محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه، 1703-1791م)
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
السيد عبد الرحمن الكواكبي (1265-1320ه، 1848-1902م)
محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه، 1703-1791م)
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
السيد عبد الرحمن الكواكبي (1265-1320ه، 1848-1902م)
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
تأليف
أحمد أمين
محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه، 1703-1791م)
هو زعيم الفرقة التي تسمى الوهابية، وتعتنق مذهبه الحكومة الحاضرة في الحجاز.
نشأ في بلدة تسمى (العيينة) في نجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة، وسافر إلى المدينة ليتم تعليمه، ثم طوف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغداد، وسنة في كردستان، وسنتين في همذان، ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراف والتصوف، ثم رحل إلى «قم»، ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة.
وأهم مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله» والتي تميز الإسلام بها عما عداه، والتي دعا إليها «محمد»
صلى الله عليه وسلم
أصدق دعوة وأحرها، فلا أصنام ولا أوثان، ولا عبادة آباء وأجداد، ولا أحبار
1
ولا نحو ذلك، ومن أجل هذا سمي هو وأتباعه أنفسهم «بالموحدين»، أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليهم خصومهم واستعمله الأوربيون، ثم جرى على الألسن.
وقد رأى أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي؛ أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع، ودخله كثير من الفساد.
فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، والمشرع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره، لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه، هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له، فمعنى لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم وفقا لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو، وهذا هو محرر القرآن:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
إذا فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيرا من خلقه؟ فهؤلاء الأولياء يحج إليهم، وتقدم لهم النذور، ويعتقد أنهم قادرون على النفع والضر. وهذه الأضرحة لا عدد لها، تقام في جميع أقطاره، يشد الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها، ويتذللون لها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم، ففي كل بلدة ولي أو أولياء، وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة تشرك مع الله تعالى في تصريف الأمور ودفع الأذى وجلب الخير. كان الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين، يتقرب إليه بذوي الجاه عنده وأهل الزلفى
2
لديه ويرجون في إفساد القوانين وإبطال العدل. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله
وقولهم:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
بل وا أسفاه؟ لم يكتف المسلمون بذلك بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد، فهؤلاء أهل بلدة «منفوخة» باليمامة يعتقدون في نخلة هناك لها قدرة عجيبة، من قصدها من العوانس تزوجت لعامها، وهذا الغار في «الدرعية» يحج إليه الناس للتبرك، وفي كل بلدة من البلاد الإسلامية مثل هذا،؛ ففي مصر شجرة الحنفي، ونعل الكلشني، وبوابة المتولي
3
وفي كل قطر حجر وشجر. فكيف يخلص التوحيد مع كل هذه العقائد؟.
إنها تصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجردها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي.
وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه «محمد بن عبد الوهاب»، وهو أن الله وحده هو مشرع العقائد، وهو وحده يحلل ويحرم، فليس كلام أحد حجة فن الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين، فالله يقول:
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فكلام المتكلمين في العقائد وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا، إنما أمامنا الكتاب والسنة، وكل مستوف أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد، بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام - على حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صح من السنة - ما يؤديه إليه اجتهاده، وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين؛ إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مقلدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مقلد مثلهم، حتى انحط شأنهم وتفرقوا أحزابا يلعن بعضهم بعضا، ولا منجاة من هذا الشر إلا بإبطال هذا كله، والرجوع إلى الدين في أصوله، والاستقاء من منبعه الأول.
وهكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك، وفكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة.
هذا هو أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب، وعلى هذا الأساس بنيت الجزئيات.
اقتفى في دعوته وتعاليمه عالما كبيرا، ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو «ابن تيمية». وهو - مع أنه حنبلي - كان يقول بالاجتهاد ولو خالف الحنابلة، وكان حر التفكير في حدود الكتاب وصحيح السنة، ذلق اللسان، قوي الحجة، شجاع القلب، لا يخشى أحدا إلا الله، ولا يعبأ بسجن مظلم، ولا تعذيب مرهق، فهاجم الفقهاء والمتصوفة، ودعا إلى عدم زيارة القبور والأضرحة وهدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة، ولم يعبأ إلا بما ورد في الكتاب والسنة، وخالف إمامه أحمد بن حنبل حين أداه اجتهاده إلى ذلك.
فيظهر أن «محمد بن عبد الوهاب» عرف ابن تيمية من طريق دراسته الحنبلية، فأعجب به، وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب، فكان ابن تيمية إمامه ومرشده وباعث تفكيره، والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح.
دعا مثله إلى رد البدع والتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله وحده، لا إلى المشايخ والأولياء والأضرحة ، ولا بواسطة توسل ولا شفاعة، وزيارة القبور إن كانت فللعظة والاعتبار، لا للتوسل والاستشفاع، فهم لا يملكون شيئا بجانب الله وقوانينه الثابتة التي لا تتخلف والتي نظم الله بها كونه، فالذبح للقبور والنذور لها والاستغاثة بها والسجود عندها شرك لا يرضاه الله، وهو هدم للتوحيد - الذي جاء به الإسلام - من أساسه، ومثل ذلك تجصيص القبور
4
وبناية الأضرحة وتشييد الأبنية عليها، وكسوتها بالحرير المذهب وما إلى ذلك، فكل هذه لا يعرفها الإسلام.
فكانت دعوة ابن عبد الوهاب حربا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد، فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغنى فيها ويرقص، ولا «محمل» يتبرك به ويتمسح، ويحتفل به هذا الاحتفال الضخم، وهو ليس إلا أعوادا خشبية لا تضر ولا تنفع.
كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يزال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك. فلا إله إلا الله معناها كل ذلك. والكتب المملوءة بالتوسلات كتب ضارة بالعقائد، كدلائل الخيرات، وما في البردة من مثل قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حدوث الحادث العمم
5
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
وقوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
6
ونحو ذلك، أقوال فاسدة كاذبة. فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه.
لقد كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له سبب إلا العقيدة، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وكانت لا إله إلا الله معناها السمو بالنفس من الأحجار والأوثان وعبادة العظماء وعدم الخوف من الموت في سبيل الحق، وعدم الخوف من استنكار المنكر والأمر بالمعروف مهما تبع ذلك من عذاب، ولا قيمة للحياة إلا إذا بذلت في رفع لواء الحق ودفع الظلم، وهذا هو الفرق الوحيد بين العرب في الجاهلية والعرب في الإسلام، وبهذه العقيدة وحدها غزوا وفتحوا وحكموا. ثم ماذا؟
ثم لم يتغير شيء إلا في العقيدة، فتدنوا من سمو التوحيد إلى حضيض الشرك، فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد خشب وقبور أولياء، وركنوا إلى ذلك في حياتهم العامة، فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه، والبقرة تحيا إذا نذرت للسيد البدوي أو مثله، وتموت إذا لم تنذر، وهكذا في الأمراض والعلل والغنى والفقر! كلها لا ترجع إلى قوانين الله الطبيعية، وإنما ترجع إلى غضب الأرواح ورضاها، ومثل هذه النفوس الضعيفة التي تذل للحجر والشجر والأرواح، لا تستطيع أن تقف أمام الولاة والحكام الظالمين تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر، فذلوا للحكام والأغنياء كما ذلوا للخشب والأحجار. وما زال كل قرن يمر تزداد معه الآلهة عددا وتزداد النفوس ذلة، حتى وصلت الحال بالأمة الإسلامية إلى فقد سيادتها، وانهيار عزتها. ولا يصلح آخر الإسلام إلا بما يصلح به أوله، فلا بد من العودة إلى الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة، ولا بد من هدم هذه البدع والخرافات باللين إن نجح، وبالقوة إن لم ينجح، والله المستعان.
لم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدينة الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد علي باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها، فعنده أن العقيدة والروح هما الأساس وهما القلب إن صلحا صلح كل شيء، وإن فسدا فسد كل شيء، وطبيعي أن يكون هذا هو الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر.
أما بعد.. فإن التوحيد الصحيح المطلق المجرد عن شائبة كل تجسيم، المنزه عن كل تشخيص، الذي يصل العبد بربه من غير وساطة ولا وسيلة، مطلب عسير لا يستطيعه إلا الخاصة أو خاصة الخاصة. أما من عداهم فيشعرون بالتوحيد لحظات ثم سرعان ما يتدهورون، ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص، وأسلوب من التجسيم على نحو ما، ثم يتخذون من الصالحين وسائل وزلفى - كان ذلك في الجاهلية، وكان ذلك في الإسلام بعيد البعثة إلى الآن.
فالمؤرخون يروون أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بنية على اللات،
7
فأمر النبي بهدمها، فطلبوا منه أن يترك هدمها شهرا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم في الدين، فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهم بهدمها.
وفي الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تسمى «ذات أنواط» كانوا يعلقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها، فسأل بعض المسلمين رسول الله يجعل لهم كذلك «ذات أنواط» فنهاهم عن ذلك.
ولما جاء عمر شعر أن بعض الناس أخذ يحن إلى العادات الجاهلية القديمة، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقطعت.
ولما رأى عمر كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجليه الصخرة عند فتح بيت المقدس، قال له: «ضاهيت والله اليهود يا كعب».
وهكذا ما لبث بعض الناس حتى تراجع عن التوحيد المطلق الذي جاء به الإسلام؛ لأن التحرر من المادة بأشكالها جميعا، والإفلات من قيود الحس، والتسامي إلى الله فوق المادة وفوق الحس وفوق التشخيص، يتطلب منزلة رفيعة من السمو العقلي تعجز عنه الجماهير.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن من كان من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».
ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرجال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهما إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عذب وأهين ورمي بالكفر والإلحاد كما فعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع، وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية فعذب وسجن، وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا، فدعا مثل هذه الدعوة فرمى بالكفر. وأخيرا جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد.
هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب، فماذا كان شأنها ومصيرها؟
1
كانت جزيرة العرب عندما دعا محمد بن عبد الوهاب دعوته - التي شرحناها فيما مضى - أشبه شيء بحالتها في الجاهلية، كل قبيلة تسكن موضعا يرأسها أمير منها. هذا أمير في الإحساء، وهذا أمير في العسير، وهؤلاء أمراء في نجد إلخ، ولا علاقة بين الأمير والأمير إلا علاقة الخصومة غالبا. ثم تتوزعها - أيضا - الخصومة بين البدو والحضر، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحضر فعل، ومن قدر من الحضر على التنكيل ببدو فعل، والطرق غير مأمونة، والسلب والنهب على أشدهما، وسلطة الخلافة في الأستانة تكاد تكون سلطة اسمية، ومظهرها تعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود وكفى.
لقد بدأ «محمد بن عبد الوهاب» يدعو دعوته - التي ذكرناها - في لين ورفق بين قومه، ثم أخذ يرسل الدعوة لأمراء الحجاز والعلماء والأقطار الأخرى، حاثا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى الإسلام الصحيح.
كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، ولكنها مرت بسلام، وإن شابها شيء فسجن الداعي أو التشهير به ورميه بالكفر أو الزندقة، ثم ينتهي الأمر ويعود الناس سيرتهم الأولى، بل نرى من قام بمثل هذه الدعوة - فعلا - في المغرب كالشيخ أبي العباس التيجاني، فقد أمر بترك البدع ونهى عن زيارة القبور، وكثرت أتباعه حتى بلغت مئات الألوف، ولكن لم يلفت الناس والحكام أمره كما لفتهم محمد بن عبد الوهاب، وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة، فأجابه بعضهم ، وأنكر عليهم بعضهم، ثم أسدل الستار. فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟
السبب في هذا ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيئ لغيرها.
فقد اضطهد في بلده العيينة، واضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود، وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها، وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير، وهو اجتماع السيف واللسان، وزاد الأمر خطورة نجاح الدعوة شيئا فشيئا، ودخول الناس أفواجا فيها، وإخضاع بعض الأمراء بالقوة لحكمها، وكلما دخلوا بلدة أزالوا البدع وأقاموا تعاليمهم، حتى هددت الحركة كل جزيرة العرب، ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يسيروا سيرة أبويهم في نصرة الدعوة متكاتفين، وظلوا يعملون حتى غلبوا على مكة والمدينة.
وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزا إسلاميا ممتازا، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما.
فأرسل السلطان محمود إلى محمد علي باشا في مصر أن يسير جيوشه لمقاتلة الوهابيين، وكما أرسلت الجيوش لمقاتلتهم أرسلت الدعاية من جميع الأقطار الإسلامية للنيل من هذه الدعوة وتكفير مبتدعيها. وحمل علماء المسلمين عليها حملات منكرة وألفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها.
وهكذا حدثت الحرب بالسيف والحرب بالكلام، كل هذا خدم الدعوة الوهابية بلفت الأنظار إليها ودورانها على كل لسان، وزاد في شأنها أن الوهابيين انتصروا على حملة محمد علي باشا الأولى بقيادة الأمير طوسون.
ثم أعد محمد علي باشا العدة القوية الكبيرة، وسار بنفسه وحاربهم بخير سلاحه، فانتصر عليهم، وأتم النصر ابنه إبراهيم باشا، وانهزمت قوة الوهابيين.
ولكن بقيت الدعوة إلى أن هيئ لها في العهد الحاضر المملكة السعودية الحاضرة في تاريخ طويل لا يعنينا هنا، وإنما يهمنا الدعوة وما تم لها.
إن الدعاية التي أحكمت ضدها، وتعلق الناس بالدولة العثمانية، وميلهم الشديد أن تظل بلادها وحدة لا ينفصل عنها جزء، جعلت عامة المسلمين في أقطار العالم الإسلامي يفرحون بهزيمة الوهابية. ولو لم يفهموا جوهر دعوتها، وشيء آخر كان كبير الأثر في تنفير عامة المسلمين من هذه الحركة، وهو أنها حيث استولت على بلد نفذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظرها حتى يؤمن الناس بدعوتها، فلما دخلوا مكة هدموا كثير من القباب الأثرية، كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومولد أبي بكر وعلي، ولما دخلوا المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة التي كانت على قبر الرسول، فهذه كلها أثارت غضب كثير من الناس وجرحت عواطفهم، فمنهم من حزن على ضياع معالم التاريخ، ومنهم من حزن على الفن الإسلامي، ومنهم من حزن لأن مقبرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وفخامتها مظهر للعاطفة الإسلامية وقوة الدولة، وهكذا اختلفت الأسباب واشتركوا في الغضب. والوهابيون لم يعبثوا إلا بإزالة البدع والرجوع بالدين إلى أصله.
وقد اهتموا بالناحية الدينية وتقوية العقيدة وبالناحية الخلقية مما صورها الدين، ولذلك حيث سادوا قلت السرقة والفجور وشرب الخمور وأمن الطريق وما إلى ذلك، ولكنهم لم يمسوا الحياة العقلية، ولم يعملوا على ترقيتها إلا في دائرة التعليم الديني. ولم ينظروا إلى مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها. وكان كثير منهم يرون أنا ما عدا قطرهم من الأقطار الإسلامية التي تنشر فيها البدع ليست ممالك إسلامية، وأن دارهم دار جهاد، فلما تولت حكومة ابن سعود الحاضرة كان لا بد أن تواجه هذه الظروف، وتقف أمام منطق الحوادث. ورأت نفسها أمام قوتين قويتين لا معدى
8
لها عن مسايرتهما، قوة رجال الدين في نجد المتمسكين أشد التمسك بتعاليم ابن عبد الوهاب والمتشددين أمام كل جديد، فكانوا يروا أن التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والعجلات من البدع التي لا يرضى عنها الدين، وقوة التيار المدني الذي يتطلب نظام الحكم فيه كثيرا من وسائل المدنية الحديثة كما يتطلب المصانعة والمداراة، فاختطت لنفسها طريقا وسطا شاقا بين القوتين، فقد عدلت نظرها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى وعدتهم مسلمين، وبدأت تنشر التعليم المدني بجانب التعليم الديني، وتنظيم الإدارة الحكومية على شيء من النمط الحديث، وتسمح للسيارات والطيارات واللاسلكي بدخول البلاد واستعمالها وما إلى ذلك، وما أشقه عملا، التوفيق بين علماء نجد ومقتضيات الزمن، وبين طبائع البادية ومطالب الحضارة.
لم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية، بل تعدتها إلى غيرها من كثير من الأقطار الإسلامية، وكان موسم الحج ميدانا صالحا وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها. فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا إليها. فنرى في زنجبار طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب، ويدعون إلى ترك البدع، وعدم التقرب بالأولياء.
وقام في الهند زعيم وهابي اسمه السيد أحمد. حج سنة 1822م. وهناك آمن بالمذهب الوهابي، وعاد إلى بلاده، فنشر هذه الدعوة في بنجاب وأنشأ بها شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانها يمتد حتى هدد شمال الهند، وأقام حربا عوانا
9
على البدع والخرافات، وهاجم الوعاظ ورجال الدين هناك. وأعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته، وأن الهند دار حرب، ولقيت الحكومة الإنجليزية متاعب كثيرة شاقة من أتباعه، حتى استطاعت إخضاعهم.
وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجا، وسمع الدعوة الوهابية واعتنقها، وعاد إلى الجزائر يبشر بها، ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب كما سيأتي بيانه.
وفي اليمن ظهر أعلم علمائه، وإمام أئمته وهو الإمام الشوكاني المولود سنة 1172ه. فسار على هذا النهج نفسه، وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب، وألف كتابه القيم «نيل الأوطار» شارحا فيه كتاب ابن تيمية «منتقى الأخبار»، عارضا الأحاديث النبوية، مجتهدا في فهمها، وفي استنباط الأحكام الشرعية منها ولو خالف المذاهب الأربعة كلها، وحارب التقليد ودعا إلى الاجتهاد، وثارت من أجل ذلك حرب كلامية شعواء
10
بينه وبين علماء زمنه، كان أشدها في صنعاء. وألف في ذلك رسالة سماها «القول المفيد في حكم التقليد»، ودعا في قوة إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها، فقال في نيل الأوطار
11 : «وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. «ومع هذا النكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالما ولا متعلما، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ، وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على شركهم، قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين وثالث وثلاثة. «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟».
وقد مات الإمام الشوكاني سنة 1250 بعد أن أبلى في هذا بلاء عظيما، وخلف تلاميذ كثيرين يدينون برأيه.
وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول إلى عهد ابن تيمية، إلى عهد ابن عبد الوهاب، وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بني عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: (1) محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى، و(2) فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين، ولكنه امتاز بميزة كبرى عمن عداه، وهي ثقافته الواسعة الدينية والدنيوية، ومعرفته بشئون الدنيا وأسسها وتياراتها، وذلك بتربيته الدينية الأولى المستمرة، ورحلاته إلى أوربا يخالط علماءها وفلاسفتها وساستها. فلما تعرض لمثل ما تعرض له ابن عبد الوهاب فلسف الدعوة وركزها على أسس نفسية واجتماعية، كما شارك في تركيزها على الأسس الدينية، ففي دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الرواق العباسي بالأزهر، كان ينتهز كل إشارة لآية ولو من بعيد تندد بالشرك فيفيض في الحملة على عبادة الصالحين، وزيارة القبور والشفاعة والتوسل وما إلى ذلك. فيطيل الوقوف - مثلا - عند قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب
فيقسم الشيخ الأنداد إلى قسمين: هؤلاء الشفعاء الذين اتخذتهم الناس وسيلة للقرب من الله يستقصونهم في الحوائج، وهؤلاء الذين يقلدون في الدين يتخذ قولهم شرعا من غير حجة ولا برهان. وتظهر فلسفته للمذهب في بيان الأضرار النفسية من هذه العقائد، فهي تورث الذل وتخضع الناس للحكام الظالمين، تحط النفوس إلى الدرك الأسفل، ثم هي تضر اجتماعيا باعتماد الناس على هؤلاء الأولياء بتركهم القوانين الطبيعية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها لحصول المسبب، فالزراعة إنما تنجح بالحرث والتسميد والبذر والسقي، لا بالاستغاثة بولي، والحرب إنما تكسب باتخاذ سلاح مجهز على آخر طراز كسلاح العدو، وإعداد العدة الكاملة كما يفعل العدو، لا بالاستعانة بأهل القبور، وفضيلة المسلم أن يستعين بعد ذلك كله بالله وحده، يطلب منه أن يثبت قلبه، ويلهمه التوفيق. وهكذا كان يفيض في هذين الأساسين مفندا آراء من يقول بالتوسل والشفاعة والتقليد.
وينتهز فرصة وجود جماعة من العلماء عنده في يوم مولد النبي، ودعوته للعشاء عند أحد المحتفلين، فيبين لهم أن هذه الموالد كلها منكرات، ويتمنى لو أنفق ما يصرف في الموالد على تعليم الفقراء، ويناظرهم في ذلك مناظرة تنتهي بانصراف العلماء إلى العشاء في المولد، وامتناع الشيخ وحده.
ويضع الشيخ تفسيرا لجزء «عم» للناشئة فيلتمس كل وسيلة للحملة على كل ما يشوب التوحيد من شرك بعبادة المشايخ والقبور والأضرحة والتخريف، راجيا أن ينشأ الشباب نشأة دينية صحيحة خيرا مما عليه آباؤهم - وأعانه في هذه السبيل تلميذه وصديقه السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فقد ملأها كذلك بمثل هذه الدعوة ومثل هذه الحجج، يسمع بها المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية.
وفي تركيا قامت الحكومة التركية الكمالية بمحاربة هذه البدع والخرافات، فأغلقت التكايا وكانت عش التدجيل، وطاردت المشايخ، واضطهدت المهرجين، ولكن الفرق بين هذه الحركة وما قبلها أن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الدين والإصلاح الديني، والرجوع إلى الأصول الدينية، أما هذه الحركة فمؤسسة على العقل المطلق، وفكرة الإصلاح الاجتماعي من غير أن يكون الدافع إليها الرغبة في الإصلاح الديني.
وأخيرا وقد مضى على هذه الدعوة الإصلاحية من عهد محمد بن عبد الوهاب إلى الآن عشرات السنين، واشترك في تنظيم الغزوة عشرات من الأبطال، فماذا كانت النتيجة؟
ظلت عامة المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية - كما هم - من حيث الالتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور والأضرحة، وظلت على عادتها في الاحتفال بالموالد ونحوها وإن قل بهاؤها ورونقها، وإنما تأثر بهذه الدعوة الخاصة أو خاصة الخاصة. كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونمو عقليتهم، فلم يلجأوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم، ولكن أخشى أن يكون كثير منهم لا يلجأ إلى الله أيضا كما كان يلجأ آباؤهم.
والآن ننتقل إلى نوع آخر من الإصلاح كان مظهره مدحت باشا في تركيا.
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
«برنبال» الجديدة قرية صغيرة كسائر قرى الفلاحين بمصر تابعة لمركز (دكرنس) من مديرية (الدقهلية) تقع على البحر الصغير، بها أربع حارات، ومرافقها الاجتماعية. مسجد للصلاة، وكتاب لتعليم القرآن، ودكان لعطار، ومعملان لتفريخ الدجاج، وأربعة أنوال يدوية لنسيج الصوف، ودكانان لصبغ الثياب البيضاء صبغة زرقاء، وضريحان لوليين يستشفي بهما الأهالي لقضاء الحوائج، وأربعة مضايف لكل حارة مضيفة، تقام فيها مآتم الحارة وأفراحها واحتفالاتها في الأعياد والمواسم، وباعة صغار لبيع الخضر وما إليها، وبعض صناع يقومون بصناعة ساذجة كنجار للسواقي ونوتي للمراكب تجري في البحر الصغير ، وفي الجهة القبلية منها جبانة لدفن الموتى، وحولها الأراضي الزراعية ليس فيها من الأشجار إلا نخلتان.
يسكن حارة من حاراتها أسرة تتكون من نحو مائتي شخص يعيش أفرادها كسائر الفلاحين ببهائمهم ودواجنهم وأدواتهم الزراعية، وعلى رأسهم الشيخ مبارك، وكان يقوم بكل الشئون الدينية في القرية، فهو إمام مسجدها وخطيبه وهو (مأذونها) يعقد عقود زواجها، ويسجل صيغ طلاقها، ويستفتي في المسائل الدينية تعرض لأهلها، ورث ذلك عن أبيه وجده حتى سميت الأسرة بأسرة (المشايخ) وتزوج الشيخ أكثر من زوجة، رزق منهن أولادا كثيرين، إحداهن رزقت سبع بنات واحدا سماه عليا، وكلهم يعيش على الدخل التافه والرزق القليل.
في هذه البيئة ولد علي مبارك، ووقعت عينه أول ما وقعت على هذه المشاهد الطبيعية والاجتماعية. ولعله يوم ولد بشر به أبوه وسلم له في يده ليبارك عليه وأذن في أذنه أمل فيه أن يكون حلقة في سلسلة (المشايخ) يرث الإمامة والخطابة والإفتاء لأهل القرية عن أبيه، كما ورثها أبوه عن جده وما ورثها جده الأدنى عن جده الأعلى. ولو جرت الأمور مجراها المألوف لكان هذا، فما ظنك بطفل فقير من أسرة فقيرة في (برنبال) البعيدة عن مراكز المدينة والحضارة إلا أن يسعده الحظ فيكون إمام مسجد؟! ولكن للقدر شئونه ولله تصرفه.
على هذا المنهج أرسله والده إلى كتاب (برنبال) وفقيهه إذ ذاك رجل أعمى شديد عنيف، وافق اسمه مسماه، فكان يسمى أبا عسر، كان له الفضل في أن يكره (عليا) في التعليم والحفظ.
