بعد دقائق قليلة كانت الأستاذة مجيدة الخرتيتي تقود سيارتها المرسيدس البيضاء، في طريقها إلى الطبيب النفسي، حيث تتمدد فوق الأريكة.
فوق خشبة المسرح كان أحمد الدامهيري يرمقها وهي تعزف وتغني وترقص، زينة بنت زينات تتألق تحت الأضواء، كان جالسا في الصفوف الخلفية، يتخفى وراء نظارة سوداء وعمامة بيضاء كبيرة يلف بها رأسه، جبة من القطيفة وقفطان له حزام عريض ذهبي، من حوله حراس مسلحون متنكرون في ملابس مدنية، في جيب كل منهم مسدس كاتم للصوت. منذ سمعها لأول مرة لم يكف عن سماعها، يخترق صوتها المسافة بين عقله وقلبه في لحظة خاطفة، ينفذ من جسده إلى روحه في غمضة عين، تتلاشى الفواصل بين جسده وعقله وروحه وجسده، يصبح كيانا واحدا جالسا في مقعده شاخصا إليها مبحلقا فيها. يعود طفلا جنينا في بطن الأم، يصحو من نوم عميق، يفتح جفونه؛ الدنيا ليل مظلم، دقات قلبه تسري في أذنيه بصوت منتظم، إيقاع لحن يأتي من بعيد، من بعيد جدا، يفرك بأصابعه عينيه المتأرجحتين بين النوم واليقظة، لا يستطيع أن يحدد الصوت: صوت من؟ ومن أين يأتي؟
كم من الزمن يمضي، هي لحظة من الصمت الطويل، أو دقيقة، أو ساعة، أو سنة، أو العمر كله. لا يكاد يعرف، ثم يأتي الصوت من جديد، صوت مألوف لأذنيه، يشبه حركة القلب تحت الضلوع، دقات نبض قريب، يكاد يحسه في صدره يدق بالإيقاع ذاته من قمة رأسه حتى بطن قدميه، يتلاشى الصوت ويأتي ثم يختفي ثم يأتي، يتصاعد الإيقاع ويهبط، ثم يتصاعد دون توقف، دون بداية أو نهاية، يدغدغ أذنيه في نعومة صدر أمه، يسري في كيانه. كلما استمع إليه يصبح مألوفا، سمعه من قبل آلاف المرات، ملايين المرات منذ كان في الرحم، يعرف النغمة التي راحت والتي جاءت والتي ستأتي، وإن كان الصوت خافتا بعيدا بعيدا، كأنما يأتي من تحت الماء وهو متكور حول نفسه تحت الغطاء. إنه جنين داخل رحم أمه يحوطه الماء الدافئ، يسمع الأصوات تتحرك داخل الماء، دقات قلب أمه قريبة من أذنه الجنينية، يدق قلبها بإيقاع منتظم بطيء، أو إيقاع سريع مضطرب، مهما اضطربت الدقات يظل لها إيقاع الموسيقى، ورائحة شعر أمه، وصوتها يهمس: حبيبي أحمد.
القاعة الكبيرة مكتظة بالناس، رجال ونساء وشباب وأطفال، إلى جواره أم شابة تحمل في حضنها طفلها. كف الطفل عن البكاء حين بدأت زينة تغني، تسمرت عينا الطفل فوق وجهها، أذناه مرهفتان لصوتها، يتابعها بعينيه وهي تتحرك فوق خشبة المسرح عيناه لا تنفصلان عنها، أذناه ملتصقتان بصوتها، يهتز رأسه بالإيقاع ذاته، يسبح جسمه الصغير في حضن أمه كما كان يسبح داخل رحمها.
أثبت الطب أن الجنين في بطن أمه يسمع الأصوات داخل الرحم وفي العالم خارج الرحم، منذ أن يبلغ الجنين مائة وأربعين يوما يعرف صوت أمه حين تغني وحين تبكي، يسمع دقات قلبها وأنفاسها ونبض الدم في عروقها، يسمع الحوار بين أمه وأبيه دون أن يفهم الكلمات، لكنه يفرق بين صوت الموسيقى والصوت النشاز، تتدرب أذناه على سماع الأنغام، ألحان الحب والسعادة أو الصفعات والركلات والنشيج الحزين.
لم يعرف أحمد الدامهيري ماذا في زينة يجذبه؟ ماذا في صوتها يرج كيانه؟ ماذا في عينيها يثير فيه الذكريات؟ ذكريات قديمة دفيئة بعيدة ضاعت، سقطت في العدم. مع الزمن الماضي تعود إليه الذكريات من حيث لا يدري، يعود إليه صوت أمه تغني له قبل أن ينام، رائحة لبنها تسري في أنفه مع اللحن والموسيقى، يتسمر في مقعده لا يتحرك، يصبح جسده والمقعد شيئا واحدا، حين ينتهي العرض وتنطفئ الأنوار، وتخلو القاعة. يظل أحمد الدامهيري جالسا محملقا في الظلمة والفراغ.
أصبحت زينة بنت زينات طيفا يطارده ليل نهار، صوتها يسري في أذنيه وهو نائم يشبه صوت الله، أو صوت الشيطان. أصبح يؤمن أن الموسيقى تأتي من عند الشيطان وليس من عند الله. موسيقى صوتها تسلبه الاتزان، تسلبه الإيمان بالله، تجعله ريشة في مهب الرياح، يصبح جسده خفيفا كالريشة، جسد بغير لحم وعظم، جسم مصنوع من الروح، يطير به في سعادة الأرواح الحرة الطليقة من أسر الجسد، كأنما يموت وتصعد روحه إلى السماء، ثم يصحو ويصبح ضمن الأحياء يموت ويصحو، ويموت ويصحو دون توقف، دون انقطاع.
أعطتها أبلة مريم لقب موتسارت مصر، تقدمها في كل عرض قائلة: هذه زينة بنت زينات هي موتسارت الوطن، لكن موتسارت عاش في حضن أبيه الموسيقي الكبير، كان يدربه على العزف ثلاث ساعات في اليوم منذ بلغ الثانية من عمره. ما إن بلغ موتسارت الثامنة من عمره حتى كتب سيمفونيته الأولى، لم تكن فقط نتيجة الموهبة أو الجينات الموروثة، بل تدريب طويل طويل، بلغ عشرة آلاف ساعة ما بين الثانية والثامنة من عمره. العبقرية هي تدريب وصبر طويل، لكنها مع الموهبة الطبيعية تصبح شيئا خارقا لقوانين الطبيعة.
منذ رأتها في المدرسة الابتدائية أيقنت أبلة مريم أن هذه الطفلة موهوبة، كانت زينة تحفظ اللحن عن ظهر قلب فور سماعه لأول مرة، كانت تثق بنفسها إلى حد الغرور، كأنما هي ابنة الإله في السماء، وليست طفلة ولدت على الرصيف فوق تراب الأرض.
تغني زينة بنت زينات قصيدتها، تبدؤها بهذه الأبيات:
Unknown page