني يقطع بياض نهاره في داره، حتى إذا جن الظلام خرج متوكئا على عصاه إلى مقهى قرب الأزبكية، وجلس في صدر جماعة تلتف حوله على هيئة نصف دائرة، ينتظم فيها اللغوي، والشاعر، والمنطقي، والطبيب، والكيماوي، والتاريخي، والجغرافي، والمهندس، والطبيعي، فيتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، فيحل عقد أشكالها بلسان عربي مبين، لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال، حتى إذا اشتعل رأس الليل شيبا قفل إلى داره، بعد أن ينقد صاحب المقهى كل ماله في ذمة ذلك الجمع الأنيق.»
وكانت الحكومة قد خصصت للأفغاني عشرة جنيهات شهرية، ثم قطعتها عنه، فكان بعض الأعيان يمدونه بالمال، وهم يتوسلون إليه أن يقبله منهم، فكان يأخذ فقط القليل الذي يكفيه.
ويقول العنجوري: إن جمال الدين الأفغاني أخذ يقرب إليه العوام ويقول لهم: إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتسومكم حكوماتكم الحيف والجور ، وتستنزف عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم صامتون.
انظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بعظمة آبائكم وعزة أجدادكم، هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكراتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارا.
ويرى العنجوري أنه منذ ذلك الحين طارت شرارة الثورة العرابية.
وقد سجل جمال الدين الأفغاني في خاطراته التي جمعها المخزومي باشا، أنه ترك الحفل الماسوني الاسكوتلاندي وألف محفلا آخر تابعا للشرق، وسرعان ما بلغ أعضاؤه أكثر من ثلاثمائة عضو من نخبة المفكرين والناهضين المصريين، وكان جمال الدين في هذا المحفل مطلق الحرية، نظم فيه لجانا للأعمال المختلفة؛ بعضها للحقانية، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجهادية ... إلخ، وكل لجنة أو كل شعبة - كما كان يسميها - تدرس الشئون المختصة بها وتعرف وجوه إصلاحها، وما يقع من الظلم فيها، ثم تتصل بالوزير المسئول وتبلغه رغباتها.
بهذا التفكير المنتظم، وهذه العقلية النيرة، والروح الثائرة، استطاع جمال الدين الأفغاني أن يدخل الكهرباء في عقول الشعب ومشاعره، وكانت هذه المشاعر قبل ذلك ظلمات جامدة، تتعرض بين حين وآخر لشمعة أو ذبالة مصباح، فأشاع فيها الهزة، والحرارة، والضوء! •••
ونتابع جمال الدين الأفغاني بعدما رحل من مصر، فنراه في الهند يقيم في «حيدر أباد»، وكان قد أحدث فيها هزة فكرية دينية كبيرة، فلما قامت الثورة العرابية نقلته السلطات البريطانية في الهند إلى «كلكتا»، ووضعته تحت الحراسة، وعندما انتهت ثورة عرابي ودخل الإنجليز مصر، سمحت له السلطات البريطانية بمغادرة الهند إلى أي بلد غير شرقي!
Unknown page