وشاء الله أن تنكب هذه الأسرة جميعها بما كانت تنكب به أسر كثيرة في البلاد إذ ذاك، فكثيرا ما كان يهمل الفلاحون زراعة أرضهم شعورا منهم بأن غلتهم ليست لهم، وإنما هي مطمع الحكام: يطمع الحاكم الأعلى في الحاكم الأدنى ويطمع الحاكم الأدنى فيمن دونه، وهكذا حتى يصل إلى الفلاح، فإذا عجزت غلة الأرض عن أداء الضريبة أخذت الأرض منه وأعطيت لغيره، وكان هذا العطاء مصيبة كبرى على من يعطى لشعوره بأنه يمط ليسخر، يسخر في الأرض وزراعتها لتكون غلتها لغيره، ولذلك كانوا يعبرون عن إعطاء هذه الأرض تعبيرا صحيحا صادقا؛ إذ يقولون (رميت عليه الأرض) وهذا ما أصاب أسرة الشيخ مبارك ، فقد رميت عليها أرض، فلما جاء المصلحون يحصلون الضرائب لم تكف الزراعة فباعوا بهائمهم وأثاث منازلهم، ثم رأوا أن لا بد بعد ذلك أن يهجروا البلد وتنقل الشيخ مبارك وأسرته في البلاد إلى أن نزل على عرب في (الشرقية) يسكنون الخيام، يسمون عرب (السماعنة) فأقاموا له خيمة مثل خيامهم، ورأوا فيه ما يسد مطالبهم الدينية، فكان مرجعهم في الفتيا وإمامهم في الصلاة، كما كان في بلدته (برنبال). فلما استقر به الحال فرغ للتفكير في تعليم علي، فأرسله إلى كتاب في قرية قريبة من الخيام، ولكن لم يكن يتيسر له أن يذهب كل يوم إلى الكتاب ويعود فكان يسكن مع سيدنا ويزور أباه مرة كل يوم جمعة. ولم يكن حال هذا الفقيه خيرا من حال (أبي العسر) وإن كان اسمه (أبا الخضر) فكان علي يجتهد في إرشائه بما يستطيع أن يحمله إليه كل أسبوع ليخفف عنه. فلما توالى عليه العنف كره الكتاب بتاتا بعد أن كان قد حفظ القرآن.
هنا حدثت الأزمة، فعلي لا يريد الكتاب بتاتا. وماذا لقي منه إلا الضرب؟ ثم ماذا يكون مصيره لو نجح في الكتاب؟ أليس إلا أن يكون كأبيه إمام مسجد ومفتي قرية؟ وهذا مطلب لا يقنعه ولا يرضيه، وأبوه مصمم على الكتاب. واصطدمت الإرادتان فغلبت إرادة علي.
ولكن أفهمه أبوه وأخوته أنه لابد أن يتعلم شيئا ما، وكان إذ ذاك في البلاد طبقة من الكتاب الصغار يكتبون للناس في مطالبهم وأغراضهم أو يمسحون
1
الأرض لهم، ففضل أن يكون صبيا لأحد هؤلاء ورضى أبوه بهذا الحل، فهو يلتحق تلميذا لكاتب من هؤلاء ويتنقل بينهم ولم يكن حظه معهم خيرا من حظه في الكتاب، فالضرب هو الضرب والبؤس هو البؤس. ومنهم من يأجره أجرا قليلا، ثم يأكل عليه أجره، ومنهم من يسأله: كم الواحد في الواحد؟ فيقول: اثنان. فيرميه بأداة أمامه على رأسه فيشجه . فهذه أيضا حالة لا تنفع. فيهرب من أمه وأبيه لضغطهما عليه في العمل بما لا يرضيه ويهيم على وجهه متنقلا في البلاد ، وأبوه يلاحقه، ويتعرض أثناء ذلك للإصابة بالكوليرا أحيانا وللسجن بسبب وشاية أحيانا. وأخيرا شاء القدر أن يسعى له السجان ليكون كاتبا صغيرا عند مأمور كبير، وشفع له في ذلك حسن خلقه وجودة خطه، كان هذا الموظف الكبير «عنبر أفندي» مأمور زراعة القطن بأبي كبير، فلما وقع عليه نظر علي مبارك وقع في حيرة شديدة، إذ رآه أسود حبشيا، وعهده بالحاكم أن يكون أبيض تركيا، فما الذي أهله لهذا المنصب الكبير. وكبار الناس يخضعون له ويمتثلون أمره ويجلون قدره؟ وإذا كان هذا الأسود قد بلغ هذا القدر.. فلم لا أبلغه وأنا على الأقل وسط بين الحبشي والتركي؟ ولكن ما السر في بلوغ هذا الأسود هذا المنصب؟ لغز صعب عليه حله، وكلما سأل عنه أحدا أجابه إجابة لا تقنعه، وقد سأل أباه يوما - بعد أن رضى عنه - عن السبب في ذلك، فأجابه بالقضاء والقدر، وأن الله إذا أراد شيئا فلا راد لمشيئته، وقد شاء أن يكون هذا العبد الأسود حاكما مطاعا فكان، ولكن هذا أيضا لم يقنعه.
وأخيرا أخذ يتحرى السبب من خدم المأمور، نعرف أن هذا العبد كان مملوكا لسيدة من كبرى السيدات، وقد أدخلته مدرسة قصر العيني فتعلم فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن هذه المدرسة تخرج الحكام - إذ ذاك - وضع يده على سر الأمر، فهناك مدرسة لتخريج الحكام وهي لا تقيد بالأتراك، فقد كان هذا العبد الأسود تلميذا فيها، فإذا استطاع أن يصل إلى الدخول في هذه المدرسة أصبح حاكما كعنبر أفندي. ولكن كيف السبيل؟ - أصبحت هذه المدرسة شغله الشاغل، وهمه بالليل والنهار، وسؤاله المتكرر ممن يأنس منهم المعرفة - أين مدرسة قصر العيني؟ وما هو الطريق إليها؟ وما المسافة بين كل مرحلة وأخرى؟ وكيف يأخذون التلاميذ لها؟ وهكذا، ثم يكتب كل هذا في ورقة معه، وقد صمم على أن يحتال للدخول في هذه المدرسة بأية وسيلة.
وكان أهم ما عرفه عن هذه المدرسة أن مفتشا يمر على مكاتب القرى من حين إلى حين يختار أنجب التلاميذ وأذكاهم ، فيلحقهم بمدرسة قصر العيني.
هذا هو علي مبارك يترك العمل عند عنبر أفندي ويلتحق بكتاب ينتظر المفتش، ويحاول أبوه مرارا أن يصده عن ذلك فلا يفلح، ثم إذا بالمفتش يحضر ويختار علي مبارك فيمن يختارهم. وإذا هو تلميذ بمدرسة قصر العيني يمني نفسه الأماني في أنه سيكون حاكما كعنبر أفندي، وعمره إذا ذاك نحو اثنتي عشرة سنة كانت حافلة بالمغامرات الغريبة، والمفاجآت العجيبة، والصبر على البؤس والفقر والغربة.
دخل علي مبارك مدرسة قصر العيني، ولكنه سرعان ما شعر بخيبة الأمل، فلم يجد المدرسة هي الجنة التي وعد المتقون، وإنما هي النار التي يشقى بها المجرمون، وكانت المدارس المدنية إذ ذاك في أول العهد بها، لم يستقر أمرها ولم تنظم شئونها، فلم تعجبه في علمها، إذا لم يجد هندسة ولا حسابا كما قيل له، وإنما كان أكثر الوقت يصرف على تعليم المشي العسكري، ولم يجد أكلا يرضيه - وهو الفقير القنوع - فكان يفضل عليه الجبن والزيتون يشتريهما من ماله الخاص، ولم يجد نظافة يطمئن إليها، فنومه على حصير قذر، يلتحف ليلة بنسيج من الصوف الغليظ حتى أصيب بالجرب وبكثير من الأمراض. وإذ ذاك تبخرت كل آماله، وزاره أبوه في مرضه، وحاول أن يسرقه، وفكر هو أيضا في أن يفر معه، وما منعه إلا ما سمعه من أن من فر قبض عليه وعذب هو وأهله عذابا شديدا، فسلم الأمر لله واستمر في المدرسة، ثم من الله عليه فنقل إلى مدرسة الهندسة بأبي زعبل لتخلى مدرسة قصر العيني لتعليم الطب.
وكانت المدرسة الجديدة خيرا من القديمة، ففيها علم كثير يرضي نهمه،
2
ولكنه يقع في مشكلة عويصة، فعقله لا يستسيغ الهندسة ولا النحو بتاتا، ويسمع للمدرس كأنه يسمع تعاويذ سحرية لا يفقه لها معنى، ثم تبين أن المشكلة مشكلة المعلم لا مشكلة التلميذ، فكانت في نفسه عقدة منعته من فهم الهندسة؛ إذ سمعهم يسمون مثلثا أ ب ج وآخر ح د ه، فاختلط عليه الأمر، ولم يدر لم سمي هذا المثلث بهذا الاسم دون ذاك ، حتى رزق بمعلم حسن التدريس، جمع التلاميذ المتخلفين في فصل، وشرح لهم الهندسة من أولها شرحا جليا واضحا، وأبان أن هذه التسمية للمثلثات وسائر الأشكال ليست إلا مواضعات
3
للشرح والتفسير، فالمثلث ا ب ج أو ح د ه أو أي حروف كانت ليست إلا أسماء اصطلاحية يسمى بها الشكل، فانحلت عقدة علي مبارك، وتفوق على سائر التلاميذ في الهندسة، وكان أول فرقته دائما. ولم يرزق في النحو ما رزق في الهندسة، فظل معمي عليه.
ثم اختاروا من مدرسة أبي زعبل خير التلاميذ وأدخلوهم مدرسة المهندسخانة ببولاق، فكان علي مبارك أحدهم، درس فيها كل فروع الهندسة وما إليها حتى أتمها.
ولما اعتزم محمد علي باشا إرسال بعثة إلى فرنسا اختار المتفوقين من هذه المدرسة فوقع الاختيار عليه فيمن اختير، فها هو ذا في باريس بعد برنبال والقاهرة، لا يعرف أي كلمة في اللغة الفرنسية، والمدرسون فرنسيون لا يعرفون كلمة عربية، فضاق بالأمر ولم يجد حيلة إلا أن يجمع الكتب الفرنسية الموضوعة للأطفال ويستعين بمن يعرف الفرنسية من زملائه، ويسهر على حفظها ليلا، حتى تمكنت منه عادة السهر الطويل والنوم القليل، وهي عادة لازمته طول حياته، وبعد ثلاثة أشهر استطاع أن يتابع الدروس تلقى باللغة الفرنسية، ويفهمها ويتفوق فيها. وتصل سمعته الحسنة إلى أولي الأمر في مصر - لقد درس سنتين في باريس الهندسة المدنية، ودرس سنتين في «متز» الهندسة الحربية، وتمرن في ذلك نحو سنة أخرى، فكانت إقامته في فرنسا نحو خمس سنين رأى المدارس والجامعات ونظم التعليم وحالة البلاد الاجتماعية، وأخذ من كل ذلك على حسب استعداده ودقة نظره، ولم ينس أبدا وهو في باريس ومتز أبويه في عرب السماعنة أو برنبال، فقد رتب له مائتان وخمسون قرشا ليصرف منها على شئونه الخاصة غير مسكنه ومأكله وتعليمه، فنزل عن نصفها لأبويه منذ فارق القاهرة إلى أن عاد ....
لقد سافر إلى فرنسا في عهد محمد على باشا وعاد في عهد عباس الأول، كان عهد عباس هذا عهد انكماش في التعليم؛ إذ لم يكن يرضى عن الحركة العلمية في البلاد بل كان همه بناء القصور لا فتح المدارس، بل ولا الاحتفاظ بالموجود فألغى الكثير منها، وخفض ميزانية التعليم حتى بلغت خمسة آلاف جنيه، وكان أميل إلى تعليم أولاد الأتراك دون المصريين، فعهد إلى علي مبارك في إدارة البقية الباقية القليلة من المدارس.
وكان طريفا أن يزور يوما أبويه في برنبال - بعد أن عاد إليها - وكان قد مضى عليه أربعة عشر عاما لم ير أهله ولا بلده؛ إذ كانت المدرسة في مصر ثكنة عسكرية قاسية النظام، من كان فيها لا يزور ولا يزار، فأمضى سني الدراسة في مصر كسنيه في فرنسا، لا يرى أهله، حتى أتيحت له الفرصة فعرج على برنبال لابسا بزته
4
العكسرية على النمط الفرنسي، متقلدا سيفا. وكان وهو في الطريق يسترجع أحداث الماضي: كيف كان في الكتاب، وكيف كان يضرب، وكيف كان يهرب، وكيف قسا عليه الكتبة الذين التحق بخدمتهم، وماذا تحمل من المشاق حتى وصل إلى مدرسة قصر العيني، وكيف كانت حياته في باريس ومتز؟ ودق الباب ليلا فأجابته أمه: من؟ فقال: علي مبارك، فلم تصدق ونظرت إليه من خرق الباب، وسألته أسئلة تتعرف منها صدقه، حتى إذا فتحت الباب ورأته وقعت مغشيا عليها، ثم أفاقت وهي تهذي، تبكي وتضحك وتزغرد، ثم يخرج من جيبه عشرة (بنتو) لتقيم الولائم وتدعو معارفها من أهل البلد. وكلهم مغتبط بما أنجبت برنبال من حاكم من الحكام.
توالت على «علي مبارك» أيام بؤس وأيام نعيم، وكانت حالة في مصر غير مستقرة، وكل الموظفين وخاصة كبارهم رهن بإشارة الحاكم ورهن بما يحاك حوله من دسائس، فيوما يرضى فيرفع إلى السماء، ويوما يغضب فينزله إلى الحضيض، والبيت الحاكم منشق على نفسه. إذا تقرب أحد إلى بعضه غضب عليه بعضه الآخر، يرضى محمد علي باشا وإبراهيم باشا عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، فإذا جاء عباس غضب عليه وأخرجه من إدارة مدرسة الألسن وعينه ناظرا لمدرسة ابتدائية تنشأ في الخرطوم، ويرضى عباس الأول عن علي مبارك ويقربه إليه، ويعهد إليه في تنفيذ أمور كثيرة، فإذا جاء سعيد باشا غضب على علي مبارك وأعاد الشيخ رفاعة الطهطاوي وقربه إليه.
ولما غضب سعيد باشا على «علي مبارك» ألحقه بالفرقة الحربية التي سافرت لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فأقام ببلاد تركيا (الآستانة والأناضول) نحو سنتين لقي فيهما عناء كبيرا وشقاء جما فاحتمله في صبر وثبات، ومع هذا فقد استطاع في هذه المدة أن يتعلم اللغة التركية ويجيدها، وعاد إلى مصر يوظف حينا ويطرد حينا. فإذا طرد فكر في الأعمال الحرة، فاشتغل تاجرا أحيانا، يشتري من «الزاد» بعض السلع المدرسية التي تبيعها الحكومة بعد أن قللت من مدارسها ويبيعها بربح يكفل له رزقه، ويشتغل أحيانا مهندسا حرا، يضع «تصميمات» منازل لمن شاء، وصمم أحيانا على أن يعود إلى أهله في برنبال يعمل عمل الفلاحين ويعيش معيشتهم وعلى الله العوض فيما تعلم، وفي كل مرة لا يلبث طويلا حتى يستدعي لوظيفة، ولا يلبث في وظيفة طويلا حتى يطرد. ولما جاء إسماعيل باشا أعيدت الحياة العلمية وتوسع فيها، واستقر الحال بعلي مبارك في درجة ما، فكان هذا العهد أبرك عهوده، وأخصبها وأكثرها إنتاجا - لقد عمل علي مبارك أعمالا كثيرة تتصل بما اختص به من هندسة مدنية وحربية، فقد عهد إليه في «تصميم» شوارع وفتحها و«تصميم» ترع وإنشائها، وبناء جسور واستحكامات ومساجد وغير ذلك من أعمال هندسية عظيمة، ولكن كل ذلك لم يكن سر عظمته وصحيفة خلوده، إنما كان ذلك في شيء لم يتعلمه ولم يتلقه عن أستاذ، هو إصلاحه للتعليم في مصر بالوسائل المختلفة، وبناؤه في ذلك بناء ضخما يعد دعامة النهضة التعليمية في مصر - لقد أريد له أن يهندس المباني والاستحكامات فهندس هو طرق التربية والتعليم، ووضع تصميماتها، ووقف على تنفيذها في دقة وأحكام، حتى عد من كبار المصلحين.
لم يتعلم في مصر ولا في فرنسا البيداجوجيا ولا السيكولوجيا على معلم مختص، وإنما تعلمها من حسن استعداده وصدق نظره، ومن دروس في التربية الفاسدة تلقاها في الكتاب حين يضرب وفي مدرسة قصر العيني حين يعذب، ومدرسة أبي زعبل حين يلقى عليه الدرس فلا يفهم، هذا إلى طبيعة خيرة توحي إليه بالرحمة بالناس والإشفاق عليهم والألم من جهلهم. لقد وصف هو نفسه؛ إذ عهد إليه مرة في إدارة مدرسة فقال: «كنت ألتفت للتلاميذ، في مأكلها ومشربهم وملبسهم وتعليمهم، وكنت أباشر ذلك بنفسي، حتى أعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها، مع التشديد على الضابط والخدمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم، فامتنع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتف بذلك بل رتبت على نفسي دروسا كنت ألقيها على التلامذة ... وكان ما يحصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت والثناء والتشويق والترغيب داعيا لهم لزيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين المودة والألفة، وتربت الأطفال على الأخوة، وغرس فيهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم بالنصيحة واللوم، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، وبالجملة كانت أغراضي فيهم أبوية، أنظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده. وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راع في رعيته، حتى يحصل الغرض من التربية. وقد تحقق لي نتيجة ما صرف من الهمة في تربيتهم والشفقة عليهم، حتى أنه لما تولى سعيد باشا ودعيت للسفر مع العساكر لمحاربة المكسوف مع الدولة العلية خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرا عن ضباطهم لوداعي، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده، حتى بكت عيني لبكائهم، ولكن انشرح صدري لمشاهدة ثمرات غرسي، وآثار تربيتي، فحمد الله».
كان التعليم المدني الذي أنشأه محمد علي في مصر تعليم أساسه الجيش: فالمدارس الحربية لتخريجه، ومدرسة الطب لطبيبه، والهندسة لتصميماته، والمدارس الصناعية لإمداده، والبعثات لسد حاجات، فإن جاءت من كل ذلك فائدة لغير الجيش، فبالتبع لا بالقصد، حتى أن المدارس كانت ثكنات عسكرية في نظامها ومأكلها وملبسها ، ورتب المعلمين والنظار والمديرين رتب عسكرية، فملازم وصاغ وأميرالاي وميرمران إلخ، حتى الطلبة في البعثة في باريس لهم بيت يقيمون فيه يدار إدارة عسكرية، كل أنواع التعليم على هذا الوجه في القاهرة والإسكندرية فقط، أما المدن الأخرى والأرياف فليس لها حظ من هذا التعليم. وبجانب هذا التعليم تعليم آخر يبتدئ بالكتاب، وهو منتشر في القاهرة والمدن والقرى وينتهي بالأزهر، وهذا التعليم لا تعني به الحكومة ولا تتدخل فيه ولا يهمها أمره، وكل ما فعله عباس الأول وسعيد أن ضيقا التعليم المدني، حتى إذا جاء إسماعيل بدأ يتغير هذا النظام وينظر إلى التعليم نظرة أخرى غير النظرة الحربية، وكان من أكبر العاملين على هذا علي مبارك - فلو قلنا إنه حول التعليم من وجهة حربية إلى ثقافة شعبية، كان ذلك وصفا مجملا صادقا.
رأى أن عماد التعليم الشعبي الكتاتيب في المدن والقرى، وهي حالة يرثى لها،
5
فكثير منها إما دكان أو «حاصل» أو في حجرة مظلمة بجانب مراحيض المسجد، والتلامذة يختلط صحيحهم بمريضهم، وقد يكون المرض معديا، فأقرع وأبرص وأجرب ومحموم ينشرون العدوى في الأصحاء. يجلسون على حصير بال ويشربون بكوز واحد من زير واحد ويأكلون في الظهر من صحن واحد، وفقيه الكتاب كثيرا ما يكون أعمى لا يحسن أن يرعى التلاميذ، ولا أن يدير شئونهم، وكل كفايته أن يحفظ القرآن ويحفظه من غير فهم، لا علم له بالدنيا ولا بالدين، ووسائل التأديب عنده ليست إلا السب والضرب.
بدأ علي مبارك - وقد عهد إليه في إدارة التعليم في عهد الخديوي إسماعيل - يصلح هذه الحال ويدخلها تحت الإشراف الحكومي، بعد أن كانت الحكومة لا تعني إلا بالمدارس الحربية، وما يعد لها. فقبض بيديه عليها، وأرسل من يحصي كل كتاتيب القطر ويصف حالة كل كتاب من صلاحية بنائه وعدم صلاحيته وعدد تلاميذه وحالة فقيهه وتبعيته لأوقاف أولا ونحو ذلك، وقسمها بحسب ذلك إلى ثلاث درجات: جيدة ومتوسطة ورديئة، ووضع لها «لائحة» تسمى «لائحة رجب» - وهو تاريخ صدورها - تعد بحق خطوة خطيرة في تاريخ التعليم في مصر، عالج فيها كل المشاكل التي صادفته من مراعاة الأمور الصحية وتدبير المال اللازم ورفع مستوى الفقهاء - وقد سماهم «المؤدبين» - وبرامج التعليم ووسائل تشجيعه وإشراف الأهالي والمديريات في حمل بعض الأعباء المالية والتعليمية وتحويل بعض الكتاتيب الكبيرة الصالحة إلى مدارس ابتدائية، ووجه في تنفيذ ذلك كل قواه، وكثيرا ما كان يعهد إليه - إلى إدارة المدارس - في إدارة الأشغال وإدارة الأوقاف، فيكون ناظر هذه جميعها (وزيرها) فيسخر الأشغال لإصلاح مباني المدارس والكتاتيب، ويصرف من مال الأوقاف على التعليم، حتى انتقل التعليم به نقلة جديدة.
نعم ليس كل الفصل في ذلك له وحده، فقد كانت البلاد تتوقف إلى إصلاح التعليم، وقد طالب به مجلس الشورى، وكان هذا الإصلاح يتفق وما رسم الخديوي إسماعيل من رغبة في تمدين البلاد، ولكن كان فضل علي مبارك أن يأخذه الفكرة الخيالية، فيحولها إلى حقائق واقعية، ويدرسها دراسة علمية، ويضع خططها وتصميمها كما تعود ذلك في التصميم الهندسي، ويبرزها على الوجود ويرعاها بعنايته.
إلى جانب الكتاتيب وفتحها وتنظيمها والمدارس وإنشائها شغلته مسألة المعلمين كيف يصلحهم، فقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية في المدارس رجال من الأزهر، والتعليم في الأزهر إذ ذاك على أسلوبه في القرون الوسطى، يعلم الكتب ولا يعلم العلم وغاية النابغ منهم أن يحسن فهم عبارة الكتاب لا فهم موضوع الكتاب، وهذا يؤدي إلى أنه لا يحسن تطبيق ما تعلم، فأكثرهم لا يحسن قراءة صفحة ولا أن يكتب موضوعا، ولا أن يقيم وزنا لبيت من شعر، كما وصفهم بذلك عبد الله باشا فكري في مقال كتبه، فكيف يصلحون بعد لتعليم الناشئة؟
إذا ذاك فكر على مبارك في إنشاء مدرسة يؤخذ لها من خيرة طلبة الأزهر بامتحان، ويختار لها خيرة العلماء من الأزهر وغيره، ويعلم طلبتها العلوم الدينية واللغوية وشيئا من علوم الدنيا كالرياضة والجغرافيا والتاريخ والطبيعية والكيمياء، فكان من ذلك كله مدرسة دار العلوم. أما معلمو المواد الأخرى كالهندسة والحساب واللغات، فقد رأى أن يأخذهم ممن أتموا دروسهم في المدارس العالية كالمهندسخانة ومدرسة المحاسبة والإدارة بعد أن يقضوا مدة معيدين لأساتذتهم.
وفكر في الثقافة العامة بجانب التعليم في المدارس، فكان له من ذلك ثلاثة أشياء: (1)
قاعة للمحاضرات يحضرها من شاء، يحاضر فيها كبار الأساتذة من مصريين وأجانب، فيحاضر مثلا الشيخ حسين المرصفي في الأدب وإسماعيل بك الفلكي في الفلك والشيخ عبد الرحمن البحراوي في الفقه، ومسيو بروكش في التاريخ العام وأحمد ندا في النبات، فإذا حاضر محاضر باللغة الأجنبية ألقيت محاضرته بعد ذلك باللغة العربية، وهذه المحاضرات يومية ما عدا أيام الجمع، وكل محاضرة ساعة ونصف ساعة، وبعض الموضوعات محاضرتان كل أسبوع وبعضها محاضرة واحدة. (2)
إنشاء مجلة سميت «روضة المدارس المصرية» رأس تحرير الشيخ رفاعة الطهطاوي، وذكر في أول عدد منها أن مدير المدارس وهو علي باشا مبارك «جعلها ملحوظة بنظر نظارته لا يندرج فيها شيء إلا بإشارته» وطلب من الأساتذة أن يمدوها بالمقالات، وكان ينشر فيها بعض ما يلقى في قاعة المحاضرات وكان في العدد الأول منها مقال لعلي مبارك موضوعه «إنشاء دار الكتب الخديوية». (3)
إنشاء دار الكتب، وقد كانت الكتب قبل ذلك متفرقة في المساجد أو الأماكن المهجورة عرضة للسرقة أو التلف، فجمعها في مكان واحد ورتبها وسهل الاستفادة منها وجعل لها قاعة مطالعة.
فكان من ذلك كله حركة علمية شعبية ساعدت على النهضة المصرية.
وأعانه على نجاحه في خططه ما كان يلقي من عطف وتشجيع من الخديوي إسماعيل، فهو يقر مقترحاته ويبذل المال لتنفيذ مشروعاته.
وناحية أخرى لها قيمتها في حياة علي باشا مبارك، وهي مجهوده الكبير في التأليف والتشجيع عليه، فقد نهضت البلاد في التعليم كما بينا، فكان لا بد من حركة في التأليف والترجمة تسايرها، وقد قام بقسط وافر في هذا الباب الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقام علي باشا مبارك بنصيبه الوافر أيضا، فألف في مهنته الخاصة، وهي الهندسة، كتبا للطلبة، وألف كتبا أخرى في الثقافة العامة أهمها خططه لمصر المسماة «بالخطط التوفيقية» يصف فيها القاهرة وحاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها كما يصف مدن مصر وقرأها مرتبة على حروف الهجاء. وإذا ذكر قرية ذكر ترجمة من نبغ منها أو كانت له شهرة في ناحية ما، وذكر في ذلك كله أقوال المتقدمين والمتأخرين، فكان كتابا جليل النفع عظيم القدر أكمل به خطط المقريزي وما حدث للقاهرة والمدن والقرى المصرية من تغيير بعده إلى يوم تأليفه، ووقع الكتاب في عشرين جزءا أو خمسة مجلدات. كما ألف كتابا سماه «علم الدين» وهو قصة لشيخ تربي في الأزهر وتتلمذ له مستشرق إنجليزي تعلم منه اللغة العربية ودعاه الإنجليزي أن يزور معه إنجلترا فلبى الدعوة، وكانا كلما مرا على شيء من القاهرة إلى الإسكندرية سأل الإنجليزي الشيخ علم الدين فأجابه، وبعد الإسكندرية انقلب الشيخ تلميذا والإنجليزي معلما، يسأل الشيخ عن كل ما يجهل فيجيب الإنجليزي، وملأ الكتاب بمعلومات قيمة عن الشرق والغرب ومظاهر الحضارة الأوروبية، وكان غرضه من هذا الكتاب تفتيح أذهان الشرق لما في الغرب، فالشيخ علم الدين في أول القصة رجل أزهري جامد لا يعرف شيئا من شئون الدنيا، فلما ساح في أوربا اتسع ذهنه ومرن عقله ورقيت أحكامه على الأشياء، ورأيناه يحضر دار التمثيل وينظر إلى المسرح بالمنظار. ومن طرائف علي مبارك أنه وهو وزير المعارف الخطير لم يستنكف أن ينظر إلى الأطفال في بدء تعلمهم للقراءة والكتابة ولم تعجبه طريقة تعليمهم، فأخذ نفسه بتأليف كتاب من جزأين، يعلم في أولهما حروف الهجاء وكيف تتركب، ويضع ثانيهما للتمرين على المطالعة السهلة في موضوعات مفيدة، إلى غير ذلك من الكتب، كما كان يستحث العلماء على التأليف في الموضوعات النافعة على أسلوب جديد يقرب المعلومات إلى الأذهان، وكان من أكبر من ساعده في تحقيق أغراضه في التأليف عبد الله باشا فكري.
