توارث النقاد الشباب هذا الداء، هذه الطريقة السهلة السريعة للوصول للحصول على الشهرة والأضواء، أن يضع الواحد منهم اسم كاتب مشهور فوق غلاف كتابه، يكتب عنه بعض مقالات نقدية، بالمدح أو الذم أو لا هذا ولا ذاك. يملأ الصفحات عن كاتب لم يقرأ من كتبه إلا نصف كتاب، أو بضع صفحات أو مقالا نقديا نشر في مجلة ما، أو سمع عنه في الراديو أو من زملائه عند الحلاق.
وقع الخرتيتي الأب في المحظور، دخل كتابه عن طه حسين ضمن الممنوعات، صادرته السلطات ومنها مشيخة الأزهر، نشرت الصحف أن كتاب الخرتيتي يؤكد أفكار طه حسين الكافرة.
كان الأب يأخذ ابنه الطفل زكريا إلى الحلاق، أو إلى المقهى أو النادي يدربه منذ الطفولة على الجلوس مع الكبار، والاستماع إلى الأحاديث في السياسة أو الأدب أو الفكر. ورث الأب عن أبيه حلما طفوليا، أن يكون مفكرا أو كاتبا كبيرا، أن تظهر صورته داخل البرواز في الصحف مع الكبار.
يوم التحقيق أخذ الخرتيتي الأب ابنه الطفل إلى الجلسة في المحكمة، أراد لابنه أن يشهد عظمة أبيه ، يراه محاطا بالأضواء وعدسات التصوير. الصحفيون يطاردونه أمام باب المحكمة، في يد كل منهم قلم يدون ما يخرج من بين شفتيه، يلتقط الصحفي منهم الكلمة قبل أن تخرج، يلتقطها بسن القلم كالملقط، كالمغناطيس يلتقط ذرات المعدن النفيس. يمشي بينهم الخرتيتي الأب مختالا كالطاووس، شامخا برأسه ناظرا بطرف عينه إلى ابنه زكريا، يتلكأ في مشيته حتى يجتمع من حوله الصحفيون، حتى يرى ابنه المشهد كاملا، حتى ينحفر المشهد في ذاكرة الابن، يورثه للحفيد ويدخل سجلات التاريخ.
زكريا يمشي إلى جوار أبيه ممسكا يده، شامخا برأسه المثلث الصغير يشبه رأس أبيه، ذقنه مثلث صغير، أذناه تلتقطان بعض الكلمات المتناثرة في الجو. - يا سعادة البيه كتابك رائع، لكن عندي سؤال، حضرتك مع طه حسين أو ضده؟ - إذا قريت الكتاب تعرف يا أستاذ: باين عليك لم تقرأ الكتاب مثل كل الصحفيين. - والله العظيم قريته كله من الغلاف للغلاف، لكن والله ما عرفت موقف سعادتك بالضبط.
يدفع صحفي آخر زميله ويحتل مكانه أمام الخرتيتي، يبادره بالسؤال: يا ترى المحكمة ستقرر البراءة يا سعادة البيه؟ الكتاب رائع وكله داخل في الإيمان، لم أقرأ كلمة كفر واحدة. - شكرا يا أستاذ. - تفتكر طه حسين كان مؤمن أو ملحد والعياذ بالله. - يا أخي روح اقرأ كتابي وأنت تعرف!
يتعمد الخرتيتي أن يشخط في الصحفي بصوت عال خشن، أن يشهد ابنه سلطة أبيه، قدرته على الشخط في الصحفيين، زهد أبيه في الأضواء مثل كبار الكتاب، تطاردهم الأضواء وهم زاهدون فيها عازفون عنها مترفعون عليها، يضعون نظارات سوداء حتى لا تتعرف عليهم الأضواء.
كان الخرتيتي يضع نظارة سوداء تشبه نظارة طه حسين، لكن قامته قصيرة، جسمه صغير ضئيل، ليست له قامة طه حسين الطويلة الشامخة.
طال التحقيق داخل الغرفة المغلقة في المحكمة، في نهايته سأل المحقق الكاتب الكبير الخرتيتي: هل تؤمن بوجود الله يا أستاذ؟ - هل يدخل هذا السؤال ضمن تحقيق قانوني؟ أنا لست متخصصا في القانون، لكن أعلم أن هذا السؤال لا يواجهنا به إلا الله سبحانه وتعالى يوم الحساب . - هذا السؤال قانوني يا أستاذ، نحن دولة تقوم على الإسلام دين الله الحنيف، أرجو أن تجيب عن السؤال بنعم أو لا. - أرجو أن تعيد السؤال مرة أخرى. - هل تؤمن بوجود الله؟ - ما تفسيرك لمعنى الله؟
كان الأب الخرتيتي يرمق ابنه الجالس في ركن الغرفة مرهف الأذنين، تلتقط أذناه كل كلمة وكل حرف، ينتفض جسمه الصغير في الكرسي حين يشخط المحقق في أبيه، لم يسمع أحدا يرفع صوته على صوت أبيه، لم يعرف سلطة تعلو سلطة أبيه. كان صوت المحقق أعلى من صوت أبيه، يشخط فيه أحيانا حين يرد بإجابات مراوغة. يحاول الخرتيتي بالمراوغة أن يهرب من الإجابات الدقيقة الحاسمة، لا يريد أن ينهزم أمام ابنه الطفل، يرفع صوته أحيانا، وقد يشخط في المحقق بصوت سلطوي متعال.
Unknown page