السحابة السوداء تزحف فوق المدينة من الشمال والجنوب، يصبح النهار مثل الليل، كانت بدور الدامهيري راقدة في سريرها، شعاع خافت من الضوء يسري فوق جفونها المغلقة، يزحف فوق وجهها وعنقها، يدخل من تحت قميص النوم إلى بطنها العالية، تنتفض صاحية لا تعرف الوقت، تسمع صوت الرعد، تنادي الدادا، تدخل زينات إلى غرفة نومها حاملة الصينية الفضية، فوقها إبريق الشاي من الفضة، ملعقة السكر من الفضة، تشم بدور نكهة الشاي، مع قضمة من كعكة العيد الناعمة، تذوب في فمها مرشوشة بالسكر، وقطعة من الزبد مع العسل. - صوت الرعد ده يا زينات أو مدافع العيد؟ - لا يا ست بدور ده صوت المظاهرات.
هبت بدور الدامهيري واقفة على قدميها الصغيرتين المدكوكتين باللحم، دستهما في البانتوفلي الأزرق تعلوه كرة من الفرو الأبيض، سارت تترنح إلى النافذة، من خلفها تمشي زينات، في قدميها حذاء أبيض من الكاوتش، مدت يدها السمراء النحيلة إلى النافذة تفتحها، اندفع الصوت مع الريح قويا يهز الجدران، آلاف الناس، ملايين الناس، نساء ورجال وشباب وأطفال، يسيرون صفوفا صفوفا، حاملين اللافتات، يتصاعد هتافهم يرج السماء، يسقط النظام، يسقط الملك والإنجليزي.
تغمض بدور عينيها، جسدها يرتعش، تعود إليها الذكرى: حلم لم يحدث إلا في الخيال؟ حقيقة حدثت في حياة امرأة أخرى غيري؟
كانت بدور في التاسعة عشرة من عمرها تمشي نحو الحب والحرية بخطوات قوية ثابتة، تجسدت الحرية والحب في شخص واحد، كان يمشي إلى جوارها في المظاهرات، كان اسمه «نسيم»، كان اسمه «نعيم»، أو ربما اسم آخر، تغيرت الأسماء مع مرور السنين وتغيرت الهتافات: يسقط الملك والإنجليز، يسقط الأمريكان والرئيس، الجلاء بالدماء، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، تحيا مصر حرة.
الهتاف يتصاعد من بعيد، يقترب منها أكثر وأكثر، أصوات الآلاف في الشوارع ترتفع:
غلو العيش والزيت الحار،
والجاز ولع نار.
غلو السكر غلو الزيت،
لما بعنا البيت.
يتعالى الهتاف، يشبه هدير الشلال يرتفع وينخفض، ثم يرتفع، تسقط أجساد على الأرض، ثم تنهض، تسقط ثم تنهض، وهي تمشي بينهم، تدوس على قدميها بقوة، تمشي داخل نهر من البشر يذوب في البحر، محمولة فوق موجة عالية، لا تشعر بملمس الأرض، يعتصرها ضغط الجموع حيث تقترب من المركز. يذوب جسدها حتى يتلاشى ثم تولد من جديد، هي جزء من الكل، الكل جزء منها، صوتها يذوب في الأصوات، ترجها لذة حية عنيفة تشبه الجنس، تمشي وتمشي دون أن تشعر بالتعب، لم يعد جسمها سمينا ولا قصيرا، أصبحت ممشوقة القامة، رشيقة الخطوة، ترقص بخفة على الإيقاع، ثم دب الصمت بصوت يشبه الرعد. أصبحت الشوارع خالية من الناس، سيارات البوليس تجري هنا وهناك، وقفت في مكانها ثابتة، تسند ظهرها إلى الجدار، أمامها تراه واقفا، ذراعه ممدودة نحوها، ذراع طويلة قوية، تمتد من صدر عريض داخل الفانلة البيضاء من القطن، يزحف نحوها سائل أحمر بلون الدم، تمد يدها لتمسك يده، لكن المسافة بينهما تتسع وتتسع، يبتسم لها من بعيد قبل أن يختفي، تراه من ظهره يمشي، ظهره مرفوع مشدود العضلات، الأطفال يقبلون نحوه من الشوارع والأزقة، يدورون حوله على شكل الدائرة يغنون: نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل، اجمعوا يا بنات النيل ياللا ده مالوهش مثيل، قطن ما شاء الله ...
Unknown page