وكان بيته في الحلمية الجديدة ناديا عجيب الشأن، يجتمع فيه كل ليلة طلبة المدارس وأساتذتها من كل نوع حتى تمتلئ بهم الدار، وينتقل هو بينهم يخاطب كل جماعة منهم في شأن من شئون العلم يتناسب معهم، فيخاطب الطلبة في حالة مدارسهم ومقدار تحصيلهم للدرس، وما يتكون منه من نظم التدريس وما يقترحون لإصلاحها، ويخاطب المدرسين في تدريسهم وانتقاداته عليهم، ويستحثهم على التأليف في الموضوعات التي يقترحها، وما ينبغي أن تكون عليه الكتب في أيدي الطلبة، ويلتمس الفرص ليشرح لهم الأخطاء التي يقع فيها الطلبة ويقع فيها الأساتذة وتأخر الشرق وأسباب تأخره تقدم الغرب وأسباب تقدمه إلى غير ذلك. حدثني عبد العزيز باشا فهمي، قال: «كنت يوما في بيت علي باشا مبارك، والناس تموج في بيته، الحجر مزدحمة بالزوار، وعلي باشا يتصدر حجرة منها، فحضر مصطفى باشا رياض وكان ناظر النظار إذ ذاك، فأخذ يخوض في الناس حتى وصل إلى علي باشا مبارك فقال له: «ما هذا يا باشا؟» فقال له: «يا دولة الرئيس أنا في بلد يهاب الناس فيه أن يخاطبوا معاون إدارة أو مأمور مركز أو أي موظف حكومي، فإذا نحن جرأناهم علينا وعلينا وخاطبناهم، وخاطبونا، وأمكنهم أن يخاطبوا الموظفين في غير هيبة، وتعودوا أن يطالبوا بحقوقهم، وقالوا: أنا نجالس الناظر (الوزير) ونخاطبه، فلم لا نخاطب من هو أقل منه منزلة؟».
لم تكن خطط علي باشا مبارك في التعليم في المثل الأعلى، ولا كانت خالية من العيوب، ولكنها كانت خطوة مباركة صالحة لأن ترقى مع الزمان، ويصلح ما ظهر فيها عند التنفيذ من أخطاء، كما حدث ذلك فعلا في وزارة رياض باشا من بعد، ولكن ساءت الحال في مصر بتدخل الأجنبي بدعوى حماية الدين، كما أسلفنا في ترجمة جمال الدين الأفغاني وجاءت الثورة العرابية وأعقبها الاحتلال الإنجليزي، فقبض الإنجليز على التعليم، وصبغوه الصبغة التي يريدونها.
لم يشترك علي مبارك في الثورة العرابية؛ إذ كان مزاجه ليس مزاجا ثوريا بحكم منشئه وتربيته - عكس مزاج الشيخ جمال الدين، الثوري العنيف - وكان مبدؤه الطاعة التامة لولي الأمر، مهما كان. أطاع عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وخدمهم في إخلاص، ولعله - كبعض المصلحين - يرى إن إصلاح التعليم خير أنواع الإصلاح، بل هو خير من الإصلاح السياسي ، ويرى أن الإصلاح السياسي ما لم يرتكز على الإصلاح التعليمي فلا بقاء له ولا قيمة - لذلك لا نرى له إصبعا ما في الثورة العرابية. ولقد اتهم كثير من عقلاء الأمة بمشايعة عرابي باشا، كعبد الله باشا فكري والشيخ محمد عبده، وغضب عليهما الخديوي توفيق، ولكن لم يتهم علي باشا مبارك في شيء ما، ولم يفقد رضا توفيق باشا وعطفه، وإنما فقد رضا عرابي باشا وحزبه، وكل ما أثر عنه في الثورة العرابية أنه تبرع يوما بشيء من ماله لهذه الحركة، ولكن لعل ذلك كان تحت تأثير ضغط شديد عليه من الشبان المتحمسين. وزاده إيمانا بحياده أنه لم يكن يؤمن بنجاح الثورة العرابية، على حسب ما كان يرى من ظروفه المحيطة به التي تمكنه من الاطلاع على شئون مصر والشرق والغرب. وقد روى الشيخ محمد عبده أنه حضر مجلسا في بيت علي باشا مبارك كان فيه سلطان باشا - وقد أخذ سلطان باشا يشيد بذكره قوة الجيش المصري وما يمكن من زيادة عدده - فرد عليه علي باشا مبارك بأن حالة البلاد المالية لا تتحمل هذه الحرب ولا تساعد على النجاح فيها، ثم رأيناه في أثناء الثورة يذهب إلى بلده ويعمل في إصلاح أرضه، وعلى كل حال فالإنسان مطالب أن يعمل وفق ما يهديه إليه عقله وما يتناسب ومزاجه، وقد كان مزاج علي مبارك مزاجه هادئا ناسبه أن يوجه أكثر قوته لإصلاح التعليم، ففعل. وربما كان أساس نجاحه شدة غيرته وقوة إخلاصه وعمق رغبته في خدمة وطنه.
وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر ألفت وزارة مصطفى رياض باشا وعهد فيها إلى علي مبارك في نظارة المعارف، ولكن ما أبعد الفرق بين الحالين، وما أشد الاختلاف بين العهدين - لقد كان في العهد الأول قبل الاحتلال حرا طليقا يفكر كما يشاء ويفعل ما يشاء ويدبر المال لمشروعاته كما يشاء، لا يقيده في ذلك كله إلا عرض العهد فليس حرا ولا طليقا ولا يفكر إلا إذا سمح له المستشار الإنجليزي بالتفكير، ولا يفعل إلا في الدائرة المحددة التي خطها المحتلون، وقد عبر هو عن ضيق صدره في ذلك بأسلوبه الناعم الهادئ، إذ يقول في هذه الحقبة: «وأنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح، بقدر الإمكان، والله المستعان».
اصطدم بعد ذلك بالقيود التي قيدت بها المصالح الحكومية، وخاصة القيود المالية التي وضعها مستشار المالية ربما كان علي باشا مبارك والشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الله باشا فكري الفرسان الثلاثة في ميدان العلم في مصر في ذلك العصر، وأركان النهضة العلمية المصرية، ولكن كان لكل طابع ولكل ميزة، فعلي باشا مبارك يهتم بالمسائل الكلية في سياسة التعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها، وإذا نظر إلى الجزئيات فلتطبيق الكليات عليها، والشيخ رفاعة ينظر إلى المسائل الجزئية ويعني بإصلاحها وتنفيذها، فإذا عهد إليه في إدارة مدرسة بث الروح فيها، ثم هو يؤلف ويترجم ويبعث تلاميذه على التأليف والترجمة، وبهذا أمد البلاد هو وتلاميذه بطائفة من الكتب النافعة كانت عماد النهضة، وعبد الله باشا فكري كاتب شاعر أديب مؤلف له قيمته في معرفة ما يناسب عصره من التأليف فيؤلف فيه، كان تلاميذ المدارس يعلمون الأدب من مقامات الحريري والنحو من كتاب شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فألف كتبه على نمط جديد، وكان تلاميذ المدارس الابتدائية، لا يجدون ما يطالعونه فألف لهم (الفوائد الفكرية) ثم كان أكبر عون لعلي باشا مبارك فيما ألف من كتب - فلكل من الفرسان الثلاثة مزية، ولكل فضل. رحمهم الله جميعا.
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
إن كان يستحق الإعجاب من نبغ - والظروف له مواتية - من أسرة عريقة في المجد أو الغنى أو الجاه ونحو ذلك مما ييسر للأبناء أن يتعلموا، ثم يشقوا لهم طريق الحياة وطريق المجد فأولى بالإعجاب من ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب ولا غنى ولا جاه، بل ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتى من أن يجد له وقت فراغ يثقف فيه نفسه.
قد يدعو إلى شيء من الإعجاب منظر شجرة يانعة ضخمة مثمرة، تعهدها بستانيها بكل ما يصلحها، ومن وضع في المكان المناسب والغذاء الكافي، ولري المتوافر في أوقاته، ولكن أدعى إلى الإعجاب بذرة طرحت حيثما اتفق، فمدت جذورها بنفسها تجد في حصولها على غذائها، فقد تجده وقد لا تجده، وتعاكسها الطبيعة فتكافحها وتتغلب عليها، ثم هي آخر الأمر تكون أينع ما كانت شجرة وأضخمها وأوفرها إثمارا. كذلك كان من النوع الثاني «عبد الله نديم»، كل الدلائل تدل على أنه سيكون نجارا أو خبازا، ولو تنبأ له متنبئ متفائل لقال إنه سيكون نجارا ماهرا ناجحا، فأما أديب يملأ الدنيا ويقود الرأي العام ويحسب حسابه في كل ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه، فلا يدور بخلد أحد حتى فاتح الرمل والضارب بالحصى.
هذا أبوه أصله من الشرقية ورحل منها إلى الإسكندر ية وعمل فيها نجارا للسفن بدار الصناعة (الترسانة)، ثم لم يعجبه هذا العمل فاتخذ مخبزا صغيرا يصنع فيه الخبز ويبيعه، ويحصل من ذلك على الكفاف
1
من العيش.
فما بالك بأسرة من هذا القبيل، مسكن متواضع، وخبز إن توافر فإدام
2
غير متوافر، وصحة ترك البت فيها للقضاء والقدر.
ولكن «عم مصباح» والد عبد الله رجل جاد في عمله، قنوع بكسبه، مستقيم - بالضرورة - في حياته، من بيته إلى مخبزه إلى مسجده. أرسل ابنه إلى الكتاب على باب حارته كما يفعل الناس من مثل طبقته، يرسلون أولادهم إلى الكتاب زمنا ما، فإذا اشتد متنهم
3
وقوي جسمهم أخذوهم إلى دكاكينهم في مثل صاعتهم التي تتوارث كما يتوارث المال.
ولكن عبد الله تفوق في الكتاب، وظهرت عليه ملامح الذكاء، فأراد أن يستمر في تعلمه ولم يمانعه أبوه، وكانت الطريقة المعبدة
4
لذلك أن يرسل الوالد ابنه إلى الأزهر، ولكن أين مال الأسرة الذي يحتمل ذلك؟!
على أنه في الإسكندرية - قريبا من بيتهم - مسجد هو صورة مصغرة من الأزهر، يدرس فيه المشايخ ما يدرس في الأزهر وعلى نمطه، وذلك هو مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
فدرس فيه عبد الله نديم ما شاء الله أن يدرس، ولكنه كان تلميذا خائبا في هذه الدراسة، لا يصبر على جفافها، ولا يقدر على حل ألغازها ، ولا يتحمل العناء في تفهم كتب نحوها وفقهها فكان لا يواظب على درسه ولا يبدي به اهتماما.
وحبب إليه نوع من الدراسة غير منظم ، يوافق مزاجه، ويناسب استعداده، وهو أن يصاحب الناشئين في الأدب ويغشى مجالسهم ومجالس أساتذتهم. وما كان للأدب درس منظم ولا هو يعد علما ولا فنا، وإنما هو «هواية» كذي الصوت الجميل يهوى الغناء ويقلد فيه من سبقه، ولا درس، ولا فن، ومثل هذا ينظر إليه من أهل العلم بالنحو والفقه نظرة استخفاف وازدراء، وقد عهدنا هذا في أيام دراستنا بالأزهر، أيام كان الشيخ سيد المرصفي يحلق حلقة لدراسة الأدب، فكان هذا عجبا من العجب، ينظر طلاب الفقه والنحو. ومشايخهم إلى حلقته شذرا.
5
كان عبد الله نديم يغشى هذه المجالس الأدبية التي ليس لها منهج، فيسمع شعر الشاعرين وزجل الزجالين، ونوادر المتماجنين، وقصائد الراوين، فيصغى إلى كل ذلك في فهم كأنه كله آذان، ويدرك من غير وعي أن هذا بابه وهذا فنه، وأنه إنما خلق لذلك لا للنحو ولا للصرف. فاشتاقت نفسه أن يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق، وقد منح حافظة لا قطة، وقدرة على التقليد فائقة فأخذ يحاكي بعد ما اختزن، ويغني بعد ما سمع، فطورا يوفق فيستدعي ذلك إعجاب أمثاله، وطورا يخذل فيستخرج ضحك أقرانه، ومن كل ذلك كان يتعلم.
وإلى جانب هذا تعلم درسا في منتهى القيمة، درسا تعلمه «حافظ» ولم يتعلمه «شوقي» وتعلم «بيرم التونسي» ولم يتعلمه «توفيق الحكيم»، درسا قل أن يفقهه الأدباء مع عظيم خطره وكبير أثره، ذلك هو أن نشأته في صميم الأحياء الشعبية مع رهافة حسه، ويقظة نفسه، وفقره وبؤسه، علمته أن يحيط إحاطة واسعة بلغة الشعب وأدبه، من أمثال وحكايات وجوه معاملات وصنوف تصرفات، فرسم ذلك كله في نفسه لوحات كان لها أكبر الأثر في حياته الأدبية المستقلة، والنفس الحساسة الفنانة تختزن حتى حفيف أوراق الأشجار، وهفهفة الأغصان، ودبيب النمال، وحلاوة البسمات، وأدق مجالي الجمال والقبح، ثم تعرف كيف تستخدم ذلك في فنها متى آن أوانه .
ولكن مرصى
6
بذلك كله، تبا للحياة المادية. هل يكسب من ذلك «عبد الله نديم» قرشا، وهل يستطيع «عم مصباح» أن يحتمل هذا الهذر طويلا ؟ لقد احتمل الإنفاق عليه في الكتاب، لأنه طفل والكتاب خير من البيت، واحتمله يدرس في «جامع الشيخ» لأنه كان يرجو في ابنه أن يكون شيخا معمما وعالما مفخما، يتقرب إلى الله بتقبيل يده والتمسح بثوبه. فأما هذا اللغو الفارغ الذي يسمى شعرا ونثرا فهو عبادة الشيطان لا عبادة الله، ولست أتقرب إلى الله بالإنفاق على عبدة الشياطين.
لقد نفض أبوه يده منه، فأخذ عبد الله نديم يبحث عن وجه للكسب، فاتجه اتجاها غريبا، هو أن يتعلم فن الإشارات التلغرافية ثم يتكسب منه، وكذلك كان. فتعلمه واستخدم بمكتب التلغراف ببنها.
ثم نقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، وقد كان قصرا من أفخم القصور، يقع على النيل فيما يسمى الآن «جاردن سيتي» خدم وحشم وموسيقى وطرب، وما شئت من ألوان النعيم والترف، وقد تعلم منه عبد الله نديم كيف يعيش الأمراء والسادة، كما تعلم في بيته وحارته في الإسكندرية كيف يعيش الفقراء والعبيد.
وعاد إليه في القاهرة شوقه إلى الأدب ومجالس الأدباء، وكان حظ القاهرة في ذلك أوفى، ففيها - مثلا - مجلس محمود سامي البارودي، وكان مجلسا عامرا يسمر فيه السمر اللذيذ: فأدب قديم يعرض، وأدب حديثه ينشد؛ وعرض للمعنى الواحد صيغ صياغات مختلفة، ونقد قيم لهذا ولذاك، يتخلله نوادر فكهة، وأحاديث في الأدب حلوة. اتصل عبد الله نديم بهذا المجلس وأمثاله، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من أدباء مصر إذ ذاك، وأخصهم سبعة، أولع بهم واستفاد من معارفهم وأدبهم: شاعر مصر محمود سامي البارودي، وشيخ الأدباء عبد الله باشا فكري والسيد علي أبو النصر البليغ الشهير، ومحمود صفوت الساعاتي، الواسع الاطلاع، الكثير المحفوظ، المتفتن في الطرائف الأدبية، والشيخ أحمد الزرقاني الكاتب الأديب، ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ عاشر الأدب والأدباء الأدب والأدباء الكريم الوفي.
وكان الذي أرشده إلى هؤلاء الأدباء وعرفه بهم، وأحكام الصلة بينه وبينهم، الشيخ أحمد وهبي أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، والمحرر بالوقائع المصرية في بعض أيامه .
فأتم على هؤلاء وأمثالهم دراسته، وشرب من منهلهم، وارتوى من ينابيعهم، فهو في النهار تلغرافي، يتقبل الإشارات ويرسلها، وبالليل أديب يتقبل نماذج الأدب ويحاكيها.
ولكن لم يمهله الحظ، فقط غلط في عمله في القصر العالي غلطة سببت غضب خليل أغا عليه. ومن خليل أغا؟ هو كبير أغوات الوالدة (أم إسماعيل)، وكان القصر مملوءا بالأغوات، يقومون بشئون القصر، ويستقبلون المدعوات ويصحبونهن إلى باب الحريم، ونال كبيرهم خليل أغا من النفوذ ما لم ينله ناظر النظار ولا الأمراء والوجهاء، ولحظوته عند الخديوي إسماعيل ووالدته، وإشارته حكم، وطاعته غنم، يخضع له أكبر كبير، ويسعى لخدمته أعظم عظيم، رأيه نافذ في الدواوين والمصالح، يتحكم في مصر والسودان، ويأتمر بأمره كبار الموظفين والأعيان، حاز الثروة الضخمة والجاه العريض، كأنه كافور الأخشيدي في أيامه، حتى إنه لما عقد عقد زواج الأنجاب في القصر العالي حضره النظار والعلماء وكبار الأعيان، فكان يرأس الجميع «خليل أغا». كان من خصاله أن يذبح ويسبح، ويغصب ويبني مدرسة.
فما عبد الله نديم إذا غضب عليه خليل أغا العظيم؟! إذا غضب عليه خليل أغا فصل من وظيفته، ولكن إذا غضب عليه خليل أغا ضرب وطرد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
سدت في وجهه أبواب الرزق في القاهرة كما سدت في الإسكندرية، وانتهى به الأمر إلى أن ينزل على عمدة من عمدة الدقهلية يقيم عنده ويعلم أولاده، ثم ما لبث أن تخاصم مع العمدة، فأما العمدة فيرى أنه آكله وأسكنه مقابل تعليم أولاده، وأما عبد الله نديم فيرى أن هذا حق الضيف ويبقى له أجر التعليم، واختلفت وجهة النظر، وتشادا ثم تسابا، وغلى مرجل عبد الله نديم؛ فكان ذلك نعمة على أدبه إذا انفجر المرجل وتدفق عبد الله نديم يصوغ في هجاء العمدة أدبا لاذعا، تدفعه عاطفة حادة، فعرف نفسه أديبا وعرفه من حوله لسنا يملك ناصية القول.
واتصل أمره بعين من أعيان المنصورة ذي مروءة فاستدعاه وأكرمه، وفتح له دكانا يبيع فيه المناديل وما إليها، فاتخذ دكانه متجرا للمناديل ومجمعا للأدب، يجتمع فيه بعض أصحابه يتذاكرون الأدب، ويتناشدون الأشعار، ويتبادلون النوادر. وبين هذا وذاك تأتي شارية لمنديل أو شار لعصابة.
وكانت هذه العادة فاشية في المدن، فقد يكون التاجر ذا ثقافة فقهية وأدبية فيتخذ أصحابه من دكانه مكانا للبحث في الفقه أو الحديث في الأدب، إذا لم تكن قد غزتنا المدنية الأوربية فعلمتنا التخصص، وأن مكان التجارة للتجارة فقط، وأما الحديث في العلم والأدب فله مكان آخر. وقد أدركنا أول زماننا شيئا من هذا، فكانت بعض الدكاكين مدارس، وخاصة في الأدب، لأن الأدب لم يكن يدر رزقا، إنما هو فن للمتعة، وكثير من أدباء عصر عبد الله نديم كان من هذا الطراز، فحسن أفندي عبد الباسط - الأديب الشاعر الهجاء - كان في بعض أيامه يفتح دكان عطارة في الزقازيق، ويجتمع به في دكانه أدباء الزقازيق وظرفاؤها، والشيخ أحمد وهبي الشاعر الأديب كان له دكان طرابيش بالغورية، وكانت مجتمع الأدباء والشعراء، ولكن أكثر هؤلاء لم ينجحوا في تجارتهم فالأديب فنان، والفنان - في الغالب - سمح يقدر الذوق الفني أكثر مما يقدر الدرهم والدينار؛ والتجارة تحتاج إلى الضبط والدقة، والعناية بالإيراد والصرف، والفنان - عادة - طليق لا تطيق نفسه القيود والحدود. وعلى كل حال وجد عبد الله نديم بعد برهة دكانة وليس فيها مناديل ولا جوارب، ولكن جماعة يتناشدون الأشعار، ويستهلكون ولا يغلون، فأغلق دكانه وطوف بالبلاد ينزل ضيفا على هواة الأدب، إلى أن نزل بطنطا، وصادف مولد السيد، فكانت له حادثة ظريفة لفتت إليه الأنظار وشهرته بين الناس.
وكانت البيوت أعظم شأنا من الدكاكين في أنها مجتمع الأصدقاء من ذوي العلم والفن يسمرون فيها السمر اللذيذ ويتحدثون الحديث الظريف، هذا بيته منتدى الأدباء وهذا بيته مجموع الفقهاء، وهكذا كل رجل يعرف مكانه من هذه البيوت على حسب ذوقه وميله، ويكثر ذلك في طبقة الأوساط والأغنياء من ذوي الميل العلمي والفني. وأدركت في حارتنا المتواضعة ثلاث بيوت من هذا القبيل، كان صاحب أحدها قاضيا شرعيا كبيرا، فكان بيته منتدى الفقهاء والعلماء يتسامرون عنده في الدين والفقه، والثاني موظفا ظريفا يسمر عنده أصحابه بالأخبار والفكاهات، ليلة يدعون قارئا جميل الصوت، وأحيانا فكها حسن الحديث؛ والثالث دفافا يضرب على الدف في الأفراح، فكان عنده كثير من هواة الآلات الموسيقية، يحيون عنده الليالي الملاح حتى الصباح. فما بالك بالموسرين إذا شغفوا بأدب أو علم أو فن، وكانوا كراما يفتحون بيوتهم للهواة من أمثالهم، يجدون فيها الطعام الشهي والفن الشهي؟!
كان بيت شاهين باشا كنج بطنطا - وهو مفتش الوجه البحري إذا ذاك - من هذا القبيل، كرم حاتمي، وذوق أدبي، وظرف نواسي، فتعرف به عبد الله نديم، فوجد فيه شاهين باشا قبح منظر، مع طلاقة لسان، وخفة روح، وسرعة بديهة فغطى ذلك على قبح منظره، واتخذه له نديما.
2
كان مرة يجلس في قهوة أيام المولد الأحمدي سنة 1249ه ومعه طائفة من أصحابه، ومنهم علي السيد علي أبو النصر الشاعر، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري الأديب الماجن، قطع عليهم اثنان من «الأدباتية».
والأدباتية طائفة من الشحاذين يستجدون بأدبهم العامي وطلاقة لسانهم في الشعر، وحضور بديهتهم، عرفوا بالإلحاح في الطلب، فإذا رددتهم أي رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرا يدل على استمرارهم في طلبهم، واستغواء ممدوحهم، وقد جمعوا إلى طلاقة لسانهم وحضور بديهتهم منظرهم المضحك في ملبسهم وحركاتهم، فزرج خارج العمامة، وطبلة تحت الإبط، وحركات يدور معها رز العمامة كأنه نحلة، وتحريك لعضلات وجوههم كأنهم قردة، وسموا «أدباتية» جمع «أدباتي» وهي لفظ سخرية لأديب. فمر هذان الرجلان من طائفة «الأدباتية» على الحاضرين حتى وصلا إلى عبد الله نديم، فقال أحدهما:
أنعم بقرشك يا جندي
وإلا اكسبنا أمال يا أفندي
أحسن أنا وحياتك عندي
بقى لي شهرين طوال جوعان
فأجابه عبد الله نديم على البديهة:
أما الفلوس أنا مديشي
وأنت تقول لي ما مشيشي
يطلع علي حشيشي
أقوم أملص لك لودان
فرد «الأدباتي»، ورد عبد الله نديم، وظلا كذلك نحو ساعة، غلب «الأدباتي» فانصرف مهزوما.
ونقل السيد علي أبو النصر القصة إلى شاهين باشا كنج، فاستظرفها جدا، وخطرت له فكرة طريفة أيضا أن يقيم حفلا عاما، يدعو فيه كبار «الأدباتية» والزجالين ويدخلون في مساجلة مع عبد الله نديم، فيكون منظرا لطيفا، ومحفلا طريفا. ففعل ونصب سرادقا أمام بيته، وأحضر رؤساء هذا الفن، وشرط عليهم أنهم إن غلبوا كافأهم، وإن غلبوا ضربهم، فرضوا، واستمرت المساجلة نحو ثلاث ساعات، غلب فيهم النديم، فكانت الحادثة سبب شهرته بين الأدباء والظرفاء.
لقد أخذ بعضهم عليه - فيما بعد - هذا الحادث وعيروه به، وقالوا إنه رضى أن يقف موقفا يساجل فيه المستجدين، وأن يكون «أدباتيا» مثلهم، ينازلهم، ويغالبهم على ملأ
7
من الناس، فمثله مثل المصارعين أمام «الزفة» ولا يرضى لنفسه هذا الموقف إلا وضيع النفس ساقط الهمة.
والحق أن وضع المسألة هذا الوضع فيه كثير من التزمت
8
والتعنت، كالذي تعرض على مسامعه الفكاهة الحلوة فينتقد فيها خطأ نحويا أو لفظا لغويا، وكمن ينتقد الشيخ الوقور على ما كان منه أيام الصبا، والغني الواسع الثراء على ما كان منه أيام البؤس والشقاء، فالمسألة لم تعد أن تكون طرفة لطيفة، وفكاهة ظريفة، وقوانين الظرف تبيح من البحبحة في مجالسه ما لا تبيحه مجالس الجد والوقار.
أخيرا عاد إلى مسقط رأسه بالإسكندرية سنة 1879م في نحو الخامسة والثلاثين، وهو أكثر خبرة بالدنيا فيما لقي من عظماء ووجهاء وأدباء، وفيما رأى وسمع وعمل في القصر العالي أيام كان موظفا في تلغرافه، في التجارة أيام تاجر وأفلس، وبأخلاق الفلاحين أيام كان يعلم أولاد أحد «عمدهم»، ولكنه دخلها كما خرج منها صفر
9 (اليدين).
عاد فرأى في الإسكندرية منظرا جديدا لم يكن أيام كان بها كانت المجالس الأدبية يوم فارقها تتحدث في غزل أبي نواس، ووصف البحتري، وهجاء ابن الرومي، ومديح الشعراء في إسماعيل، وفكاهات الشيخ الليثي، فإذا انتقلوا من ذلك فإلى من عارض شعر هؤلاء من المحدثين، وما أنشأه الناشئون من سمار المجلس في مثل هذه الأغراض، ولما عاد إليها وجد المجالس تتحدث في حالة البلاد ووقوعها في أسر الدين، وفي الدول وتدخلها، ورأى جمعية سرية تسمى «مصر الفتاة» يجتمع أعضاؤها فينتقدون هذا كله في صراحة وحماسة ، والأدب يتحول فيأخذ شكل الكلام في الأمة ومصالحها، وآلامها، ويحتل ذلك مكان غزل أبي نواس، وشعر صريع الغوني، والنفوس بفضل تعاليم «جمال الدين الأفغاني»، وصحبة ثائرة تتطلع إلى نوع من الأدب غير الذي كان، وتجد غذاءها في الصحف السياسية والمقالات النقدية، فيشتغل في الصحافة من هذا النوع «أديب إسحاق» و«سليم نقاش» في جريدتهما «مصر» و«التجارة»، ويمدهما جمال الدين وتلاميذه بمقالاتهم وإرشاداتهم.
فأعد عبد الله نديم نفسه للأدب الجديد والمطلب الجديد، وانغمس في هذا التيار، وحول قلمه في هذا الاتجاه، يمد هذه الصحف بمقالاته في مثل هذه الموضوعات؛ فلقي من النجاح ما لفت إليه الأنظار، وكان له فضل كبير في إدراك أن الكتابة في الموضوعات السياسية إنما يتناسبها أسلوب متدفق سريع مرسل لا يقيده السجع إلا قليلا، لينسجم وحركات النفس المتحمسة الثائرة.
وفكر مع بعض أصحابه من أعضاء جمعية «مصر الفتاة» أن يحولوها من جمعية سرية إلى جمعية علنية، تعمل جهارا في الأعمال المشروعة، وجد هو وصحبه يجمعون المال لها من أعيان الإسكندرية، وسموها الجمعية الخيرية الإسلامية (وهي غير الجمعية القائمة الآن بهذا الاسم). وكان من أهم أغراضها إنشاء مدرسة تعلم الناشئة على نمط غير النمط الجاف الذي تسير عليه مدارس الحكومة إذ ذاك، فيضيفون إلى تعليم مبادئ العلوم بث روح الوطنية والشعور القومي في الأمة، وقد كان هذا غرضا جديدا دعا إليه الشعور القومي الذي كان في طور التكون.
وتم ذلك كله فجمع المال، وأنشئت المدرسة وجعل عبد الله نديم مديرها، وافتتحها بخطبة رن صداها في الثغر، وكان ذلك في أواخر أيام إسماعيل، وأقبل عليها كثير من أبناء الفقراء والأيتام، ووضع لها برنامج يحقق الغرض، وتكفل هو بتعليم الإنشاء فيها والأدب، وأخذ يمرن الطلبة على الخطابة والتمثيل، وعلى الجملة نفخ فيها من روحه، ولعلها أول جمعية مصرية إسلامية في مصر أسست لمثل هذا الغرض.
ثم وثق الصلة بين المدرسة والقصر، وكان الخديوي إسماعيل قد عزل وحل محله الخديوي توفيق، فتقرب النديم إليه واستزاره المدرسة فزارها، ورجا منه أن تنسب الرياسة لولي عهده «عباس»، فقبل وأغرم بتعليم التلاميذ الخطابة، فكان ينتهز كل فرصة لإقامة الحفلات يخطب فيها، ويحضر الخطب لتلاميذه ليخطبوها، ثم يمرنهم أن ينشئوا الخطب لأنفسهم، ويصلح خطأهم ويرشدهم، فأسس بذلك نخبة يحسنون التحرير، ويحسنون القول. ولم يكتف بذلك، بل خرج بالمدرسة على ميدان الحياة العامة، فكان يحضر بعض الروايات التمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه في بعض الملاهي العامة، من ذلك أنه أنشأ روايتين اسمهما «الوطن وطالع التوفيق» و«العرب» ومثلهما في «تياترو زيزينيا» حضرهما الخديوي توفيق، ونجح فيهما نجاحه أعلى ذكره.
ولكن ظهر فساد في الجمعية نسبوه إليه، ففصل من المدرسة ومن الجمعية.
عند ذاك اتجه إلى إنشاء صحيفة، وحبب إليه ذلك سابقة اتصاله بصحيفتي أديب إسحاق وسليم نقاش، ومرانته على الكتابة فيهما، وشعوره بأن الناس أعجبوا بما كتب، وأنه كان يكتب فيستغل أصحاب الصحف مقالاته مادة ومعنى فلا يؤجرونه على ما كتب، وكثيرا ما يضنون عليه حتى بذكر اسمه في ذيل مقالاته، بل يتركون القارئ يفهم أنها لهم ومن إنشائهم.
فأخرج صحيفة سماها «التنكيت والتبكيت» وفي هذا الاسم دلالة على غرضه وأسلوبه، فهو يرمي إلى تأنيب المصريين على ما وصلوا إليه، في أسلوب قد يكون لاذعا وقد يكون مضحكا.
وظهر العدد الأول منها في 6 يونية سنة 1881، ودعا فيه الكتاب أن يوافوه بمقالاتهم ونتاج قرائحهم على النهج الذي رسمه: كونوا معي في المشرب الذي التزمته، والمذهب الذي انتحلته، أفكار تخيلية، وفوائد تاريخية، وأمثال أدبية، وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم الخرافات، لنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثله
10
في الوجود، من ركوب متن الغواية، واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل.
وفي الحق أن هذه الصحيفة كانت عجبا في موضوعاتها وأسلوبها.
انظر العدد الأول: تجد تنكيتا وتبكيتا لأكبر المصائب التي كان يحسها ذلك العصر: مقال عنوانه «مجلس طبي لمصاب بالإفرنجي»، وهي قصة شاب صحيح البنية، قوي الأعصاب، جميل الصورة، لطيف الشكل، في رقة ألفاظ وعذوبة كلام، وفي عزة ومنعة لا يشاركه فيها مشارك ، يلتف حوله أهله يعززونه ويؤازرونه حتى لا تمتد إليه يد عدو، ولا حيل محتال. وبينما هو في ذلك تسلل إليه أحد الماكرين يتظاهر بالصلاح والتقوى، ويضمر الختل والغدر، فأسلمه إليه أهله انخداعا به. فعرضه هذا الماكر على الأسواق يريه من الغواني من تعارض الشمس بحسنها، وتكسف البدر بنورها، فمانع حينا، ولكنه رأى أهل بيته وقعوا في مثل هذه الغواية، وانغمسوا في مثل هذه الضلالة، فسار سيرهم، وترك النفار والآباء، وسار في الطريق الذي رسمه المنافق الخادع، فما سار فيه حتى أصيب بالداء الإفرنجي (الزهري) فاصفر وجهه، وارتخت أعضاؤه، وذهبت بهجته، غارت عيناه، وتشوه وجهه، وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع، وتمكن الداء منه، وسرى في دمه وعروقه، فصار يقلب طرفه لعله يجد من قومه من ينقذه من مرضه.
واجتمع الأطباء من قومه يفصحون الجسم، ويشخصون مرضه، ويقفون على أصله، ويركبون الدواء ليقف سريان الدواء، ويتعلق بهم أهل المريض يسألونهم الإسراع في معالجته: والاجتهاد في دفع مصابه، فطمأنهم الأطباء ونصحوا لهم بالهدوء والتحرر ممن كانوا السبب في الدواء. حتى لا يفسدوا العلاج، وابتدءوا يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في معالجته.
وواضح أن هذه قصة رمزية، أرد أن يصور فيها شعور الناس في هذه الفترة بعد ما كان من الإسراف، ووقوع مصر في الديون الباهظة، وتدخل الدول الأجنبية؛ من مراقبة ثنائية وإنشاء صندوق الدين، وما إلى ذلك، كما يصور بها ألم الناس من هذا المرض الإفرنجي، وأملهم في النجاة منه يسعى عقلائهم، وتفكير أولي الرأي فيهم، كل ذلك في أسلوب روائي مفهوم.
قد كانت هذه المسألة هي صميم المسألة المصرية، ومشكلتها الكبرى، فبدأ بها على هذا النحو، وعالجها هذا العلاج، وكان بارعا في التورية بكلمة «الداء الإفرنجي».
ويلي ذلك مقال في «عربي تفرنج» يصف فيه شابا من صميم الفلاحين، تعلم في مصر، ثم في أوربا، وعاد إلى بلاده يسفه أباه لما قابله على المحطة وقابله كيف يقبله، ويطالبه أن يسلم عليه بيديه فقط، ويكتفي أن يقول له «بن أريفيه» وينسى لغته، حتى اسم البصل، فهو لا يعرف إلا أن اسمه «أونيون» - ويختم هذا بالمغزى من القصة، وهو أن لا أمل في مثل هؤلاء إلا إذا حافظوا على لغة قومهم وعاداتهم، وصرفوا علومهم في تقدم بلادهم.
ثم يقص قصة موسرين اجتمعوا في بيت أحدهم، دخل عليهم فوجدهم ساهمين
11
لا يتكلمون ولا يتحركون، فظنهم يفكرون في أمر خطير شغل أذهانهم، وعقد لسانهم، كتفكيرهم في تقدم الصنائع في أوربا، وكيف يفعل ذلك في مصر، أو يفكرون فيما يزيد ثروتهم، ويضمن التقدم في عملهم، ثم يتبين بعد ذلك أنهم إنما اجتمعوا لتعاطي الكيف،
12
وقالوا ما لنا وللدنيا وما جرى فيها، وما لنا وللصحف والتلغرافات، ونحن بحمد الله في غنى عظيم، عندنا الخدم الذين يقومون بأعمالنا، وخلف لنا آباؤنا من المال ما لا تفنيه الأيام - فلا نخرج من بيوتنا إلا للمسامرات بالمضحكات والنكات اللطيفات.
ثم قصة ترمي إلى نقد ما كان يجري بين العامة من اجتماعهم في القهوة، وسماعهم للقصاص (الشاعر)، انقسامهم إلى معسكرين، متعصب لعنترة، ومتعصب لزغبة، وما كان أحدهم - وقد ختم القصاص الليلة بوقوع عنترة أسيرا - إذا ذهب إلى ابنه وأيقظه من نومه وأمره أن يقرأ في الكتاب حتى يخلص عنترة من الأسر، وإلا مات كمدا، فلما لم يطعه ابنه، وأفهمه أن هذا تخريف في تخريف، نزل عليه بعصاه حتى أدماه، والجنون فنون.
ويلي هذه قصة تمثل الفلاح الجاهل، المرابي الماكر؛ إذ أراد الفلاح أن يقترض منه مائة جنيه، فأعطاه سبعين، وكتب عليه «كمبيالة» بمائة وعشرين وحسبها كما يأتي: المائة فائدتها عشرون، تخصم في المائة فيكون فيه الباقي سبعين، وتضم الفائدة فيكون عليه مائة وعشرون، ويقتنع الفلاح بذلك لجهله بأبسط مسائل الحساب؛ ثم يقدم الفلاح للمرابي قطنا وقمحا ثمنها الحقيقي 125 جنيها، يحسبهما المرابي بأربعين، ويغالطه أغلاطا مضاعفة حتى يجعله مدينا بمائتي جنيه وعشرة، كل ذلك والفلاح في غفلة لا يدري ما يصنع به - فإذا عوتب المرابي على ذلك قال: ماذا أصنع! إن الفلاح حمار، وأنا أريد أن أكون غنيا كبيرا في خمس سنين!
ثم قصة غني كبير بنى بيتا فخما، وأثثه أثاثا بديعا، وكان من أثاثه مكتبة كبيرة، فلما أتم ذلك كله عرضه على الزائرين، فسأله أحدهم عن المكتبة وما يحوي، ليعرف أي نوع من العلوم والفنون يهوى، فقال الغني صاحب البيت: لقد دخلت بيت فلان وفلان فرأيت في مضيفة كل منهم خزامة كتب عليها ستارة خضراء وبجانبها منفضة من الريش؛ والخادم كل يوم ينفضها ويسمح الزجاج الخزانة، فعلمت أن هذا طراز جديد في بناء البيوت وتأثيثها، فقلدتهم في ذلك، ولا علم لي بعلم أو فن. «وهكذا أصبح الكل نائما في غفلة التقليد». •••
نعم، هذا كله في العدد الأول من صحيفة «التنكيت والتبكيت»، نقد للسياسة العامة للبلد، ونقد للعيوب الاجتماعية الخاصة. كل ذلك في أسلوب يسترعي الانتباه، فقد التزم اللغة البسيطة السهلة عن تفكير وروية، فقال في فاتحتها: إنه لا يريد منها أن تكون منمقة بمجارات واستعارات، مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بخامة لفظ وبلاغة عبارة ولا معربة عن غزارة علم وتوقد ذكاء، ولكن أحاديث تعودناها، ولغة ألفنا المسامرة بها لا تلجئ إلى قاموس الفيروز أبادي، ولا تلزم مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطر لترجمان، يعبر عن موضوعها، ولا شيخ يفسر معانيها، وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم، وفي بيت كخادم يطلب منك ما تقدر عليه، ونديم «يسامرك بما تحب وتهوى».
ثم هو يدرك أن في الناس خاصة وعامة، وكل يحب أن يقصد إلى تغذيته بالأدب، وأشعاره بوجوه النقد، لذلك يختار موضوعات الخاصة فيكتبها باللغة الفصحى كموضوع «الداء الإفرنجي» فهو موضوع دقيق لا يقدر قدره إلا الخاصة؛ أما الفلاح والمرابي وسماعوا القصاص فمكتوبة للعامة، فيجب أن تكتب بلغتهم العامية، وهو في اللغة العامية ماهر كل المهارة، ويعرف أمثالهم وأنواع كلامهم، ويضع على لسان الخادم والسيد والمرأة والرجل، والفقير والغني، والماكر والمغفل، وما يليق به، في دقة أحكام وظرف.
ثم هو قد فطن لشيء جليل القدر، وهو أن التعليم والنقد من طريق القصص أجذب للنفس وأفعل في النقد، فأكثر منه بل كاد يتلزمه .
لذلك كله نجح في صحيفته، ووصل نداؤها إلى أكبر عدد ممكن، فمن كان قارئا قرأ، ومن لم يكن قارئا سمع ففهم.
ولم يكتف بذلك، بل نراه في عدد تال يلتفت التفاتة لها خطرها في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وهي أن من أهم بين أسباب غفلة الشرق ضعف الخطابة، واقتصارها - تقريبا - على خطب المساجد، وهي خطب لا تمس الحياة الواقعة بحال من الأحوال، وإنما هي عبارة دينية محفوظة، ومعان متكررة مألوفة، لا تحرك قلبا ولا تضيء حياة.
فكتب مقالا قويا في قيمة الخطابة وأثرها في تاريخ الإسلام، ودعا إلى أن يحضر خطب المساجد أعرف الناس بشئون الحياة، وأقدرهم على التأثير، وأن تشرح هذه الخطب الموقف الحاضر في وضوح، وتبين الأخطار المحيطة بالأمة في جلاء، وأن يتبرع القادرون بقدر من المال يخصص لهذا الغرض، ويتفقوا مع ديوان الأوقاف ليسمح بإلقاء هذه الخطب في المساجد، ثم تطبع وتنشر في أنحاء البلاد، ليصل صداها إلى كل قرية وبلدة، وأعلن استعداده للاشتراك في إعدادها، ووضع خطبة نموذجية توضح غرضه، تتضمن المحافظة على حقوق البلاد والنهي على الظلم والبغي، والدعوة إلى الائتلاف لمواجهة الأخطار التي تظهر دلائلها في الأفق، والاتحاد مع المواطنين ما غير نظر إلى اختلاف الدين، والتذكير بمجد مصر السابق، والالتفاف حول الخليفة والخديوي، والتحذير من تمكين الأجنبي من وضع يده على سياسة البلاد، والتحرز من إتيان عمل يتخذه وسيلة لتدخله ومعاملة النزلاء الأجانب بالحسنى، ومن حفظ حقوق تجارتهم وعدم الإساءة إليهم.
هذه هي المعاني التي رأى أن الحاجة ماسة إليها في ذلك الوقت (في أول حكم الخديوي توفيق قبيل الثورة العرابية)، صاغها صياغة دينية تناسب صلاة الجمعة فبدأها بالحمد لله، والثناء على رسوله، وختمها بالحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». - وقد حقق «الراديو» أخيرا فكرة عبد الله نديم في إذاعة الخطبة شكلا، ولكن لما تتحقق فكرية موضوعه.
وانتهت هذه الصحيفة على هذا الموضوع.
3
لم يكن في مصر إلى أواخر عهد الخديوي إسماعيل رأي عام يشعر بظلم، وإن شعر فلا ينطق، لأن عنف الاستبداد أزمانا طويلة أمات الشعور وأخرس الألسن حتى تدخلت الدول الأجنبية في شئون مصر المالية، فبدأ الشعور يتنبه، وغذاه الخديوي إسماعيل نفسه وجرأه، لإحساسه بثقل التدخل وخشيته من عاقبته، فأول معارضة من مجلس شورى النواب للحكومة كانت بإيعاز منه، ولولا ذلك لم يجرؤ ومظاهرة الضباط ومهاجمتهم لنظارة المالية لتأخير رواتبهم كانت بتدبيره ليتخلص من وزارة نوبار التي تمالئ
13
الأجانب في هذا التدخل، واجتماع أعيان البلاد في دار السيد البكري، ووضعهم للائحة الوطنية - التي تعهدوا فيها بوفاء ديون أوربا وضمانها وعدم تدخل ممثليها في شئون البلاد - كانت فكرة بناها الخديوي في أذهانهم، وكان هذا أول ما شعر الناس بقوتهم وحاجة الحاكم إليهم، ونبه الرأي العام إلى أنه يستطيع أن يقف الظلم ويطالب بالحقوق. وأن من حقه مراقبة الولاة والحكام ورفع صوته بنقدهم، وهذا الشعور إذا وجد في أمة كان لا بد له من قادة يشعرون شعور الناس، ويصوغونه صياغة قوية يلهبون بها شعور من شعر، وينبهرون بها من لم يشعر، لكان ذلك في السيد جمال الدين ومدرسته، وجاء الخديوي توفيق ونواة الرأي العام قد غرست، وتتابع الأحداث الخطيرة يعذبها وينميها والنفوس مستبشرة بتوليته، فقد كان سمحا رحيما، وكان قبل عزل إسماعيل يتصل بالسيد جمال الدين ويحبذ آراءه في الإصلاح، فلما تولى قربه إليه وقال له: أنت موضع أملي في مصر، ودعا شريف باشا لتشكيل الوزارة، «وصرح برغبته في تحقيق آمال الأمة، وإخراجها من الحالة السيئة التي هي فيها بالاقتصاد في نفقات الحكومة، والاستقامة في الوظائف العامة وإصلاح القضاء والإدارة، وتوسع نظام شورى القوانين وإصلاح المحاكم والمجالس، والسعي لتعميم التربية والتعليم، وتوسع دائرة الزراعة والتجارة، ومنح الحرية للعاملين في أعمالهم».
ففرح الناس وتهللوا لهذه الوعود القيمة وتفتحت آمالهم، ولكن الحكم الشورى لم يرض طوائف كثيرة - لم يرض الحاشية، وكان السيد جمال الدين أشار على الخديوي توفيق بتغيير حاشية إسماعيل، فأغضبهم عليه. قال الشيخ محمد عبده: «ووكيل دولة فرنسا أخذ يسعى في إقامة الموانع دون إعطاء حق النظر في تصحيح الميزانية، وتقرير الأمور المالية، ودعا وكيل إنجلترا إلى مساعدة في إقناع الخديوي بضرر هذه الأوضاع الجديدة» فتغير رأي الخديوي توفيق في ذلك كله؛ فاستقال شريف باشا ونفي السيد جمال الدين، وأخذت الأمور مجرى آخر كان سببا من أسباب الثورة.
ثم جاءت وزارة رياض باشات بعد وزارة شريف، وفي تاريخ مصر الحديثة كان شريف باشا دائما رمز الحكم الشورى، ورياض باشا رمز الحكم الاستبدادي، وكلاهما كان يلتف حوله كثير من الخاصة، فحول شريف جماعة ترى أن الحكم الشورى هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البلاد من الفوضى، والأمل الوحيد في وقف كل سلطة عند حدها، والباعث الوحيد للأمن والحرية في نفوس الأفراد، وحول رياض جماعة ترى أن الحكم الشورى لا يصلح إلا إذا نضجت الأمة وعرفت شئونها ومجاري السياسة حق معرفتها، ورزقت من الشجاعة في القول والجد في العمل قدرا صالحا، وإلا كان الحكم الشورى نقمة، والأمة لم تبلغ هذا الحد؛ وكان الجدال والنزاع يدور على الفكرتين في الصحف والمجالس، على كل حال؛ فقد كان هذا درسا لتنوير الرأي العام في السياسة، وتفتيح الأذهان للنظر في المسائل العامة.
وكانت شخصية رياض شخصية معقدة - ذكي، خبير بالإدارة، قوي العزيمة صبور على العمل، معتز بنفسه، لا يرى بجانب رأيه رأيا، إذا وثق بشخص لم يسمع فيه قول قائل، وإذا أساء الظن بإنسان فإلى النهاية، نزيه، يحب الخير لمصر، ولكن حسبما يرى هو وبالطريقة التي يراها، قليل الثقة بالمصريين ممتلئ عقيدة بأنهم مملئون عيوبا، كبير التعظيم للأجانب، معتقد بقوتهم، يرى أنه لا يستطيع الحكم إلا بالاعتماد عليهم أو على أقواهم، لا يرى بأسا من إغضاب الخديوي وإغضاب الأمة في سبيل إرضائهم، ومع ذلك يبذل أقصى جهده في أن ينال منهم أقصى ما يستطيع لخير أمته - شديد الحب للحكم لا تعتزله إلا مكرها. فكانت أخلاقه هذه من عوامل التمهيد للثورة العرابية.
ألغى السخرة العامة كإقامة الجسور على النيل، وحفر الترع من غير أجر والسخرة الخاصة، كعمل الفلاحين في أرض سيدهم من غير مقابل، ونفذ ذلك في غير هوادة، فأغضب بذلك الأعيان، وأعطى السلطة العامة للمديرين، فأساءوا السيرة، وضيق على الصحف، وعطل بعضها، فعامل أصحابها سرا بعد أن كانوا يعملون جهدا، وسافر بعضهم إلى أوربا يصدر الجرائد في الطعن عليه، وعارض الخديوي في أن يمنح الرتب والنياشيين لمن يراهم أهلا، كما عارضه في كثير من رغباته فغضب الخديوي عليه، وعاقب «رياض» المدير الذي سخر الأهالي في حفر ترعة خاصة بالخديوي. وتصرف ناظر الحربية في وزارته تصرفات أغضبت رجال الجيش المصريين، فطلب عرابي وأصحابه تشكيل مجلس عسكري لتحقيق الشكايات، فمال رياض إلى إجابة مطلبهم، ولكن أشيع عنه أنه هو الذي يمانع في ذلك فغضبوا عليه - كل ذلك وهو لا يريد أن يتخلى عن الحكم.
تبلبلت الأفكار واضطربت، وكلها تتفق في وجوب تغيير الحال، وإن اختلفت أسباب غضب كل طائفة، فالأعيان يحبون رجوع سلطتهم في تسخير الناس، والضباط المصريون يريدون العدل بينهم وبين الشراكسة، وبعض ذوي الرأي يرون أن هذا كله تأييد لوجهة نظرهم في أنه لا يصلح الأمور إلا نظام الشورى والخديوي ناقم على رياض لخشونته، وبعض الأجانب لا يسرهم ما قام به رياض من ضبط الأمور المالية. كل ذلك هيأ للثورة العربية.
وتطورت مطالب العرابيين من عدل بين الضباط، إلى تغيير شكل الحكومة من نظام استبدادي إلى نظام شوري، إلى التهييج على الخديوي توفيق إلى المناداة بعزله لالتجائه إلى الدول لحمايته، إلى الدعوة للجهاد في سبيل صد المغيرين. واتسعت الحركة، من حركة محصورة في الجند والضباط، إلى حركة وطنية واسعة تشمل العلماء والأعيان والتجار والزراع وغيرهم، واندس وسط الحركة من يعمل صالح أمير ليحل محل الخديوي توفيق، فجماعة تعمل لصالح الأمير حليم ابن محمد علي، ومن هؤلاء صاحب جريدة «أبو نضارة» ومنهم من يعمل لحساب الخديوي إسماعيل لإعادته، ومن هؤلاء راتب باشا السرادر، وهكذا.
في هذا الجو الذي صورناه صورة صغيرة جدا عمل عبد الله نديم، واحتضنه العرابيون، فكان خطيب الثورة وكاتبها ومشعلها.
اتخذ جريدة «الطائف» بدل «التنكيت والتبكيت»، ونقل مكانها من الإسكندرية إلى القاهرة، وبدأها عنيفة قوية، تنقد تصرفات الخديوي إسماعيل في جرأة بالغة، وتشرح بؤس الفلاحين في السخرة والعذاب المهين الذي يلقونه من الرؤساء، وما شاهده بنفسه من أحداث، وكيف يخر الناس قتلى من الجوع والبؤس، والإعياء والضرب، وكل رئيس يريد أن ينال حظوة من فوقه بالمغالاة في التعذيب.
وكان عبد الله نديم في هذه الصحيفة يعبر عن آراء النواب في ضرورة الإصلاح عن طريق الحكم النيابي؛ وقد كتب سلطان باشا رئيس النواب إلى إدارة المطبوعات أن تعتبر جريدة «الطائف» لسان النواب المعبر عن أفكارهم، فاعترفت الإدارة بذلك، ونشر هذا رسميا بأمر نظارة الداخلية، ولكن لما رأت إدارة المطبوعات عنفه وتهييجه عطلته شهرا.
أصبح «الطائف» في الثورة العرابية لسان الدعاية لها، يقدم من عاداها، ويشجع من والاها، ويلقب «عرابي» بحامي حمى الديار المصرية، ويتطور بتطورها فينقد الأوروبين وتصرفاتهم، وينقد الخديوي توفيق لارتمائه في أحضانهم، وفي أسلوب لاذع وتهكم ساخر، فإذا كانت الحرب نقل جريدة «الطائف» إلى المعسكر يحرض الجنود على القتال، ويحرض الشعب على تقديم المئونة، وينشر خبر التبرعات وكلما اشتد الأمر واشتد في تهييجه؛ وقد قلت صفحاتها لاشتداد الظروف: من أربع إلى اثنتين إلى واحدة، وهو يهرج في أخبار الحرب، فيقلب أخبار هزيمة المصريين إلى أخبار انتصار، وانتصار الإنجليز إلى أخبار هزيمة، وظل كذلك حتى تمت الهزيمة، وتم التسليم.
هذا عمله في الصحافة، وإلى جانب ذلك كان عمله في الخطابة.
فقد طاف في كل مجتمع يخطب، وأعطى من ذلاقة اللسان ما يستدعي العجب، فما هو إلا أن يحرك لسانه حتى يتدفق وتنهال عليه المعاني والألفاظ انهيالا، وقد نشر في البلاد فن الخطابة، وعلم كثيرا من الناشئة أن يخطبوا في المحافل؛ وأعطى لهم المثل بمقدرته وكفايته، وبدأ ذلك أيام كان يعلم الإنشاء والأدب، في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية. فلما أعلن الدستور في أول عهد توفيق (7 فبراير سنة 1882)، سرت في النفوس هزة فرح لا تقدر، وأمل الناس أن الحكم النيابي سيصلح كل مفاسد الماضي، ويرسم كل وسائل السعادة للحاضر والمستقبل - واشتاق الناس أن يسمعوا الكلام الكثير في هذا الموضوع ، فكان عبد الله نديم وصحبه وتلاميذه الذين يغنون للناس بآمالهم، فأقيمت الحفلة تلو الحفلة إليها النديم وفرقته ليخطبوا والنديم هو قطب الرحى. يخطب أولا، وكلما خطب خطيب وتناول موضوعا قام النديم بعده يعقب عليه، ويتخذ من كلامه موضوعا يطنب فيه، وفي هذه الحفلات يحضر النظار وكبار الضباط والعلماء والنواب والأعيان، فتطرب نفوسهم لهذا طربهم من عبده الحمولي ومحمد عثمان.
هذه حفلة تقيمها جمعية المقاصد يفتتحها «النديم» بقصيدة، ثم يشكر الجمعية على احتفالها بالدستور، ويتلوه إبراهيم اللقاني فيبين الفرق بين عهد الاستبداد وعهد الشورى، فيعقبه النديم يكمل موضوع الفروق بين العهدين؛ ثم يقوم الشاب مصطفى ماهر - باشا فيما بعد - فيتكلم في الحث على الاجتهاد في العلوم والفنون، ويستحث الأغنياء على إنشاء بنك أهلي يحمي الأهالي من استغلال المرابين، ويختم ذلك بالدعوة إلى الألفة والاتحاد، فيقوم بعده النديم يتكلم في هذا الموضوع، ثم يقوم الشيخ محمد عبده فيبين مزايا الحكومة النيابية، ويطالب بوجوب أن يكون النواب من المتعلمين، ويحث على تعميم التعليم، وعلى احترام حرية القول والكتابة، وسن القوانين المبينة لحقوق الأفراد وواجباتهم، ويقوم «النديم» بعده معقبا على قوله، ثم يقوم أديب إسحاق فيتكلم في شعور النواب وتضامنهم مع النظار في كل ما يجلب الخير للبلاد، ويتلوه النديم؛ ثم يقوم فتح الله أفندي صبري (فتحي باشا زغلول) فيخطب في الحث على الاتحاد والثبات، وينتهي هذا الاجتماع.
وتتكرر أمثال هذه الاجتماعات، ويقال فيها مثل هذه الخطب، ويقوم بالدعوة إليها كبراء البلد، وكلها على غرار الحفلات السابقة، عمادها عبد الله نديم وإن اختلفت بعض الموضوعات، كدعوة إبراهيم اللقائي إلى التمسك بأسباب القوة والاتحاد، والحث على مجانبة الخوف والجبن، وخطبة فتحي زغلول في الأخذ بالمبادئ التي تمدن البلاد، والدعوة إلى إنشاء جمعية تفتح مدارس ليلية يتعلم فيها من لم يسمح له عمله بالتعلم.
ويدعى عبد الله نديم إلى حفلة في الإسكندرية على هذا الطراز، وكل هذه الحفلات توصف في جريدة الوقائع المصرية، ويذكر فيها خلاصة ما دار فيها من خطب، فتنشر في البلاد.
فلما عطل الدستور؛ وتطورت الأمور، وكانت الثورة العرابية، تحولت خطب عبد الله نديم إلى موضوع الثورة، وكان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته، والجيش وجنوده، وفي حفلات «الأفراح»، فما يكون مجتمع لغرض من الأغراض إلا ويطلع عليهم عبد الله نديم، وجماعة من ناشئته يعتلون المكان العالي ويخطبون في موضوعات الثورة، حتى كان إذا سئل محمد عثمان «المغني»: أين تغني الليلة؟ يقول: «في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم». وهو في هذا الموقف لا يتحرج من التهريج، فيقول مثلا في بعض خطبه: إن طوابي الإسكندرية إذا أطلقت مدافعها يبلغ مرماها جزيرة قبرص من هذا الجانب، ومدافع الآستانة إذا أطلقت تبلغ هذه الجزيرة من الجانب الآخر. فكيفما جالت الأساطيل الإنجليزية فهي تحت رحمة مدافعنا، فيصفق الناس؛ ويخطب «فتحي زغلول» فيقول النديم: ألا تعجبون لما أبدى هذا التلميذ في خطبه من العلم والبيان والتفنن في المواضيع، مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعا واحدا؟! ويخطب مصطفى ماهر فيقول النديم: أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد في أمرها.
على كل حال كان عبد الله نديم لسان الأمة في عهده بخطبه، وقلمها بصحفه، ينتقل في الأقاليم ولا يكل ولا يمل، وينشر آراءه ومشاعره في أكبر عدد ممكن من الأمة؛ وبذلك كله ساعد نمو رأي عام مصري يؤمن بالحكم الشورى، ويتطلع إلى الإصلاح في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن كان السيد جمال الدين رسول الخاصة في هذه المعاني، فعبد الله نديم كان رسول العامة، قطر المعاني التي تدعو إليها جمال الدين إلى الشعب، وأوصلها إلى التاجر في متجره، والفلاح في كوخه، والتلميذ في مدرسته؛ كان السيد جمال الدين بحكم أرستقراطيته في نشأته وثقافته والبيئة التي تحيط به، ولغته في كلامه وكتابته، معلم الخاصة، وكان عبد الله نديم بحكم ديمقراطيته في النشأة والعلم والبيئة واللغة معلم العامة.
لسنا الآن بصدد الحكم على الثورة العرابية وما نفعت وما أضرت والمسئولين عنها، والمآخذ عليها، وإنما كل ما يعنينا الآن أن نقول: إنه إذا تبخرت أقواله التي دعت إليها فورة الثورة، وتبخرت أنواع تهريجه وتهويشه، بقى لنا جانب كبير من جوانب نفع عبد الله نديم في هذه الحركة، وهو إيقاظ الشعور في الشعب بحقه في الشكوى من الظلم، والمطالبة بالعدل، وإفهامه أن الحاكم يجب أن يكون مسئولا أمامه، وأن هناك نوعا جديدا من الحكم غير الذي ألفه: من رجوع الأمور كلها إلى إرادة الحاكم يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وهذا النوع الجديد هو حكم البلاد نفسها بنفسها ممثلا في نوابها، وأن مصر للمصريين لا للدولة العليا، ولا لأية دولة أجنبية؛ وهذه معان قد كانت عند خاصة الخاصة، فنشرتها الثورة وعبدالله نديم في العامة.
ولئن أخفقت الثورة فيقظة الرأي العام - إلى حد ما - وشعوره بنفسه، وتنهيه لحالته الاجتماعية والسياسية لم يخلق، ويتجلى ذلك على الأخص إذا قورن بينه وبين حالته من قبل.
4
انتهت الثورة العرابية بالإخفاق والهزيمة المنكرة، وكانت الهزيمة الخلقية أقسى من الهزيمة الحربية، فقد ذل أكثر قواد الحركة، وتنكر لهم أكثر من كان يناصرهم، وبدأت السعايات
14
تدب، وكل من كانت له خصومة مالية أو عائلية سعى في الإ يقاع بخصمه، يتهمه بعمل من أعمال الثورة، وامتلأت المجالس المشكلة للنظر في الدعاوى والتهم، وأخذ كثير ممن اشتركوا في الحركة يتبرءون مما قالوا وما فعلوا. وإن استطاع كثير منهم أو حاول تبرئة نفسه، فعبد الله نديم ليس مستطيع شيئا من ذلك، فخطبه لا ينساها أحد، وأقواله مسجلة عليه في جريدة «الطائف»، فلابد إذا حوكم أن يحكم عليه بأشد العقوبات، وكان أغلب الظن أنها الإعدام.
لقد فكر عرابي هو ومن معه أن يطلبوا العفو من الخديوي، وكتبوا رسالة وبعثوها مع وفد إلى الإسكندرية لتقديمها إليه، ثم بدا لهم أن يغيروا بعض نصوصها، فبعثوا بصيغة أخرى مع عبد الله نديم، فلما وصل إلى كفر الدوار علم أن الخديوي رفض العريضة الأولى وأمر بالقبض على بعض رجالها، فعاد «النديم» إلى القاهرة، وأيقن بالهلاك، فأعد العدة للهرب والاستخفاء، وإذا به «فص ملح وداب»، تجد الحكومة وتضع له الأرصاد
15
وتوجه كل قوة للبحث عنه، ويبعث كل من سلطان باشا ورياض باشا منشورا لرجال الإدارة بالجد والنشاط للقبض عليه، وتعلن مكافأة ألف جنيه لمن يرشد عنه، والعقوبة القصوى لمن يخفيه فيذهب كل ذلك سدى، مدى نحو عشرة أعوام، وهو في كل أموره يحتال حيلا أين منها حبل أبي زيد السروحي في مقامات الحريري؟ ويمثل روايات أين منها الروايات البوليسية المعروفة؟
لقد أعيت الحكومة أمره، فأصدرت عليه حكما غيابيا بالنفي المؤبد من القطر المصري.
ها هو ذا أول مرة يذهب إلى «بولاق» ويستخفي عند صديق له وفي أياما حتى يخف عنه الطلب، فيخرج وقد لبس «زعبوطا» أحمر، واعتم بعمامة حمراء وربط عينيه بمنديل، وأطال لحيته، وأمسك عكازا طويلا، وتصنع أنه من مشايخ الطرق، ونزل في سفينة مع خادمه إلى بنها، فلم يفطن له أحد.
وجزع خادمه وكان أميا، وأراد أن يرجع إلى أهله، فأيقن «النديم» أنه إذا عاد انكشف أمره، فأخذ يقرأ الجريدة يوما، ثم تصنع إلى الفزع وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فسأله الخادم عما أفزعه، فقال «النديم»: إن الحكومة قد جعلت لمن يرشد عني ألف جنيه، ولمن يأتيها برأسه خمسة آلاف؛ فخاف الخادم، وأخذ يبالغ في التنكر أكثر من سيده، واستراح من هذا الباب، وظل معه طول مدة الاستخفاء. وقال هو عن نفسه في هذه الفترة: «خرجت من مصر مستخفيا فدرت في البلاد متنكرا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي أدعيها، من قولي إني مغربي أو يمني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي، وأصلح لحيتي إصلاحا يوافق الدعوى أيضا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر عند دعوى السياحة - مثلا - وأبيضها في بلد، وأحمرها في قرية، وأسودها في عزبة». فأحيانا كان اسمه الشيخ يوسف المدني، وأحيانا الشيخ محمد الفيومي، وأحيانا سي الحاج علي المغربي، وهكذا، وأحيانا كان يجتمع بمن يعرفهم فيثير عجبهم، لأن المقدرة مقدرة «النديم»، ولكن يختلف في الشكل والصوت واللهجة ، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له.
وساعد على نجاحه في هذا الاستخفاء أمور، منها: مهارته في حيله، وإتقانه لما يدعي، فإذا ادعي أنه مغربي تكلم مغربي محكم، أو مدني فكذلك ادعي مرة - وهو في القرشية - أنه عالم يمني، وذاعت شهرته في العلم والأدب حتى بلغت القاهرة، فأرسل إليه رياض باشا «سعد زغلول» ليسأله عن مثل ورد ذكره في بعض الجرائد ولم يفهم معناه، فقابله على أنه عالم يمني وفسر له.
16
وكان من مهارته في استخفائه أنه رأى جد الحكومة في طلبه، فاستعان برجل من الفرنسيين يعرفه ويثق به، فأشاع عنه أن النديم هرب إلى «ليفورنو» في إيطاليا، ونقلت هذا الخبر جريدة «الأهرام» وصدق الناس ذلك، وعنفت الحكومة رجال الضبط على إهمالهم حتى تمكن من الخروج، فخف عنه الطلب، ولم يكن كل ذلك إلا خدعة. وكتب صاحب جريدة «المحروسة» مرة بعد استخفائه بسنتين: إنه «قد تعددت الأقوال في مقر عبد الله النديم، فمن قائل إنه التجأ إلى البلاد الإيطالية، ومن قائل إنه فر إلى طرابلس الغرب، ومن زاعم أنه أتى السودان واتصل بالمهدي وصار له نديما، وقال قوم إنه سارع في السفر إلى «سيلان» للاجتماع بعرابي، والحقيقة فيما نعلم أنه أتى باريس في الأيام الأخيرة، ونشر فيها مقالة أتى فيها على ذكر الحرب العرابية، وندد بالمصريين، ونسب إليهم الضعف والجبن» إلخ.
ومنها عطف بعض الناس عليه، وإيمانهم بأن المروءة تقضي عليهم - وقد تزل بساحتهم - أن يخفوا أمره إذا علموا، وأن يساعدوه على الاستخفاء مهما أغروا بالمال، كالذي كان من عمدة «العتوة» بمديرية الغربية، وهو الشيخ محمد الهمشري، فقد نزل عنده وعرفه بنفسه، فأكرم مثواه، وأقامه في داره أكثر من ثلاث سنوات في مكان منعزل له باب خاص؛ وزوجه؛ وزوج خادمه؛ فلما توفى دعت زوجته أكبر أولادها، وقالت له: هل نطمع في المكافأة أو تكون كأبيك شهما تحفظ الجار وتحمي اللاجئ؟ فوعدها بأن يكون كأبيه في حفظه؛ ووفى بذلك؛ حتى أحس «النديم» بوشاية واش، فخرج من عندهم حامدا مروءتهم.
وصادفه مرة مأمور مركز شركسي، والنديم في تنقله بين البلاد، فعرفه، فصرف جنده ثم اختلى به، وقال: لا ضرورة لتنكرك فقد عرفتك، وأعطاه ما معه من نقود، ورسم له خطة السير في طريقه حتى لا يضبط.
وكان في أول مرة أمره شديد الحنين لأبيه وأمه وأخيه. لا يعرف ما صاروا إليه؛ شديد الشوق لمعرفة كتبه وتآليفه وأوراقه التي تركها في بيته بالإسكندرية، ثم وسط الصديق الفرنسي أن يتعرف كل ذلك ويأتيه بالأخبار؛ فعرف الفرنسي أن أسرته تشتت والناس تنكروا لهم، والأرصاد وضعت حولهم، وإن أباه يقيم عند قريبة له في الريف، وأن كتبه وتأليفه التي أنفق فيها تسعة عشر عاما، عندما ضربت الإسكندرية وهاجر منها أهلها وضعها أبوه في ثلاثة صناديق كبار شحن بها عربة من عربات السكر الحديدية، فلما وصلت إلى كفر الزيات ازدحم على القطار المسافرون من المهاجرين ازدحاما هائلا، فلم يسع رجال المحطة إلا أن يرموا جميع ما بالعربة في النيل، ومنها الصناديق ال ثلاثة وفيها كل ثروته العقلية.
ثم لما هدأت الأحوال وخف عنه الطلب كان يتصل بأبيه وأخيه اتصالا منظما.
وتأتي عليه أزمات ثم تنفرج، فهذا عيد الأضحى وهو في «برية المندرة» يسكن وسط الحقول، لا يسكانه أحد إلا زوجته، ولا يجد القوت الضروري، ويأتيه خادمه الذي يسكن بعيدا عنه يشكو له البؤس والفقر وعدم القوت في يوم العيد، فما هو إلا أن بعث له رجل من أهل البر والمروءة بما يملأ بيته قمحا وعسلا وسمنا وثيابا، كما يبعث الأطلس والحرير للبس زوجته، وشيئا من ذلك الخادم وزوجته، وأتيح له من الفراغ ما مكنه من إكمال نفسه بالمدرسة والتأليف، فكان إذا اطمأن في قرية قرأ ما تصل إليه يده من الكتب، وكانت مكتبته في هذه الأيام مكتبة خفيفة يسهل حملها إذا دعا داعي الرحيل السريع، فكانت تفسير القرآن لأبي السعود ، وقاموس الفيروز أبادي، و«الوافي» في المسألة الشرقية لأمين شميل، وجغرافية ملطبرون الذي ترجمه الشيخ رفاعة؛ وألف فيما يعن له في الدين والتاريخ. فكان هذا نعمة عليه لم يستطعها في أيامه الأولى. كتب لصديق له في هذه الفترة يقول: إن سالت عني فأنا بخير وعافية، وحالة رائقة صافية، لا أشعل فكري بما يأتي به الليل إذا كنت بالنهار، ولا أتعب ذهني بتوالي الخطوب والأكدار، ولا أتألم من طول المدة، ووقع الشدة، لاعتقادي أن لكل شدة مدة، متى انتهت جفت الأوحال، وحسنت الحال، فتراني فكري كليمي، وقلمي نديمي - تارة أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة، بما تعظم به الله المنة، وحينا أشتغل بنظم فرائده، في صورة قصائد، ووقتا أكتب رسائل مؤتلفة، في فنونها مختلفة، وآونة أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمنا أكتب في العادات والأخلاق، وجغرافية الآفاق، ومرة أطوف الأكوان، على سفينة تاريخ الزمان، ويوما أشتغل بشرح أنواع البديع، في مدح الشفيع ... وقد تم لي الآن عشرون مؤلفا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف جعل أيام المحنة، وسيلة للمنحة والمنة. أتراني كنت أكتب هذه العلوم، في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين وفي حجرها ثالث وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع، أشتغل بعض النهار بتحرير الجورنال، وأقضي ليلي في دراسة الأحوال، مشتغلا بمجالس الجمعيات الخيرية ومدارسها التعليمية، وزيارة الإخوان، ومراقبة أبناء الزمان، وقد نسيت الأهل والعيلة، وربما نسيت الطعام يوما وليلة، فكنت كآلة يحركها البخار، لا سكون لها ما دام الماء والنار. فمتى كنت أنظر للمخلفات، وأكتب هذه المؤلفات؟
ولو أن نار مصيبتي
في الغير أصلاه الزفير
لكنها في ساحة
من فوقها جو مطير
هو صدق إيماني و
صبري للقضاء بلا نكير
ووقوف جيش عزيمتي
في باب مولاي البصير
وكان في رحلته برا بخادمه «حسين» الذي غير اسمه فسماه «صالحا»، وزوجه، وعلمه القراءة، والكتابة، وحفظه جملة سور من القرآن، وعلمه الفقه والتوحيد، واتخذه صاحبا.
وتواردت عليه أيام بؤس ومحن يشيب منها الوليد، تغضب عليه زوجته وتلطمه على فمه، حتى تكاد تسقط ثناياه، وربما رأى - مع هذه الحال - أن إظهار نفسه للحكومة أهون عليه، ثم يرتضاها ويصالحها، وأحيانا تتخاصم زوجته مع زوجة خادمه وتشتد الشحناء، وتهدده كلتاهما بأن تفضح أمره، فيتدارك كل ذلك بحيله، وأحيانا يشعر بالخطر يهدده فيشتد في الحذر والاستخفاء، حتى لقد استخفى مرة في قاعة مظلمة لا يتوصل إليها إلا من سرداب طويل مظلم، يرشح الماء أرضها لقربها من ترعة، ولا يتمكن من القراءة والكتابة إلا على مصباح صغير يضاء بالجاز فيملأ الحجرة دخانا، ويستمر فيها نحو تسعة أشهر، وأحيانا يبلغ به سوء الحال مع الرغبة الشديدة في الكتابة أن يصنع الحبر من هباب
17
الفرن، ويضيف إليه بعض قرط السنط، ويتخذ أقلامه من الحجناء.
18
وهو على كل ذلك صبور، يعزيه أن يجد من أهل المروءة ما يخفف كربه، ويضمد جرحه «فمحمد معبد» الحلاق «بشباس الشهداء» يؤويه في بيته، ويغمره بفضله، وينفق عليه ما يحرم منه أسرته. و«أحمد جوده» الفلاح يصاحبه في انتقالاته في الظلام الحالك، ويعرض نفسه من أجله للمخاطر.
لشد ما أتعب نفسه في استخفائه، وأتعب الناس معه ولكن ما أكثر ما أمتعهم أيضا بأحاديثه وفكاهاته، ووعظه وسمره.
وأخيرا نزل «بالجميزة» فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن رجلا اسمه حسن الفرارجي - كان جنديا ثم استخدم جاسوسا - عرفه فكتب إلى السراي وإلى الداخلية، فأمرت بالقبض عليه، وذهب وكيل حكمدار الغربية ومعه قوة من الجند فالتفوا حول البلدة، وأراد «النديم» الهرب بحيله القديمة فلم يستطع، فاستسلم. وكان من حسن حظه أنهم لم ينتبهوا إلى أوراقه. وكان في بعضها هجاء شديد للخديوي توفيق لو اطلعوا عليه لتغير مجرى حياته. وكان القبض عليه في صفر سنة 1309ه. واستخفاؤه في ذي القعدة سنة 1299ه. وأرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان وكيل النيابة إذا ذاك قاسم بك أمين، فأحسن معاملته، وأمر بأن ينظف مكانه في السجن، ويضاء كما يريد، وأن يمكن من شرب القهوة والدخان كما يشاء، وأمده بالمال من عنده. وكان هم التحقيق متجها إلى معرفة من آواه، وهل كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه؟ ولكنه أنكر كل الإنكار أن يكون أحد ممن آواه يعرف حقيقته؛ ثم صدر أمر الخديوي توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر إلى أي جهة شاء؛ فاختار يافا ونزل بها، فأكرمه أهلها، واتخذ بها دارا جعلها منتدى للأدباء والعلماء، وطوف في فلسطين يشاهد آثارها، ويحج إلى مزاراتها، ويجتلي حسن طبيعتها.
ثم مات توفيق وتولى عباس، فعفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر سنة 1892 فعاد وفكر طويلا فيما يفعل وأين يتجه، وتردد بين مصر والإسكندرية، وأخيرا عين اتجاهه، وقرر أن ينشئ بالقاهرة مجلة «الأستاذ» فكان صفحة جديدة في باب جهاده.
5
كانت الظروف التي تولى فيها الخديوي عباس ظروفا دقيقة، شاب ناشئ في الثامنة عشرة من عمره، دعي من (فينا) حيث يتعلم ليتولى الحكم في مصر، ومصر قد انتهت ثورتها العرابية واطمأن الإنجليز إلى احتلالها، ووضعوا أسس نظامها، وتمكنوا من وضع أيديهم على كل شأن من شئونها، وعباس الشاب لقن آراء الاستقلال والشعور بالوطنية والعزم على العمل لتسترد مصر ما فقدت، وهو يعيب على جده إسرافه، ويعيب على أبيه توفيق استسلامه، وعلى رجال المعية ضعفهم، وشباب الأمة يبلغه هذا الشعور فيجاوبه، فيتوجه الخديوي لصلاة الجمعة في المسجد الحسيني فيقابله الشعب في حماسة، «ويتقدم الطلبة وغيرهم من المحتشدين بالسكة الجديدة - نحو العربة الخديوية ويقصون جيادها ويجرونها بأنفسهم»، ويغير الخديوي رجال المعية بغيرهم ممن هم أقرب إلى نفسه ومبادئه.
وفي ذلك الوقت كانت فرنسا تشعر بخطئها في سياستها الماضية التي آلت إلى ضعف نفوذها في مصر، فأخذت تبحث عن طريقة لاسترداد بعض ما فقدت فرأت أن يكون من هذه السبل الالتفاف حول «عباس».
وتركيا كذلك تأسف هذا الأسف، وتتجه هذا الاتجاه - وكل هؤلاء وهؤلاء يطالبون بالوفاء بوعد إنجلترا بالجلاء عند صلاح الأمور.
والحكومة الإنجليزية تلوح في البرلمان الإنجليزي من طرف خفي بالنصح لعباس أن يتبع سياسة والده في مسألة الإنجليز والتحالف معهم.
وأخذ الخديوي عباس يتصل بالشعب ويوسع نفوذه عن طريق الرحلات في المديريات، ومقابلة الأعيان، وزيارة المعاهد والمدارس، كما أخذ يميل إلى مباشرة الأعمال بنفسه بالاتصال بالمديرين، وتكليفه المختصين كتابة التقارير عن نظم التعليم والجيش ونحو ذلك، فبدأ شيء من الجفاء بينه وبين اللورد كرومر، وتسرب ذلك إلى الشعب.
عند ذلك بدأت تظهر في البلد تيارات مختلفة، وبدأت توضع بذور الأحزاب المختلفة، وبدأت تتجلى بوضوح اتجاهات الصحف المختلفة.
هذه تؤيد الحركة الوطنية وتناصر الميول الخديوية، إما عن إخلاص، وإما رغبة في الكسب، وإما خدمة للسياسة الفرنسية، وهذه تؤيد السياسة الإنجليزية، إما رغبة في الاستفادة، وإما عن عقيدة أيضا.
وظهر أثر ذلك في الجدل في المجالس والمناظرة في الصحف.
في هذا الأفق المملوء بالسحب، ظهر «عبد الله نديم»، وقد سمح له الخديوي عباس بدخول مصر، فمكث قليلا يتعرف الأحوال، ويدرس ما فاته من شئون مصر مدة غيابه، ثم صح عزمه على تحديد الغرض وإنشاء جريدة «الأستاذ» قال عنها: «إنها جريدة علمية تهذيبية فكاهية»، تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وظهر العدد الأول منها في أول صفر سنة 1310ه-23 أغسطس سنة 1992م، يتولى هو تحريرها، ويتولى أخوه إدارتها، وقد كتب في أول عدد منها أنها لا تتعرض للسياسة العملية الإدارية؛ أما السياسة من حيث هي فن فإنها تدخل في موضوعها العلمي.
كانت أول أمرها تعد امتدادا لجريدته «التبكيت والتنكيت» من حيث موضوعها وأسلوبها، فهي تعني أكثر ما تعني بنقد العيوب الاجتماعية في المجتمع المصري، وفيها مقال أو نحو ذلك في شئون الإصلاح السياسي من وجهة عامة، ثم هي تحرر باللغة العربية الفصحى في المقالات السياسية الإصلاحية، وباللغة العامية في الموضوعات الاجتماعية.
والمطلع على ما كتبه في هذا العهد يرى أنه بعد رجوعه من مخبئه قد فوجئ بموجة من الانحلال الخلقي في البلاد. فإفراط لم يكن معهودا من قبل في شرب الخمور، وعدم اكتراث الشاربين ينقد الناقدين، وانتشار للخمارات في المدن والبلاد والقوى، وابتزاز الأروام للأموال عن طريقها - وشعور النساء بالحرية، فهن يكثرن من الخروج في الشوارع متبرجات بزينتهن، ثم الحشيش والمعاجين والإفراط فيها والاحتفاء بمجالسها. ثم استعمال كلمة الحرية وسيلة للانهماك في اللذات والشهوات؛ وأعجب من ذلك السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدا أعمى في لي لسانه بالقول، والتشدق باستخدامه كلمات أجنبية أثناء حديثه بالعربية، ولبس الضيق المحبوك من الثياب الإفرنجية؛ فنقد كل ذلك في أسلوب قوي جريء، واتهم الأوربيين بتشجيعهم هذه الأمور حتى يسقط الشرق وتنحل أخلاقه؛ ونقد كذلك منهاج التعليم في البلاد، وخلوها من بث الروح القومية والعصبية المصرية؛ وحث أبناء البلاد على إنشاء الجمعيات الخيرية التي تسد هذا النقص، ونحو ذلك.
وعجب مما رأى من أن كثيرا من أولي الرأي في الأمة أصابتهم الدهشة والرعب من الاحتلال، فانطووا على أنفسهم، ولزموا دورهم، فإن تكلموا في الشئون العامة فمن وراء حجاب، وتركوا الناس مبلبلة أفكارهم، مضطربة نفوسهم، لا يعرفون أين يتجهون، فدعا إلى خروج ذوي الرأي من عزلتهم؛ واختلاطهم بالرأي العام في المجامع العامة، ويخطبون فيهم، ويشرحون ما حدث وما يحدث، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.
في كل ذلك كتب «عبد الله نديم» في الأعداد الأولى من «الأستاذ» - ووجد النفوس مستعدة لهذه الدعوات كأنها حائرة تنتظر الدليل، ضالة تلتمس الهادي، فانتشر «الأستاذ» انتشارا فاق ما كان يتوقع، فقد كان يطبع منه حول ثلاثة آلاف، كأكبر جريدة يومية إذ ذاك، وأعيد طبع الأعداد الأولى منه.
وقد حاول مرة أن يحرر الجريدة كلها باللغة العربية الفصحى، فأتته رسائل الاحتجاج الكثيرة تذكر له خطأه، لأن المرأة تسمع مقالاته في بيتها، والعامي يسمعها وهو في مصنعه ومتجره، والفلاح في حقله، وكلهم يستفيد من نقده، وكثير يتعظ بنصحه؛ فنزل عند رأيهم، وأعادها كما كانت عربية فصيحة في بعضها، عامية في بعضها.
ثم نرى نغمته تعلو شيئا فشيئا في الميدان السياسي، ومناصرة الحركة الوطنية، ومؤازرة الخديوي عباس، ومناهضة الاحتلال، حتى بدا ذلك واضحا في العدد الصادر في 17 يناير سنة 1983، فيفتتح العدد بمقال جريء عنوانه: «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، وهي كلمة كانت تتردد على لسان بعض الأوربيين يخاطبون بها الشرقيين ، ويقع المقال في ست وعشرين صفحة من أقوى ما يكتب، يصف فيها حالة الغرب وحالة الشرق ووسائل الاستعمار، وما إلى ذلك، ويندد بالغربيين في أساليبهم، وبالشرقيين في غفلتهم، ويشرح ما تفعله الحكومات الغربية لترقية شعوبها، وما تنشره في أمم الشرق لانحلالها، وما يفعله المصريون في تخاذلهم وتواكلهم،
19
ويدعو إلى الالتفاف حول الخديوي ومطالبته بالمحافظة على حقوقه الشرعية؛ ويختم المقال بقوله: «وبالجملة فقد بلغ السيل الزبى.
20
فإن رفونا هذا الخرق، وشددنا آزر بعضنا، وجمعنا الكلمة الشرقية، مصرية وشامية وعربية وتركية، أمكننا أن نقول أوربا: نحن نحن، وأنتم أنتم، وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ
21
بالأجنبي فريقا بعد فريق، حق لأوربا أن تطردنا من بلادنا، وتصدق في قولها: «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا».
واستمر على هذه النغمة كذلك في الأعداد التالية؛ والمطلع على الحوادث التي كانت تجري في تلك الأيام يرى أن علو هذه النغمة كان صدى لما يحدث من أزمات؛ ففي هذه الأيام بعينها اشتد الجفاء بين الخديوي عباس واللورد كرومر، ففي 15 يناير سنة 1893 أقال الخديوي مصطفى باشا فهمي منتهزا فرصة مرضه، وعهد إلى حسين فخري باشا في تشكيل الوزارة، فعارض اللورد كرومر في تعيين الوزارة من غير أخذ رأيه؛ واشتد الأخذ والرد، وأنذرت إنجلترا الخديوي إنذارا شديدا، وانتهت المسألة باستقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا حسبما أشار اللورد كرومر. وانتشر الخبر في الشعب، فأقبلت الوفود على الخديوي في 18 يناير تلقى الخطب في تأييده في موقفه، وظهر أثر ذلك واضحا في الجرائد التي تناصر الحركة الوطنية، فكان هذا هو السبب فيما نرى من حرارة مقالات النديم في تلك الأيام وما بعدها، ومناصرته للخديوي، ومنازلته للجرائد المخالفة في قوة ووضوح.
وهو - مع هذا - توسع في اقتراحات الإصلاحات الاجتماعية، فينقد علماء الأزهر في انزوائهم وعدم معرفتهم بالدنيا وما يجري فيها، ويضع برنامجا واسعا لإصلاح الأزهر، كما ينقد الزراعة في مصر وتأخرها، ووجوب إصلاحها على أساس علمي صحيح، وفوضى اللغة العربية، ووجوب إنشاء مجمع يحفظ كيانها ويكمل نقصها، والخرافات والأوهام، والطرق الصوفية وما يجري فيها من مخاز وعيوب.. إلخ.
ثم علت نغمته طبقة أخرى، فأخذ ينقد الإنجليز صراحة في سياستهم في الهند ومصر، ويسب من يلوذ بهم ويهيج الناس على المبشرين وطرق التبشير .
ويقول: إن السياسة تؤيدهم وتلعب ألاعيبها من ورائهم، فتألبت عليه الجرائد المخالفة له في مذهبه من إنجليزية وعربية وحذرت منه، وقالت إنه يعد البلاد لفتنة بين المسلمين وغيرهم، وبين المصريين بعضهم وبعض، ويحرك الضغائن بين المصريين والأجانب، ويهيئ لثورة كالثورة العرابية، ونصحت لأولي الأمر من الإنجليز أن يأخذوا حذرهم منه وإلا ساءت العاقبة، وشهرت به بعض الجرائد الإنجليزية كالتيمس، والديلي نيوز، وقالت إنه متعصب للدين، مقبع لجميع أعمال الأوربيين، وإنه ثوري مهيج، وأيدتها المقطم، ودافع عنه المؤيد والأهرام والوطن، وبعض الجرائد الفرنسية، ولم يأل هو جهد في منازلة خصومه والتشهير بهم، وإعلان عدم المبالاة بما يجري له، فقد لاقى العذاب ألوانا في أيام استخفائه، فكل ما سيناله هين بالقياس إلى ما لقي، وأعاد نشر قصيدة له في ذلك كان قد أنشأها في مخبئه، ومنها:
إذا ما الدهر صافانا مرضنا
فإن عدنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا
فإذا زاد البلا زدنا يقينا
إذا ما المجد نادانا أجبنا
فيظهر حين ينظرنا حينا
يغنينا فيلهينا التغني
عن الباكي وينسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رزئنا
نعم يلقي القضا قلبا رزينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا
ولكنا نهينا إن نهينا
وأخيرا طلب اللورد كرومر من الخديوي عباس نفيه فأطاع، ولم يستطع أن يحمي من كان يحميه، وودع «الأستاذ». قراءه في آخر عدد منه صدر في 13 يونيه سنة 1893. فكان عمره أقل من عام، ولم يذكر في وداعه السبب الحقيقي الذي من أجله أغلق «الأستاذ» ونفى صاحبه، بل قال إن سبب ذلك المرض وحاجته إلى الاشتفاء، وقال في آخر وداعه: وما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظم والجلال، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلا:
أودعكم والله يعلم أنني
أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلي كان الرحيل وإنما
دواع تعددت فالسلام عليكم
وكان ينشر ملحقا «للأستاذ» هو صفحات من كتاب ألفه وهو في المخبأ اسمه «كان ويكون» جمع فيه بعد، ولم يتم نشره، كان يريد من تدوينه عرض خلاصة أفكاره الدينية واللغوية والسياسية والأدبية والتاريخية والإنسانية، ملتزما فيه حرية الفكر، وعدم التعصب لدين أو جنس، ذاكرا فيه ما شاهده في مصر من أحداث، مبينا ما وراءها من علل.
ووضعه على نمط قصصي، إذ كان له صديق فرنسي أتى من باريس قبل الثورة العرابية، وتعلم العربية والتركية، وأقامه في مصر متتبعا حوادثها، وعرف عبد الله نديم في الإسكندرية سنة 1292 هجرية، وتوثقت بينهما الصلة، وكانت له ضيعة قريبة من البلدة التي اختبأ فيها «النديم» فاتصل به في مخبئه، وكان الفرنسي يزوره ويخدمه في قضاء أغراضه؛ وكثيرا ما يدور الحديث بينهما في الدين والسياسة فبنى كتابه «كان ويكون» على هذا، ودون فيه ما كان يدور بينهما من حديث وجدل، وأكثر ما نشر كان في أصول الأديان، وتاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام، يتخلل ذلك بعض أخبار عن أحواله في مخبئه، وبعض نظرات سياسية. ومما يؤسف له أن إقفال جريدة «الأستاذ» حال بينه وبين نشر القسم السياسي والتاريخ المصري من الكتاب، وما نشر منه يدل على نظر عميق واطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الخير لمصر والشرقيين.
6
خرج «النديم» إلى يافا؛ حيث كان قبل العفو عنه، ورتبت له الحكومة المصرية خمسة وعشرين جنيها شهريا يعيش بها، على شرط ألا يكتب شيئا في الجرائد يتصل بسياسة مصر.
وما لبث أربعة أشهر في يافا حتى وشى به الوشاة بأنه يطعن في سياسة الدولة العليا، ويلمز السلطان، فصدر الأمر بإبعاده أيضا.
فأخذ يذرع الأرض لا يعرف أن يستقر، فلا مصر تقبله، ولا أي أرض من أراضي الدولة العثمانية تحله، ونزل الإسكندرية أياما حتى تحل مشكلته.
وقد كان كثير من أحرار العثمانيين إذ ذاك قد سافروا إلى أوربا ومصر، وأنشأوا الجرائد يطالبون بالدستور وبإصلاح الدولة، وينقدون السلطان نقدا مرا. فكان من سياسة عبد الحميد في بعض الأوقات أن يسترضي هؤلاء الناقمين، ويحبب إليهم الإقامة في الآستانة تحت سمعه وبصره، ويجري عليهم الرزق الواسع، ويسند إليهم بعض المناصب، فيتقي آذاهم، ويستجلب رضاهم. فاحتشد في الآستانة من أرباب القلم واللسان عدد كبير، منهم السيد جمال الدين الأفغاني وغيره من أدباء الترك وشعرائهم وساستهم، فكان أن الغازي مختار باشا أشار على الدولة العليا أن تعامل عبد الله نديم هذه المعاملة فقبلت. وسافر إلى الآستانة، وصدرت الإرادة السلطانية بتعيينه مفتشا للمطبوعات بالباب العالي بمرتب 45 جنيها مجيديا، مضافة إلى الخمسة والعشرين التي يتقاضاها من مصر - ينفق كل ذلك على نفسه وإخوانه، ومن يبره من أهله وأ قاربه، ومن أيام. المنصورة عرف بأنه صناع القلم واللسان، وأخرق اليد.
22
دخل الآستانة، فدخل القفص الذي دخل في مثله جمال الدين الأفغاني، وغاية الأمر أن قفص جمال الدين ضيق من ذهب، وقفص النديم واسع من حديد، يختلفان بمقدار الخطر من كل منهما ومكانته وحسبه ونسبه، فالسيد جمال الدين يخصص له بيت فخم، ويجعل تحت أمره عربة وخدم وحشم، ويجرى عليه 75 ليرة في الشهر، وتعرض عليه مشيخة الإسلام فيأبى، وعبد الله نديم يعين مفتشا للمطبوعات بخمسة وأربعين ليرة، ولا بيت ولا خدم - ولا غرو فالسيد جمال الدين سيد في طبعه وحسبه ونسبه، كان يعد نفسه قريبا للشاه والسلطان، لا يقل عنهما إلا بما شاء القدر من تحليتهما بالملك وعطله منه، وعبد الله نديم يرى أنه من الشعب وابن الشعب وخادمه، لا يمتاز إلا بما منحه الله من ذكاء ولسن. إذا دعا السيد جمال الدين إلى الإصلاح شعر بأنه يخطب الناس من أعلى مكان يشرف عليهم، وهو غضوب وقور، وإذا دعا «النديم» شعر بأنه واقف في وسطهم يضحك لهم ويضحك منهم ويصلحهم. ولهذا كان جمال الدين جليلا يسمع لقوله في رهبة وخشية، وينصح الناس وكأنه يضربهم بالسياط، كأن النديم محبوبا يقابل بالابتسام، ويقبل قوله في فرح، ولذلك كان أسف الناس في مصر على فراق النديم أكثر من أسفهم على فراق جمال الدين، لأن سؤدد
23
جمال الدين في الخاصة وسؤدد النديم في العامة.
وعجيب أن يقبل «نديم» (وظيفة) مفتش للمطبوعات وهو الذي ينال الأذى دائما من إدارة المطبوعات، وأن يرضى أن يتحكم في الصحف، وهو الذي كان يأبى أن يتحكم فيه أحد، وأن يكون أداة لتقييد الحرية، بعد أن كان داعية لتأييد الحرية!! ولكن يخفف من هذا أن «الوظيفة» كانت صورية محضة، وكان الغرض منها أن يمنح المكافأة في مظهر غير وضيع.
ها هو ذا في الآستانة قد عطلت كل مواهبه، فلا خطابة ولا كتابة، ولا تهييج ولا تحميس، وهو في وسط يكاد يختنق منه، ولا يفرج عنه إلا مجلس السيد جمال الدين، يحادثه ويسامره، وكل يشكو إلى صاحبه قفصه.
ولكن أنى لصاحب هذا اللسان أن يهدأ؟
لقد وقع الخصومة مع أبي الهدي الصيادي كما وقع فيها معه السيد جمال الدين، ولكن السيد عف اللسان في الخصومة الشخصية، أما «النديم» فويل لمن عاداه.
كان أبو الهدي عجبا من العجب، إذا أرخت الدولة العثمانية في عهد عبد الحميد احتل كثيرا من صفحات تاريخها، وكان مستترا وراء الصفحات الباقية، يرن اسمه في كل أنحاء المملكة من مصر وسورية والعراق وتونس والجزائر، ويتقرب إليه الولاة في حل كل عظيمة - أثبت به القدر أنه على كل شيء قدير.
سوري من حلب، فقير المال والحسب، دفعته المقادير إلى الآستانة، وكان ماهرا ذكيا وسيم المحيا، ماضي العزيمة، قادرا على معرفة نفوس الناس ومن أن تؤتي، فتغلب على عقل السلطان عبد الحميد بأحلامه وتفسيراته، والطرق ومشيختها، فربط نسبه بأعلى نسب، فهو قرشي هاشمي علوي، وهو في الطريقة رفاعي له الأتباع الكثيرون، لا يعبأ بالمال يأتيه على كثرته فينفقه ويستدين، لأن عز الجاه والسلطة عنده أقوى من عز المال.
له أعين تأتي له بكل الأخبار، فيستغلها أمهر استغلال. لم يقف عند الدين والولاية والصوفية، بل مد نفوذه إلى الشئون السياسية والإدارية والعسكرية؛ يحلم فلا حد لحلمه، ويبطش فلا حد لبطشه سمي «مستشار الملك» و«حامي العثمانيين» و«سيد العرب»، استمال كثيرا من الأمراء والوجهاء والأعيان والعلماء والأدباء فكانوا عونا له على كل ما أراد؛ يبطش بهم حين يريد البطش، ويؤلف بهم الكتب حين يريد شهرة العلم، وينظم بهم القصائد حين يريد الأدب والشعر، إلى كرم وسماحة وحسن حديث.
الدنيا كلها يجب أن تسخر لشخصه، وأن تخضع لأمره، الحق ما أتى من طريقه، والباطل ما أتى من طريق غيره - عدو كل سلاح، وخصيم كل حر. كم له من ضحايا في السجون، وفي أعماق البحار، وفي ذل الفقر، وفي بؤس المنفى. تتملقه الأمراء، وتهابه العظماء.
وكم أنفذ أمره وأبطل أمر السلطان، وكم تدلل على عبد الحميد فاسترضاه، وبالغ في الطلب فأوفاه!!
24
هذا أبو الهدي الصيادي الذي لم يتحرز عبد الله نديم أن يخاصمه وينازله، ويطلق فيه لسانه، ووضع فيه كتابا سماه «المسامير»، لم ينشر في حياته، وهو كتاب لا يشرف الصيادي ولا عبد الله نديم، لأنه استعمل فيه أسلوبا وضيعا وهجاه فيه هجاء مقذعا.
وبلغ أبا الهدي أمر هذا الكتاب المخطوط، فأبلغ السلطان عبد الحميد أن فيه أيضا هجاء له؛ فبحث عنه طويلا من غير جدوى، استطاع «جورج كرتشي» الذي كانت متصلا بالسيد جمال الدين و«النديم» أن يحتفظ به ويخفيه ويفر به إلى مصر، ثم يطبعه.
لم تطل حياة «النديم» في الآستانة طويلا، فقد أصيب بالسل، واشتدت عليه العلة، فمات في العاشر من أكتوبر سنة 1896، واحتفل بجنازته احتفالا كبيرا مشى فيه السيد جمال الدين - الذي لحقه إلى ربه بعد أشهر - ودفن في مدفن يحيى أفندي في «باشكطاش».
وكانت أمه وأخوه قد علما بشدة مرضه، فسافرا إليه، ولكن لم يدركاه إلا ميتا، ووجدا متاعه وأثاثه وكل شيء له قد نهب، فعادا وليس في يدهما إلا الحزن والأسى.
مات في نحو الرابعة والخمسين من عمره، فلم يكن بالعمر الطويل، ولكنه عمر عريض فطالما غذى الناس بقلمه وهيجهم بأفكاره، وأضحكهم وأبكاهم، وحير رجال الشرطة. وأقلق بال رجال السياسة، ونازل خصومه من رجال الصحافة، فنال منهم أكثر مما نالوا منه، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حل، ولا على أي حال كان، حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر.
مهما أخذ عليه فقد كان عظيما!
فتح للناس في جريدتيه «التبكيت والتنكيت» و«الأستاذ» أبوابا من الإصلاح الاجتماعي كانت مغلقة، في التعليم والزراعة، واللغة والصناعة، والأخلاق وما إلى ذلك، فسار المصلحون على أثره.
وكانت الجرائد المشهورة في عهده «المقطم» و«الأهرامات» و«المؤيد» و«النيل»، وكان لها ثلاث اتجاهات: منها ما يسالم الاحتلال ويؤيده، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية ويؤيد من ورائها السياسة الفرنسية، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية والنزعة الإسلامية والارتباط بالدولة العثمانية، وكل منها يعرض وجهة نظره في شيء من الهدوء والرزانة والوقار. فلما طلع «الأستاذ» دعا إلى أن مصر للمصريين، لا لتركيا ولا للأوربيين، وناصر الحركة الوطنية والالتفاف حول الخديوي أمير البلاد، ودعا الذين غلبهم الخوف بعد الاحتلال أن يبرزوا من مكامنهم، ويمسحوا الخوف عنهم، ويتصلوا بالجمهور ليوقظوه، ودعا إلى تأليف الأحزاب حتى يكون كل جريدة حزبها، ولكل حزب برنامجه؛ ولم يسلك سبيل الهدوء كما سلكه معاصروه، بل كان حادا عنيفا، والحدة منه استتبعت الحدة من الجرائد الأخرى، والغضب يبعث الغضب، والصوت العالي يبعث في الرد عليه الصوت العالي، فتميزت الجرائد بعضها عن بعض في وضوح وجلاء.
وكانت هذه الحدة وهذا الجدل المتتابع في المسائل العامة أكبر موقظ للرأي العام النائم، يفهمه موقفه وما يضره وما ينفعه، وأي غاية يريد منه هؤلاء وهؤلاء، ومواطن ضعفه، وكيف السبيل إلى قوته، وللنديم الفضل الكبير في ذلك.
وكانت جريدة «الأستاذ» هي الأستاذ لمصطفى كامل، تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف.
نعم كان في «النديم» شيء من التهريج كالذي رأيناه. وكان من تهريجه أنه كان في أول مرة يرتدي الثياب الإفرنجية، فلما ظهر بعد الاستخفاء لبس الجبة والقفطان، واعتم بعمامة خضراء، وادعى أنه شريف إدريسي ينتسب إلى الحسن بن علي، وكثير من الواقفين على الحقيقة ينكر ذلك، وربما دعاه إلى هذا شعوره بمركب النقص، من حيث نشأته الفقيرة المتواضعة، وما مرن عليه من التصنع أيام الاستخفاء، وحالة الوسط الذي عاش فيه من أنه لا يمجد إلا ذا الثراء أو ذا الحسب - ومع هذا فالعظيم يقدر بكله لا ببعضه.
كانت عظمته في ذكائه وقوة لسنه. وقال فيه المرحوم أحمد باشا تيمور: «كان شهي الحديث، حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقامته بمصر فرأيت رجلا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا».
كان السيد جمال الدين يعجب بقوة حجة النديم في؛ المناظرة والجدل، وسرعة بديهته، وشدة عارضته،
25
ووضوح دليله، ووضعه الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانيها إن خطب أو كتب.
ثم هو شجاع لا يخاف، يلذه مواجهة العظماء ومنازلة الكبراء في غير خوف ولا وجل، إلى تواضع مع العامة ومضحكاتهم ومؤانسته وملاطفتهم، لا يعبأ بالقول ولا يخاف البطش، فإذا نزل أحد وسلط عليه لسانه كانت الكارثة، نازل الخديوي توفيق والاحتلال، وأبا الهدي الصيادي، ولكل جاهه وسلطانه الذي أذل أعناق الكثيرين، كل ذلك وهو فقير يعيش من يده إلى فمه، ما أتاه أتلفه، وما وصل إلى يده بدده، معتمدا على ربه الذي يرزقه كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
ضعيف الجسم كثير العلل، وربما كان ذلك هو السبب في موت أولاده جميعا في طفولتهم، فقد رزق قبل الاستخفاء بمحمد، وعثمان، وإلياس، وفاطمة، وعائشة، وسكينة، وخديجة. كما رزق أيام الاستخفاء بحفصة وريا. وكلهم لم يعش طويلا. ومع هذا فهو - على مرضه - دائب العمل دائم الحركة، لا يعتريه كلل ولا ملل؛ يود أن يخلد اسمه بالعمل، بعد أن حرم تخليد اسمه بالمولد.
أعد نفسه إعدادا عظيما بكثرة الخبرة وسعة التجربة، فكان كما حدث عن نفسه: «أخذت عن العلماء، وجالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحين والمهن الصغيرة. وأدركت ما هم فيه من جهالة، ومم يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرا من متفرنجة الشرقيين، وألممت بما انطبع في صدورهم من أشعة الغربيين. وصاحبت جما من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب، وعرفت كثيرا من الغربيين، ورأيت أفكارهم - عالية أو سافلة - فيما يختص بالشرقيين، والغاية المقصودة لهم، واختلطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة. وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسا ووطنا ودينا، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها، والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بمطالعة الجرائد مدة، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنا، واتجرت برهة، وفلحت
26
حينا، وخدمت الأفكار بالتدريس وقتا، وبالخطابة والجرائد آونة - واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا المقصد الذي وصلت إليه بعناء كسائي نحول الشيخوخة في زمن بضاضة الصبا، وتوجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء. فصورتي تريك هيئة أبناء السبعين، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام إلا تسعة وثلاثين».
وربما كان أعظم شيء فيه ثباته على مبدئه؛ باع نفسه لأمته حسبما يعتقد الخير لها، ولم يتحول عن ذلك على كثرة من تحول في مثل مواقفه. هؤلاء زعماء الثورة العرابية حاولوا أول أمرهم ينكروا ما فعلوا، فلما لم ينفعهم إنكارهم وعوقبوا عادوا وخضعوا، وعاشوا في مسألة ومهاودة. أما هو فلم ينكر ما قال. ولقي في مخبئه الأهوال. وكان جديرا بمن لقي ذلك كله أن يهدأ، وإذا هدأ فلا لوم عليه. ولكنه ظل يجاهد، وينفي فيجاهد، ويعفي عنه فيجاهد. ويحذر فلا يحذر، ويطمع فلا يطمع، حتى لقى مولاه رحمه الله.
السيد عبد الرحمن الكواكبي (1265-1320ه، 1848-1902م)
1
من بيت في «حلب» يعتز بنسبه وحسبه وعلمه وجاهه وماله، فأسرة الكواكبي كانت فيها نقابة الأشراف في حلب، ولها مدرسة تسمى المدرسة الكواكبية، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها.
تعاون على تربية بيته وما في تقاليده من عزة وإباء وشمم وأنفة من الصغائر وخالة له تعهدته بعد وفاة والدته وهو صغير. وكانت من نوادر النساء في الشرق، عرفت بالأدب والكياسة وكبر العقل. فطرته التي فطر عليها ميل إلى الحق، وحب الخير والاستجابة للتربية الصالحة.
كل هذا جعل منه رجلا يستعصي على ناقد الأخلاق نقده، مؤدب اللسان فلا تؤخذ عليه هفوة، يزن الكلمة قبل أن ينطق بها وزنا دقيقا، حتى لو ألقى عليه السلام لفكر في الإجابة، متزن في حديثه، إذا قاطعه أحد سكت وانتظر حتى يتم حديثه، ثم يصل ما انقطع من كلامه، فيؤدب بذلك محدثه، نزيه النفس لا يخدعها مطمع ولا يغريها منصب، شجاع فيما يقول ويفعل، مهما جرت عليه شجاعته من سجن وضياع مال وتشريد، وهو - مع أنفته وعزته وصلفه
1
على الكبراء - متواضع للبائسين والفقراء، يقف دائما بجانب الضعفاء، يشع على من يجالسه الاتزان والتفكير الهادي، وحب الحق ونصرة المبدأ، والتضحية للفضيلة.
تعلم كما كان يتعلم ناشئة زمانه الدينيون، لغة عربية ودين في مدرسة أسرته بحلب - «المدرسة الكواكبية» - وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يقرأ من كتب، وما يتبع من منهج، ولكنه أكمل نفسه بقراءته بعض العلوم الرياضية والطبيعية، وأحضر له والده من الفارسية والتركية، وطالع بنفسه كثيرا من الكتب التاريخية، وعنى بدراسة قوانين الدولة العثمانية.
فلما أتم دراسته انغمس في الحياة العملية، وتنوعت أعماله، وتباينت اتجاهاته، فمن محرر لجريدة رسمية، إلى رئيس كتاب المحكمة الشرعية، على قاض شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية. ثم هو بين الحين والحين يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ لنفسه جريدة في «حلب» اسمها الشهباء، أو يشتغل بالأعمال التجارية، أو يقوم بمشروعات عمرانية، ومن كل ذلك يستفيد خبرة وتجربة بالحياة. وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام، وفساد رجال الإدارة، فينازلهم وينازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينا، وينتصرون عليه حينا، وسلاحه دائما النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائما الدسائس واتهامه بخروجه على النظام، ودعوته للشغب، وما شاكل ذلك مما هو عادة الظالمين، وكانت البلاد التي يعيش فيها موبوءة بحكم «عبد الحميد» لا يستطيع أن يعيش فيها حر صريح، ولا ينجح فيها تاجر نزيه، ولا موظف جريء مستقيم، وهذا النوع من الحكم عدو كل كفاية، وقاتل كل نبوغ!
ارتفع شأنه في بلده، فكان يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، والمشاكل لحلها، ورجال الحكومة أنفسهم يستشيرونه فيما غمض عليهم، وهو في كل ذلك جريء فيما يقول، لا يقر ظالما على ظلمه، ولا يسالم جائرا لمنصبه أو جاهه. من أجل هذا غاضب «عارف باشا» والي «حلب» وأخذ يعدد سيئاته وينقم عليه تصرفاته، ويحرض الناس على رفع صوتهم معه بالشكوى منه لرؤسائه في الآستانة، فانتقم «عارف باشا» لنفسه، فزور على «الكواكبي» أوراقا واتهمه بأنه يسعى لتسليم «حلب» لدولة أجنبية، وحبسه وطلب محاكمته، فبذل الكواكبي ورجاله جهدا كبيرا ليحاكم في ولاية غير ولاية «حلب»، وحوكم في بيروت، فحكم ببراءته، وظهرت خيانة الوالي ومكايده فعزل.
وكان من أعداء «الكواكبي» أيضا «أبو الهدى الصيادي» الذي سبق وصفه في ترجمة «عبد الله نديم» لأن «الكواكبي» أبى الاعتراف بصحة نسبه. ولاعتداء «أبي الهدى» على بيتهم بأخذ نقابة الأشراف لنفسه منهم، فكان «أبو الهدى» أيضا يدس له، ويغري ولاة الأمر به.
فكان من نتيجة محاكمته على التهمة التي اتهمه بها «عارف باشا»، ومن معاكسة «أبي الهدى» وأعوانه له حتى في تجاربه، إن خسر ألوف الجنيهات من ماله، فاحتمل ذلك بنفس قوية لا تجزع ولا تتحول.
وأنصع صفحة في تاريخ حياته قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمس العلاج لهم؛ فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتاب المحدثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، ودرس أحوال المسلمين في المملكة العثمانية. ثم رحلته إلى كثير من بلاد المسلمين، فساح في سواحل إفريقيا الشرقية، وسواحل آسيا الغربية؛ ودخل بلاد العرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل بالهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية، وحالتها الزراعية، ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة؛ ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته. ولكنه عاجلته منيته.
نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين: اسم أحدهما «طبائع الاستبداد»، والآخر «أم القرى»: الأول في نقد الحكومات الإسلامية، والثاني أغلبه في نقد الشعوب الإسلامية.
لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» من الموضوعات المحرمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتفهم الشعوب حقوقهم وواجباتهم ، وتقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئتهم للمطالبة بالحقوق إذا سلبت، والقيام بالواجبات إذا أهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد، لذلك رأينا الشرق من بعد ابن خلدون أغلق هذا الباب، ولم يفتحه أي باحث بعده، وصار كتاب ابن خلدون مقدمة بلا نتيجة. والعلوم التي حوفظ عليها واستمرت دراستها هي علم النحو والصرف واللغة والفقه، لأنها لا تمس الحاكم من قريب ولا بعيد، ولا تفهم الناس أين هم من حاكمهم وأين حاكمهم منهم. والأدب مداح للملوك والحكام، يجعل ظلمهم عدلا وفسادهم صلاحا، فإذا أعطاهم الحاكم قليلا مما سلبه من أمتهم هللوا وكبروا، وعجبوا من كرمه الحاتمي، وسخائه الذي لا نظير له. والمؤرخون لا يؤرخون إلا شخصه في حياته وأعماله وحروبه وزوجاته وأولاده، أما الشعب فلا شيء إلا أن يكون مزرعة للحكام. وأحب علم إلى الحكام المستبدين وادعاهم لنصرته هو ما لا يتصل بالحكم ونظامه، ورجال الدين المقربون هم الذين يدعون إلى التسليم بالقضاء والقدر، ويستطيعون أن يولدوا المعاني من مثل «السلطان ظل الله في أرضه». أما علم الاجتماع وعلم السياسة والاقتصاد فلم يعرفه الشرق بعد ابن خلدون بتاتا.
كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدأوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثا واسعا، يتعرفون علل الجماعات وأمراضها وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبثون بالتضحيات في سبيل الحريات، ويبني لاحقهم على ما وصل إليه سابقهم.
وبلغ الضيق في الشرق منتهاه في عهد السلطان عبد الحميد، ولكن شدة الضغط تولد الانفجار، والقسوة تفتق الحيلة. وتوالي الاضطهاد يولد البغضاء، فكثرت في هذا العهد الجمعيات السرية تعمل لتحرير البلاد العثمانية من الظلم، وتعمل لوضع نظام ديمقراطي لا يكون فيه السلطان الحاكم بأمره، وفر كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظم الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات، وترجم إلى العربية «أصول النواميس والشرائع» لمنتسكيو. وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق من طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا.
في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغة أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية، فاستفاد مما نقل إليها، ومما كان يترجم له في هذا الباب خاصة. وقد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه «طبائع الاستبداد». أما كتابه «أم القرى» فبحث مبتكر يدل على كبر عقله، وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي.
أما كتاب «طبائع الاستبداد»، فقد نشر - أولا - مقالات في بعض الصحف عندما كان في مصر سنة 1318ه، ثم جمعها في كتاب وقال في أوله: «إني نشرت في بعض أبحاثا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منها ما درسته، ومنها ما اقتبسته، غير قاصد بها ظالما بعينه، ولا حكومة مخصصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار، ولا على الأقدار، ثم أضفت إليها بعض زيادات، وحولتها إلى هيئة هذا الكتاب».
وقد اقتبس فيه كثير من أقوال «الفيري» ولا أعرف كيف وصلت إليه وألفيري، كاتب إيطالي عاش من سنة 1749-1803، من بيت نبيل وقد ساح في أوربا نحو سبع سنوات، ودرس كتب فولتير وروسو ومنتسكيرو، وتشبع بآرائهم الحرة وتعشق الحرية وكره الاستبداد أشد الكره، ووجه أدبه للتغني بالحرية ومناهضة الاستبداد، ينطق بذلك أبطال رواياته، ويبثه في كتاباته. ولكن الكواكبي هضمها وعدلها بما يناسب البيئة الشرقية والعقلية الإسلامية، وزاد عليها من تجاربه وآرائه.
2
وكتاب «طبائع الاستبداد» يدور حول تعريف الاستبداد بأنه «صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب». ويأتي هذا من كون الحكومة مطلقة التصرف، ولا يقيدها قانون ولا إرادة أمة أو أنها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال هذه القيود والسير على ما تهوى؛ والحكومة ميالة بطبعها إلى الاستبداد، لا يصدها عنه إلا وضعها تحت المراقبة الشديدة ومحاسبتها محاسبة لا تسامح فيها، وإلا قوة الرأي العام وعظمة سلطانه.
والمستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به.
والمستبد عدو الحق، وعدو الحرية وقاتلها.
والمستبد يود أن تكون رعيته بقرا تحلب، وكلابا تتذلل وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه: هل خلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم المستبد، تقول له أريد الشر، ثم هي مستعدة لأن تتبع القول بالعمل، فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويا لم يجرؤ ظلمه.
وقد بحث بحثا مستفيضا في علاقة الاستبداد بالدين، ونقل عن الإفرنج رأيهم في أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد في الدين أو مساير له. فكثير من الأديان تبث في نفوس الناس الخشية من قوة عظيمة لا تدرك كنهها العقول، وتهددهم بالعذاب بعد الممات تهديدا ترتعد منه الفرائص،
2
ثم تفتح بابا للخلاص والنجاة بالالتجاء إلى الأحبار والقسس والمشايخ، بالذلة لهم، والاعتراف أمامهم، وطلب الغفران منهم. والمستبدون السياسيون يتبعون هذه الطريقة فيسترهبون الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى لا يجدوا ملجأ إلا التزلف لهم وتملقهم! وعوام الناس يختلط عليهم في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحكم، فيتشابه عندهم استحقاق التعظيم، وينزهونهم عن سؤالهم عما يفعلون ولا يرون لهم حقا في مراقبتهم على أعمالهم، كما أنه ليس لهم حق في مراقبة الله فيما يفعل!! ولهذا خلعوا على المستبد صفات الله كولي النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر، وما إلى ذلك! وما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك فيها الله أو تربطه برباط مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله!!
ولقد رأى «الكواكبي» أن الإسلام في جوهره الأصيل لا ينطبق عليه هذا القول، فهو مبني على قواعد الحرية السياسية متوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو مؤسس على أصول ديمقراطية (أي المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطية، أي شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد، فالقرآن مملوء بتعاليم تقضي بأمانة الاستبداد، والتمسك بالعدل، والخضوع لنظام الشورى، من مثل: «وشاورهم في الأمر، وأمرهم شورى بينهم» حتى في القصص، من مثل: «ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون». ومظهر هذا كان في أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين. ثم لا يعرف الإسلام سلطة دينية، ولا اعترافا، ولا بيع غفران، ولا منزلة خاصة لرجال الدين. ولكن دخل عليه من الفساد ما دخل على كل دين، فتفرقت كلمة المسلمين وانقسموا شيعا، وتحول الحكم من نظام شورى إلى الاستبداد، فصغرت نفوس الناس وخفت صوتهم، وأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي به يراقب أولو الأمر في الأمة، فصار أمر المسلمين إلى ما نرى.
ولم يتعرض «المؤلف» للرد على الشطر الأول، وهو ما يوحيه تصوير الله بالقوة والعظمة والسيطرة من خضوع النفوس للمستبد. وعندي أن الإسلام يجعل «لا إله إلا الله» محور الدين، تتكرر في كل آذان وفي كل مناسبة، كان كفيلا أن يذكر النفوس دائما بأن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تذل لأحد سواه، وأن هذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة أمام من سواه. ولكن بتوالي القرون؛ ودخول الدخيل من العقائد، أصبحت «لا إله إلا الله» عند أكثر المسلمين كلمة جوفاء لا روح فيها، تبعث الضعف ولا تبعث القوة، وتبيح أن يشرك مع الله الحاكم المستبد والرئيس المستبد، بل المال والجاه والمنصب، فكل هذه وأمثالها أصبحت آلهة مع الله، وفقد المدلول الحق للا إله إلا الله!!
ثم أبان أن الحاكم المستبد يخشى العلم، لأن العلم نور، وهو يريد أن تعيش الرعية في الظلام، لأن الجهل يمكنه من بسط سلطانه، (وروي أن حاكما مستبدا شرقيا كان له مرب سويسري فقال له يوما بعد أن تأمر:
3 «ليتك تعني بتربية الشعب وتعليمه!» فقال الأ مير: «كلا! إني إن علمته صعب علي حكمه»!).
والحاكم المستبد لا يخشى علوم اللغة والأدب، ولا علوم الدين المتعلقة بالمعاد،
4
بل هو يستخدم العلماء من هذا القبيل لتأييده في استبداده، بسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدته، إنما ترتعد فرائصه من الفلسفة العقلية، ودراسة حقوق الأمم، وعلوم السياسة والاجتماع، والتاريخ المفصل، والقدرة على الخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا وتثير النفوس على الظالم، وتعرف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه، وكيف يطلبها، وكيف ينالها، وكيف يحفظها، فإن المستبد سارق، والعلماء من هذا القبيل يكشفون السرقة.
ولذلك يكون الحاكم المستبد وهؤلاء العلماء في صراع دائم، العلماء يحاولون الإنارة، والمستبد يحاول إطفاءها، وكلاهما يحاول كسب عامة الشعب، فالمستبد يخفيهم ليستسلموا، وهؤلاء العلماء ينيرونهم ليقولوا ويفعلوا.
والحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم: يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم ويضرب بعضهم ببعض فيصفونه بحسن السياسة والكياسة، ويسرف في أموالهم فيقولون إنه كريم، ويقتلهم ولا يمثل بهم فيقولون إنه رحيم، وإن نقم عليه بعض الأباة،
5
قاتلهم بهم كأنهم بغاة!!.
6
والحاكم المستبد يخاف رعيته كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد، لأنه يخافهم عن علم، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على أصالة الاستبداد في الأمة بترف الحكام. وإمعانهم في البذخ، وكثرة الحجاب. ومن دلائل تغلل الاستبداد في الأمة استكناه لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد. وإن قلت - كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلت على الحرية.
وعلى الجملة فأخوف ما يخاف المستبد من العلم، العلم الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وقيمتها والعبودية وضررها.
وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتائج القرائح التي كتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه.
ثم عرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترام في قلوب الناس، وهو مطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون: أيهما أقوى، الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» من قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة، ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة عندما نقد ابن خلدون الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال إنهم يعرضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعدد والعدد، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. فقال الكواكبي: إنهم معذورون، لأنهم يفضلون الموت كراما على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسر، وتحاول الانتحار تخلصا من قيود الذل. وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت، إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة. فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة.
والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذل المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع برغم عوائق السلطات. و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد ويقابل المجد التمجد، أي المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمة عامة للأمة أو عمل عظيم يوافق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل، أنصار للظلم، ينتخبهم المستبد الأعظم ليقوي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على المعرقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد، ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، ومن المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشارع؛ ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته، لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد؛ والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك من تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجد ولا تمجد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!!
وهذا حق، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعا من السيادة الكاذبة وتجعل أولي الأمر سلسلة تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كل يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تشعر كل شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبا في حكم بلاده، وصوتا مسموعا فيما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك وأن حكومته ليست قائمة إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يوما بجورها أسقطوها، سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان.
ثم عرض للاستبداد والمال، ويعني بذلك الحكومة الاستبدادية وأثرها في الثروة أو الحالة الاقتصادية في البلاد. وهو في هذا الموضوع يرى الخير في نوع معتدل من الاشتراكية، نعم لا ينبغي أن يتساوى العالم الذي أنفق زهرة حياته في تحصيل العلم النافع، أو الصانع الماهر في صنعة مفيدة، وذلك الجاهل الخامل النائم في ظل الحائط، ولكن العدالة تقضي أن يأخذ الراقي بيد السافل والغني بيد الفقير، فيقربه من منزلته، ويقاربه في معيشته؛ وقد مال الإسلام إلى هذا النوع، ففرض الزكاة (2,5٪) من رءوس الأموال تعطي للفقراء وذي الحاجة، وحرم الربا، لأنه وإن أجازه الاقتصاديون لأسباب معقولة اقتصاديا (للقيام بالأعمال الكبيرة، ولأن الأموال المتداولة في السوق لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها، ولأن كثيرا من القادرين على العمل لا يجدون رءوس المال) فإن الدين ورجال الأخلاق ينظرون إليه من حيث ضرره الأخلاقي، لأنه متى انتشر قسم الناس إلى عبيد وسادة، وكان سببا في ضياع استقلال الأمم الضعيفة.
والحكومة الاستبدادية سبب في اختلال نظام الثروة فهي تجعل رجال السياسة والدين ومن يلحق بهم يتمتعون بحظ عظيم من مال الدولة، مع أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، وهي تخصص المال الكثير لترف المستبد وسرفه، وتغدق على صنائعها،
7
ومن يستخدم لتحصيل شهواتها، ومن يعنيها على طغيانها، وسائر أفراد الشعب في شقاء وبؤس؟
ثم الحكومات المستبدة تيسر للسفلة طرق الغنى بالسرقة والتعدي على الحقوق العامة ويكفي أحدهم أن يتصل بباب أحد المستبدين ويتقرب من أعتابه، ويتوسل إلى ذلك بالتملق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والتجسس، ليسهل له الحصول على الثروة الطائلة من دم الشعب.
3
عرض «الكواكبي» بعد ذلك لأثر الاستبداد في فساد الأخلاق، فالاستبداد يتصرف في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الفاضلة فيضعفها أو يفسدها. فهو يفقد الإنسان عاطفة الحب، فهو لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه، وهو ضعيف الحب لأسرته لأنه ليس سعيدا فيها، وهو لا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي عليه يوم يكون فيه عونا على الاستبداد ومصدر شر له.
الإنسان في ظل الاستبداد لا ينعم بلذة العزة والشمم والرجولة، فلا يذوق إلا اللذة البهيمية لأنه لا يعرف غيرها.
والاستبداد يلعب بالأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل: فيسمي النصح فضولا، والشهامة تجبرا، والحمية طيشا، والإنسانية حمقا، والرحمة مرضا، كما يسمي النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفا، والنذالة دماثة وظرفا.
والاستبداد أفسد عقول المؤرخين، فسموا الجبابرة الفاتحين عظماء أجلاء، مع أنه لم يصدر عنهم إلا الإسراف في القتل والتخريب، ثم أشادوا بذكر السلف تملقا للخلف.
والاستبداد يفقد الثبات في الخلق، فقد يكون الرجل شجاعا كريما، فيصبح بعوامل الاستبداد جبانا بخيلا، ولا أخلاق ما لم تكن ثابتة مطردة!
وأقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ويعين الأشرار على فجورهم، آمنين حتى من الانتقاد والفضيحة، لأن أكثر أعمالهم تظل مستورة، لا يجرؤ الناس على قول الحق أمامهم خوف العقبى.
وأقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ وما إلى ذلك، وهو عهد الاستبداد غير مقدور لغير ذوي المتعة، وقليل ما هم، ويصبح الوعظ والإرشاد ملقا ورياء.
في الحكومات التي نجت من الاستبداد أطلقت حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، ورئي أن الفوضى في ذلك خير من تحديد الحرية، لأنه متى وضعت القيود نفذ منها الحكام، وتوسعوا فيها حتى خلقوا منها سلسلة من حديد يخنقون بها الحرية.
والاستبداد يفقد الناس ثقة بعضهم ببعض، ويحل الخوف محل الثقة، فيقل التعاون بين الأفراد، والتعاون حياة الأمم.
والأنبياء سلكوا في تكوين الأخلاق مسلكا خاصا، فبدءوا بفك العقول من تعظيم غير الله، وذلك بتقوية الإيمان المفطور عليه الإنسان، ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته في أفكاره، وبذلك هدموا حصون الاستبداد. ثم أبانوا أنه مكلف بقانون الإنسانية، واتباع المبادئ التي ترقيه وترقي جنسه - وكذلك فعل السياسيون الأقدمون من الحكماء.
أما الغربيون المحدثون فوضعوا الأخلاق غير مرتكزة على الدين، ولكن على ما أودع فطرة الإنسان من ضمير وحب نظام، وساعدهم على ذلك انتشار العلم عندهم والرغبة في التقدم، واستعانوا على ذلك بالوطنية.
ثم عرض للاستبداد والتربية - والتربية تنمية الاستعداد جسما ونفسا وعقلا وهي قادرة أن تبلغ بالإنسان أعلى حد من الرقي لو صلحت.
والحكومة العادلة تعني بتربية الأمة من وقت تكون الجنين، بل قبله، بسن قوانين للزواج الصالح، ثم بالعناية بالقابلات والأطباء، ثم بفتح بيوت اللقطاء ثم بإنشاء المكاتب والمدارس وتنظيم خططها متدرجة إلى أعلى مرتبة؛ ثم تسهيل الاجتماعات، والإشراف على المسارح، ثم تشجيع النوادي وإنشاء المكتبات، وإعلان شأن النوابغ بإقامة النصب ونحوها، ثم بتنمية المشاعر القوية بشتى أنواعها وتيسير الأعمال وغير ذلك.
أما الحياة في الحكومات المستبدة فمجرد نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والحرجات،
8
يسطو عليها الغرض والحرق، وتحطمها العواطف والأيدي والقواصف.
في الحكومة العادلة يعيش الإنسان حرا نشيطا يسره النجاح ولا تقبضه الخيبة، وفي الحكومة المستبدة يعيش خاملا خامدا، ضائع القصد حائرا.
الأسير المعذب يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وقد جنى على المسلمين علماؤهم، فأفهموهم أن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وإذا أحب الله عبدا ابتلاه، وهكذا مما ابتدعوه. ويتغافلون عن حديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» وحديث معناه: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها»! وكل هذه المثبطات تحول الأذهان من معرفة أسباب الشقاء إلى إلقائها على عاتق القضاء والقدر. وقد أحكموا هذه المكيدة باختراع الأحاديث التي تجعل الخضوع للحاكم المستبد دينا.
وعلى الجملة فالتربية الصحيحة لا تمكن من ظل الاستبداد!
ثم الاستبداد - على الإجمال - يمنع الترقي؛ والترقي الحيوي الذي يسعى إليه الإنسان هو - أولا - الترقي في الجسم صحة وتلذذا، ثم الترقي في الاجتماع بالعائلة والعشيرة، ثم الترقي في القوة بالعلم والمال، ثم الترقي في الملكات بالخصال والمفاخر. وهناك نوع آخر من الترقي الروحي، وهو الاعتقاد بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى يترقى إليها سلم الرحمة والإحسان - والاستبداد بالأمة عدو ذلك كله، بل هو تحول الميل الطبيعي فيها إلى طلب التعقل، حتى لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور! وعندئذ يكون الاستبداد كالعلق يمتص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها، والاستبداد يجعل الأمة منحطة في الإحساس، منحطة في الإدراك، منحطة في الأخلاق، وهو يضغط عليها فتكون كدود تحت صخرة، والمشفقون عليها يجب أن يسعوا في رفع الصخرة ولو حتى بالأظافر ذرة بعد ذرة!!
وهنا ضرب مثلا يصح أن يخطب به الخطباء في الناس ليستيقظوا، فوضع خطبة نموذجية لتنبيه المشاعر. ثم قال: إن الرقي الذي ينشده في ظل العدل هو أن يكون الشخص أمينا على جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن المحافظة عليه، أمينا على ملذاته الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة بإيجاد أسبابها، أمينا على حريته فلا يعتدي عليها ، أمينا على نفوذه كأنه سلطان عزيز لا يمانع في تنفيذ مقاصده النافعة، أمينا على ماله وشرفه؛ وما منحته الطبيعة من مزايا، فما لم تتحقق هذه فالحكومة مستبدة ليست بيئة لترقي شعبها.
وأخيرا ما وسائل التخلص من الاستبداد؟ يرى هو أن الاستبداد لا يقاوم بالقوة، إنما يقاوم باللين وبالتدريج، ببث الشعور بالظلم، وهذا يكون بالتعليم والتحميس، ذلك لأن الاستبداد محفوف بأنواع القوات: كقوة الجند، وقوة المال، وقوة رجال الدين، وقوة الأغنياء، فإذا قوبل بالقوة كانت فتنة تحصد الناس، وإنما الواجب المقاومة بالحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة. والاستبداد مع اعتماده على هذه القوات كلها يضعف أمام الوسائل المحكمة في قلبه، كما قيل: كم من جبار عنيد جدله
9
ملوم صغير!!
ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يحل محله؛ ومعرفة الغاية معرفة دقيقة واضحة؛ ومتى وضحت الغاية المرسومة يجب السعي في إقناع الناس بها واستجلاب رضاهم عنها وحملهم على النداء بها، ويجب أن ينشر ذلك في كل الطبقات حتى يصبح عقيدة، فيتلهفوا جميعا على نيل الحرية وتحقيق المثل الذي ينشدونه: عندئذ لا يسع المستبد إلا الإجابة طوعا أو كرها.
وقد حدد في ثنايا كتابه، ماذا يقصد بالحكومة المستبدة، فقال: إنها تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق، كما تشمل حكومة الجميع لو منتخبا إذا استبد، بل قد يكون هذا الحكم أضر من استبداد الفرد. ويدخل في أنواع الاستبداد أنواع الاستعمار، فالمستعمر تاجر لا يرى إلا مصلحته؛ ولا عبرة بأسماء أنواع الحكومات إنما العبرة بحقيقتها، وكل أمة فيها لون من ألوان الاستبداد، ولكنها تختلف فيه كمية وكيفية، فبعضها يمسه الاستبداد مسا خفيفا، وبعضها تغرق فيه من قدمها إلى مفرق رأسها. والغرب سبق إلى تقدير معنى الحرية والعدالة؛ ولكنه لا يأخذ بيد الشرق؛ بل يستغله لمصلحته، وواجب الغرب أن يرعى للشرق سابق فضله، فيأخذ بيده ليخرجه إلى أرض الحياة، ويعامله معاملة الأخ لأخيه، لا السيد لعبده ليتعاونا بعد على السير بالإنسانية.
وبهذا ينتهي الكتاب؛ وهو فيه قوي مخلص مملوء غيرة وأسفا وتلهفا على رفع نير الاستبداد عن الشرق؛ وهو أن استمد الفكرة من العرب؛ فهو يبسطها ويعدلها ويعني بتطبيقها، وقد يؤخذ عليه عصر نفسه في دائرة النظريات. وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد وما رأى وسمع من أحداث وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدة وأعم نفعا، ولكن يظهر أن قد منعه من ذلك أنه أراد أن يستتر فأخفى اسمه ولم يضعه على الكتاب؛ وقال في مقدمة الكتاب: إنه لم يقصد ظالما بعينه ولا حكومة مخصوصة، ولو أتى بالشواهد لدل على الحكومة التي قصدها، ودل بذلك على نفسه، وما كان في ذلك من ضرر، بل كان فيه كل النفع؛ ولكن الأمور تقدر بأوقاتها وظروفها، وهو فيما اكتنفه من ظروف كان في عرضه النظريات فقط شجاعا جريئا.
4
أما كتابه الثاني «أم القرى» فأدل على الابتكار وأوضح في إظهار الشخصية، يقف فيه من المسلمين موقف الطبيب من المريض، يفحص داءه ويتعرف أسبابه، ويصف علاجه في أسلوب قصصي جذاب، تحدث فيه عن جمعية من المسلمين عقدت في مكة حضرها ممثل أو أكثر لكل قطر إسلامي، فعضو شامي، وعضو سكندري، ومصري ومقدسي ويمني وبصري ونجدي ومدني ومكي وتونسي وفاسي وإنجليزي ورومي وكردي وتبريزي وتتري وقازاني وتركي وأفغاني وهندي وسندي وصيني، وأسندت رياسة الجمعية للعضو المكي، والسكرتارية للسيد الفراتي - وعني به الكواكبي نفسه - واجتمعوا كلهم قبيل الحج في مكان متطرف في مكة يتداولون في حال المسلمين؛ وكان أول اجتماع لهم في 15 ذي القعدة سنة 1316ه.
فهل كانت هذه الجمعية حقيقة أو هي من نسيج خياله؟ يقول هو: إن لها أصلا من الحقيقة، وإن الخيال تممها، فهل هذا صحيح، أو هو من قبيل تأييد الخيال كما يفعل كثير من الروائيين؟ أرجح الرأي الثاني.
على كل حال انعقدت الجمعية - فيما يقول - ووضع الرئيس منهج البحث، وهو الكتمان، لأنه أدعى إلى إفضاء كل ما في نفسه في صراحة، وتناسى الاختلاف في المذاهب، فلا سني وشيعي، ولا شافعي وحنفي، فالكل مسلم. ثم التحرر من اليأس في الإصلاح ، فهذه أمم كثيرة كالرومان واليونان واليابان، استرجعت مجدها بعد تمام ضعفها، خصوصا وأن الظواهر كلها تدل على أن الزمان قد استدار، وبدأت تظهر أعراض الصحة على المسلمين، ومن أعظم الظواهر انعقاد مثل هذه الجمعية ووضع برنامج المؤتمر، يتلخص في بحث موضع الداء في المسلمين وأعراضه وجراثيمه ودوائه وكيفية استعماله، إلخ.
قال الرئيس: إن أوضح عرض من أعراض مرض المسلمين فتورهم، وهو فتور عام شامل لجميع المسلمين في جميع أقطار الأرض، لا يسلم منه إلا أفراد شذاذ، حتى لا يكاد يوجد إقليما متجاوران، أو ناحيتان في إقليم، أو قريتان في ناحية، أو بيتان في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين، إلا والمسلمون أقل من جيرانهم نشاطا وانتظاما، وأقل إتقانا من نظرائهم في كل فن وصنعة - مع أن المسلمين في جميع الحواضر متميزون عن غيرهم من جيرانهم في المزايا الخلقية مثل الأمانة والشجاعة والسخاء - حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان! فما هو السبب؟
وقد لفت نظره العضو الهندي إلى أنه مع تسليمه بما قال الرئيس، يود أن يستثني بعض حالات فيها المسلمون خير من جيرانهم، كبعض الوثنيين في الهند، والصابئة في العراق، فوافقه الرئيس وشكره على ملاحظته.
ثم أخذوا - بعد التسليم بوجود العرض - يبحثون في الأسباب وذهبوا في ذلك كل مذهب، فالشامي رأى أن سبب الفتور يرجع إلى ما أصاب المسلمين من عقيدة جبرية، فهذه العقيدة في القضاء والقدر على هذا النحو آلت إلى الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالبة النفسية كحب المجد والرياسة، والإقدام على عظائم الأمور، فأصبح المسلم كميت قبل أن يموت. والعقيدة بهذا الشكل مثبطة معطلة لا يرضاها عقل، ولم يأت بها شرع.
والمقدسي رأى السبب تحول نوع السياسة الإسلامية من ديمقراطية إلى استبدادية، فأفسدت العقول وأماتت الأخلاق.
ورد التونسي بأن بعض الأمم الأوربية محكومة بحكومة استبدادية ولم يمنع ذلك من تقدمها، وإنما السبب في نظره الأمراء المترفون الذين لم يرعوا للأمة حقوقها.
وقال الرومي: إن تحميل الأمراء التبعة كلها غير سديد، فما هم إلا نفر قليل من الأمة. والسبب الحقيقي في نظره فقدان المسلمين الحرية بجميع أنواعها: من حرية التعليم، وحرية الخطابة، وحرية البحث العلمي، فبفقد الحرية تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس؛ وتختل القوانين وتسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور.
ورأى التبريزي أن السبب ترك المسلمين أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاسترسل الأمراء في أهوائهم وشهواتهم، وعدمت المراقبة عليهم.
وقال الفاسي: إن السبب هو إهمال الناس الاهتمام بالدين، حتى لم يبقى له أثر إلا على أطراف الألسن، وأمراؤهم مثلهم لا يتراءون بالدين إلا بقصد تمكين سلطانهم على البسطاء من الأمة، هذا إلى ظلمهم وجورهم. وقد كان المسلمون أعزاء يوم توثقت بينهم الرابطة الدينية، فلما انحلت ضاعت الأخلاق ففتروا وخمدوا.
وأجاب المدني بأن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفي سببا لهذا الفتور العام. وعنده أن السبب تدليس رجال الدين وغلاة المتصوفين الذين لونوا الدين بلون سيئ فأضاعوه وأضاعوا أهله، وذلك أن العلماء العاملين أهل لكل تجلة واحترام، فلما حسدهم من لا يستحق هذه المنزلة سلكوا مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف المقدرة إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر وقليل المال إلى التظاهر بزينة اللباس والأثاث، فأفسد هؤلاء الدين بما أدخلوا فيه ما ليس منه، كالعلم اللدني،
10
وترتيب المقامات، ووراثة السر، والرهبنة، والتظاهر بالعفة، والتبرك بالآثار، والكرامة على الله، والتصرف في القدر. فسحروا عقول الجهلاء، واختلبوا قلوب الضعفاء كالنساء، والنساء بذرن هذه البذور الضارة في أبنائهن وبناتهن، فماتت النفوس وخرفت العقول. وهؤلاء المدلسون وجدوا في بغداد ومصر والشام وغمرو السوق في الآستانة، وسرى التدليس من هذه العواصم إلى جميع الآفاق فأصبح المرض عاما.
وانضم الرومي إلى هذا الرأي وزاده إيضاحا، فقال: إن داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين والجهال المتعممين، وبلغ أمرهم في البلاد العثمانية أن صارت الألقاب العلمية منحة رسمية تعطى للجهال، حتى للأميين والأطفال (كمشيخة الطرق عندنا). فقد يكون طفلا ويمنح بالوراثة لقب «أعلم العلماء المحققين»، ثم «أفضل الفضلاء المدققين »، ثم، وثم ... حتى يوصف بأنه «أعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء المتورعين، وينبوع الفضل واليقين»، وأكثرهم لا يحسنون حتى قراءة ألقابهم. وطبيعي أن هؤلاء يقابلون السلطان بالمثل، فهو صاحب العظمة والإجلال، المنزه عن النظير والمثال ، مهبط الإلهامات، مصدر الكرامات، سلطان السلاطين، مالك رقاب العالمين.
وأصبح التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية سلعا تباع وتشترى، وتوهب وتورث. وتسلط هؤلاء المتعممون على المجالس والإرادات، واتخذ الأمراء من ذلك وسيلة يتعذرون بها عند الدولة الأجنبية بأن الرأي العام - وعلى رأسه المعممون لا يقبلون الإصلاح المدني.
أجاب الكردي بأن هذا الداء خاص ببعض الولايات: ولكن عرض الفتور عام في الولايات الإسلامية التي فيها هذا الشأن وغيره، فلا بد أن يكون السبب شيئا أعم من ذلك. وعندي أن السبب هو أن المسلمين أصيبوا باقتصارهم على العلوم الدينية وإهمالهم العلوم الدنيوية، كالرياضة والطبيعة والكيمياء، على حين أن هذه العلوم نمت في الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية، حتى صارت عندهم كالشمس، لا حياة لهم إلا بنورها، وأصبح المسلمون في أشد الحاجة إليها في جميع أمورهم: من تربية الطفل إلى سياسة الدولة. ومن عمل الإبرة إلى عمل المدافع والبوارج. ومن استخدام اليد إلى استخدام الأسلاك والبخار - فابتعاد المسلمين إلى الآن عن هذه العلوم النافعة الحيوية. جعلهم أحط من غيرهم من الأمم. وكلما تمادت الأيام بعدت النسبة بينهم وبين جيرانهم.
أجاب الإسكندري: إن هذا يصلح سببا، ولكن ليس كل السبب، لأن فقد العلوم لا يصلح سببا لفقد الإحساس الشريف والأخلاق العالية، وإنما السبب نومنا ويأسنا.
قال التتري: إن هذا شكاية حال لا شرح أسباب؛ إنما السبب عندي فقدان القادة والزعماء؛ فلا أمير حازم يسوق الأمة طوعا أو كرها إلى الرشاد؛ ولا زعيم مخلص تنقاد له الأمراء والناس، ولا رأي عام يجمع الناس على غرض نبيل.
والأفغاني يرى أن سبب الفتور الفقر، وهو قائد كل شر، ورائد كل فساد، فمنه الجهل، ومنه الانحطاط الخلقي، ومنه تتشتت الآراء حتى في الدين، فليس ينقصنا عن الأمم الحية إلا القوة المالية؛ ولكن المال لا يأتي إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تنتشر في الأمة إلا بالمال؛ وبهذا تحدث مشكلة الدور، ويجب أن تبحث عن حلها.
أجاب المسلم الإنجليزي: إن الفقر في المملكة الإسلامية ليس طبيعيا، فهي بلاد غنية، لو نفذت تعاليم الإسلام فيها من تحصيل الزكاة والكفارات وما إلى ذلك وصرفت في وجوهها لخفت وطأة الفقر؛ وإنما سبب الفتور في نظره وفقد الاجتماعات والمفاوضات وتبادل الآراء فنسى المسلمون حكمة تشريع الجمعة والجماعات والحج، وصارت الخطب التي تلقى تافهة لا قيمة لها، وكان الغرض منها التحدث في الأحوال الطارئة. وبلغ من سوء رأيهم أنهم عدوا التحدث في الأمور العامة فضولا، والكلام فيها في المساجد لغوا، فلما انعدم الكلام في المصالح العامة أصبح كل شخص لا يهتم إلا بنفسه، ولا اهتمام له بالصالح العام ولا بغير ذلك من الشئون، حتى لو بلغهم خبر تخريب الكعبة - لا قدر الله - ما زادوا على أن يقطبوا جبينهم لحظة وينتهي الأمر. والأمم الحية في الوقت الحاضر تهيئ الفرص للاجتماعات ومبادلة الآراء ما أمكن، بكثرة النوادي والمجتمعات، وتنظيم الرحلات والسياحات، وكثرة الخطب والمحاضرات حتى في المتنزهات، وعقد المؤتمرات للمناسبات، وتذكيرهم بتاريخهم وأهم أحداثهم، وبثهم في الأغاني والأناشيد ما يبعث على حب البلاد والحرية ويحمس للخير العام.
ورأى الصيني أن السبب هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء المتملقين المنافقين، الذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لهم، ويحرفون أحكام الدين ليوفقوها على أهوائهم، فماذا يرجى من علماء دين يسترون بدينهم دنياهم، ويقبلون يد الأمير لتقبل العامة أيديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من الضعفاء، فأفضل الجهاد عند الله الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين. وعندنا في الصين رجال حكماء نبلاء لهم نوع من السيادة حتى على العلماء، وهؤلاء هم الذين يسمون في الإسلام أهل الحل والعقد وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله نبيه بمشاورتهم؛ وتاريخ المسلمين يدل على ارتباط القوة والضعف بمنزلة أهل الحل والعقد في الأمة. والخلاصة أن سبب الفتور استحكام الاستبداد في الأمراء، وانعدام أهل الحل والعقد من الأمة.
وقال النجدي: إن سبب فتور المسلمين الدين الحاضر نفسه، بدليل التلازم؛ فالدين الحاضر ليس دين السلف: إن الدين الحاضر ترك إعداد القوة بالعلم والمال والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك مما بينه إخواننا. قد يقول قائل: إن كان دين دخل عليه التغيير ولم يؤثر في أهله الفتور؛ بل قال كثير من رجال الغرب إنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد فصلهم الدين عن شئون الحياة الدنيا. والجواب أن كل أمة لا بد لها من نظام ثابت تسير عليه، ويلائم نفسها وبيئتها وعلاقاتها التجارية والسياسة، والقانون الطبيعي الذي يتفق والطبيعة البشرية هو إذعان الإنسان لقوة غالبة هي الله الذي يوحي به الإلهام الفطري؛ ولهذه الفطرة علاقة عظمى بتنظيم شئون حياته، وهي أقوى وأفضل وازع - وكل الأديان راجعة إلى أصل صحيح واحد، فإذا تغير أو فسد؛ فسد الناس لاختلال هذا الوازع، قال تعالى: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا»، «والأمة كلما قربت من الأصل الصحيح والمبادئ الصحيحة قربت من الكمال».
وهنا أعلن الرئيس أن البحث في أعراض الداء وأسبابه قد نضج أو كاد، فيكتفي فيه بهذا القدر، ويجب نقل البحث إلى موضوع آخر، قال: وكلمة أخينا النجدي تلهمنا الموضوع الآتي الذي نبحثه، وهو: ما هو الإسلام الصحيح؟
5
بعد هذا انتقل بحث المؤتمر إلى تحديد «الإسلام الصحيح» وما دخل عليه من تغيير؛ وقد أفاض في ذلك العضو النجدي، فقال: «إن الإيمان بالله أمر فطري في البشر، وحاجتهم إلى الرسل لإرشادهم إلى كيفية الإيمان، ويختلف الناس في تصور الله، والعقول البشرية مهما قويت واتسعت لا تتحمل إدراك صفات الله الأزلية المجردة عن المادة والزمان والمكان، فاحتاجت إلى من يرشدها».
وأساس الإسلام جملتان: «لا إله إلا الله» و«محمد رسول الله»، وثمرة الإيمان بالأولى عتق العقول من الأسر، وثمرة الثانية الاهتداء بمحمد في تعاليمه التي تحول بين المرء ونزوعه إلى الشرك.
ولكن إدراك التوحيد والاحتفاظ به عسير على النفس، فسرعان ما يخرج منه إلى الشرك. والشرك أنواع ثلاثة «شرك في الذات» وذلك في عقيدة الحلول، و«شرك في الملك» كاعتقاد الناس في بعض المخلوقات المشاركة في تدبير شئون الكون، و«شرك في الصفات» بإسباغ صفات الكمال على بعض المخلوقات.
وقد فشا في المسلمين هذا الشرك، كتعظيم القبور، وبناء المساجد والمشاهد عليها، والطواف بها والإسراج لها
11
والتذلل، وكدعوى أن هناك علما علم الباطن خص به بعض الناس، واتخاذ الدين لهوا ولعبا بالتغني والرقص، ولبس الأخضر والأحمر، واستخدام الجن والشياطين، فكل هذه وأمثالها شرك محض أو مظنة إشراك.
وعرض للإسلام - غير الشرك - أمران خطيران: وهما التشدد في الدين بعد ما كان يسرا سهلا، فكانت كل فرقة تأتي تزيد في هذا التشدد حتى صار عسرا صعبا، والأمر الثاني تشويش الدين بكثرة المذاهب والشيع وطرق التصوف.
وقد لاحظ الرئيس أن عضوين من الأعضاء لم يتحدثا، فرغب أن يسمع صوتهما، وهم العضو السندي والعضو القازاني، فأما السندي فقد تكلم في التصوف والذي دعا إليه، وما فيه من حق وما فيه من باطل، وأما القازاني فقص عليهم قصة جرت بين مسيحي روسي أسلم ومفتي قازان، تدور حول دعوة المفتي إلى تقليد السلف والاقتصار على ما قالوا، ودعوة الروسي المسلم إلى ضرورة الاجتهاد وعدم التقليد، وحكى ما جرى بينهما من حجج وأدلة، وأخيرا انتصر المسلم الروسي المستشرق على المفتي، فاقتنع بأن التقليد ضار حمل عليه الكسل، وأن الاجتهاد واجب، ولكن يحتاج القيام به إلى جد وعناء.
ثم دعا الرئيس السيد الفراتي السكرتير، وهو «الكواكبي» لتلخيص المحاضر السابقة للمؤتمر وتعداد أسباب فتور المسلمين، وكلفه أن يزيد عليها من الأسباب ما يراه إن وجد غير ما ذكره الأعضاء، فلخص أسباب فتور المسلمين في: (1)
أسباب دينية:
أهمها عقيدة الجبر، ونشر ما يدعو إلى التزهيد في الدنيا، وترك السعي والعمل، واختلاف المسلمين فرقا وشيعا، وإضاعة سماحة الدين، وتشديد الفقهاء المتأخرين، وإدخالهم في تعاليمه الخرافات والأوهام، وعدم المطابقة بين القول والعمل في الدين، وتهوين غلالة الصوفية شأن الدين وجعله لهوا ولعبا، والتوسع في تأويل النصوص، والتحايل على التحرر من الواجبات، وإيهام الدجالين الناس أن في الدين أمورا سرية، واعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين، وتطرق الشرك إلى عقيدة التوحيد ، وتهاون العلماء في تأييدها، والغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة والحج. (2)
وأسباب سياسية:
أهمها السياسة الخالية من المسئولية، وحرمان الأمة حرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل وفقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة وميل الأمراء للعلماء المدلسين، واعتبار العلم صدقة يحسن بها الأمراء على الخاصة، وإبعادهم للناصحين وتقريبهم للمتملقين. (3)
وأسباب خلقية:
من الاستغراق في الجهل والارتياح إليه، واستيلاء اليأس على النفوس، والإخلاد
12
إلى الخمول، وفساد التعليم، وفساد النظام المالي، وإهمال طلب الحقوق العامة جنبا، وتفضيل الوظائف على الصنائع، والتباعد عن المداولات في الشئون العامة.
وقد زاد السكرتير أشياء على ما سبق، أهمها: الغفلة عن تنظيم شئون الحياة، وعدم توزيع الأعمال توزيعا عادلا، وعدم العناية بتعليم النساء وتهذيبهن وانتشار داء التواكل.
ولم يرض المؤتمر بالاكتفاء بالبحث في الأمراض وعلاجها، بل اقترح إنشاء جمعية دائمة تعني بإصلاح المسلمين، ويشرف على تنفيذ برنامجها في الإصلاح وهذه الجمعية تؤلف من مائة عضو: عشرة عاملين، وعشرة مستشارين، وثمانين فخريين ولا عدد للأعضاء المساعدين المحتسبين، واشترط في الأعضاء العاملين شروطا دقيقة: من العفة والأمانة والإخلاص وسعة العلم والقدرة على التأثير وإمكان التفرغ للعمل لأغراض المؤتمر، وجعل مركزها في مكة، ولها شعب في الآستانة ومصر وعدن والشام وطهران وتفليس وكابل وكلكتا وسنغافورة وتونس ومراكش وغيرها. والجمعية لا تكون تابعة لحكومة ما، ولا تتقيد بمذهب ديني خاص، ويكون شعارها: «لا نعبد إلا الله»، ويكون من أهم أغراضها تعميم التعليم بين المسلمين، والترغيب في العلوم والفنون النافعة، وإيجاد المدارس العالية يتخصص كل منها للتوسع في فرع من فروع العلم، وتوحيد أصول التعليم، ووضع مناهج للرقي بالأخلاق وتنفيذها، وإنشاء مجلة شهرية للجمعية لتأييد أغراضها إلخ إلخ.
وقد اتفقوا على أن يكون مركز الجمعية المؤقت هو مصر، لتقدمها في العلم والحرية، ولأنها أسبق الأمم الإسلامية في ذلك .
وانقض المؤتمر بعد أن اجتمع اثني عشر اجتماعا وصل فيها إلى النتائج الآتية: (1)
المسلمون في حالة فتور عام. (2)
يجب تدارك هذا الفتور. (3)
جرثومة الداء الجهل. (4)
الدواء تنوير الأفكار بالتعليم، وإيقاظ الشوق للترقي، وخصوصا في الناشئة. (5)
تأسيس الجمعيات التي تقوم بهذا العلاج. (6)
المكلفون بذلك كل قادر على عمل، وخاصة نجباء الأمة من السراة والعلماء.
هذه نظرة الطائر إلى هذه الرواية العظيمة العميقة المفيدة، وهذا تفكير «الكواكبي» من نحو نصف قرن يشف عن سعة اطلاع، وصدق إخلاص، وسمو فكر، وبعد نظر، وشجاعة وصراحة، فإذا نحن اطلعنا على ما كان يكتب قبله في المجلات والصحف في مثل هذه الموضوعات رأيناها كانت أقرب إلى موضوعات إنشائية جوفاء، فنقلها هو إلى بحوث علمية، عملية، يحلل ويذكر العرض وسبب الداء وعلاجه في صبر وأناة واستقصاء.
كتاب «أم القرى» رواية جدية ليس فيها غرام وغزل، بل فيها غرام مؤلفه بالعالم الإسلامي، يعاني في سبيله ما يعاني المحب الهائم، ويود من صميم قلبه أن يصل محبوبه إلى أعلى درجات الكمال، ويضحي من أجله بماله الذي ضيعه عليه الظلمة لتمسكه بالحق، ويضحي بوطنه فيهجره لأنه لم يستطع أن يجهر برأيه في حلب فجهر به في مصر؛ ولا بأس فكل بلد إسلامي وطنه - كان يحب التخصص، وينادي بأن كل قادر يحصر نفسه في فرع من فروع العلم أو الفن حتى يتقنه، وطبق ذلك على نفسه، فلم يتوزع بين فقه ولغة، وما إلى ذلك، إنما وهب نفسه لإصلاح المسلمين، فدرس التاريخ الإسلامي في دقة وإمعان في البلاد الإسلامية سياحة فاحصة منقبة، ودرس كل قطر إسلامي ومزاياه وعيوبه، حتى إنه لما وضع روايته «أم القرى» أنطق كل عضو بعقلية قطره: وسلطة المتعممين؛ والإسكندري يشكو ضعف الأخلاق، والإنجليزي ينعي على المسلمين عدم المجتمعات وتبادل الرأي بالخطب والمحاضرات ونحو ذلك.
اكتوى السيد جمال الدين الأفغاني من السياسة الأوربية ولعبها بالمسلمين، فصب عليها جام غضبه، واستغرقت حملته على السياسة الإنجليزية أكبر قسم في العروة الوثقى، واكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضع نقده. نظر الأفغاني إلى العوامل الخارجية للمسلمين فدعاهم إلى أن يناهضوها، ونظر الكواكبي إلى المسلمين فدعاهم إلى إصلاحها، فإنها إن صلحت لم تستطع السياسة الخارجية أن تلعب بهم؛ ولذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة تأثر، تخرج من فمه الأقوال نارا حامية، ومعالجة «الكوكبي» معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء، ويكتب الدواء في أناة. الأفغاني غضوب، والكواكبي مشفق، الأفغاني داع إلى السيف، والكواكبي داع إلى المدرسة. ولعل هذا يرجع أيضا إلى اختلاف المزاج، فالأ فغاني حاد الذكاء حاد الطبع، الكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع، إذا وضعت أمامهما عقبة تخطاها «الأفغاني» قبل، وتخطاها «الكواكبي» بعد. ولكن من خير نقطة تتخطى، فلا عجب إن كان للأفغاني دوي المدافع، وكان للكواكبي خرير الماء يعمل في بطء حتى يفتت الصخر!.
لو مكن له معرفة لغة أجنبية ووقف على ما وصلت إليه بحوث علم الاجتماع الحديث لكان له منبع فياض إلى جانب غزارة فكره.
وبينما الناس يعجبون بما ينشر من مقالات إصلاحية في المجلات والجرائد، ومجالس الفضلاء في مصر عامرة بحديثه وجدله ودفاعه المؤدب عن آرائه، إذا بالصحف المصرية تطلع بنبأ موته الفجائي يوم 6 من ربيع الأول سنة 1320، فأسف عليه كل من كان محبا لإصلاح المسلمين، وبكاه إخوانه الذين كانوا يرون فيه رجلا نبيل الخلق، سامي المقصد، عفي اللسان، نقي الضمير.
فرحمه الله!
Unknown page