كان زكريا الخرتيتي يحرك السبحة بين أصابعه القصيرة النحيفة، يشعر بشيء من الاسترخاء بعد أن أنهى كتابة عموده اليومي، بعد أن خرجت زوجته وابنته من البيت. على الأخص زوجته، ترقبه عينها التي لا تنام مثل عين الله، تكتشف خياناته قبل أن تحدث، قبل أن تمشي في خلايا عقله على شكل فكرة طارئة، أو رعشة عابرة ينتصب لها الشيء الخفي أسفل بطنه، حين تقع عيناه على فخذي طفلة تقفز في الطريق، أو فتاة مراهقة ترتدي الميني جوب.
يتحرر زكريا الخرتيتي من عبء الضمير بعد أن يؤدي الصلاة، يركب الطائرة إلى مكة المكرمة كل عام ليمسح ذنوبه الكثيرة، يهمس في أذن الرجل المتربع إلى جواره في المسجد: يا سلام يا أخي، الله كريم على عباده، الإنسان بالطبيعة مذنب فاسق، لكن الله غفور رحيم. لولا الصلاة والصوم والحج ما كان الإنسان يتحمل وطأة ذنوبه، كان الواحد منا يموت يا أخي من تأنيب الضمير. - إي والله يا أخي، يغفر الله لنا جميع الذنوب إلا أن نشرك به، حتى الزنى يا أخ يغفره الله لنا طالما أننا نعبده وحده دون شريك. - موضوع الزنى ده محل نقاش، حضرتك مين يا أخ؟ - أنا واحد من عباد الله، موظف صغير في أرشيف الحكومة وحضرتك مين يا أخ؟ - أنا زكريا الخرتيتي! - حضرتك بتشتغل إيه؟
يشعر زكريا الخرتيتي بغصة في حلقه، كان يتصور أن كل الناس تعرف اسمه، تقرأ عموده اليومي كل صباح، ترى صورته المنشورة على صفحات المجلات، على شاشة التلفزيون في الحوارات والأحاديث، على رأس عموده الطويل الرفيع، داخل البرواز المربع. - أنت لا تقرأ الصحف يا أخ؟ - لا والله يا أستاذ، كنت زمان وأنا شاب أقرأ الصحف، وأصدق كل كلمة منشورة، لكن بعد أن كبرت وشبت عرفت أن كلهم كذابين، من أول الرئيس بتاعنا لغاية الرئيس الأمريكي والإنجليزي والفرنساوي، كلهم يا أستاذ بدون استثناء كذابين. حتى ابني يا أستاذ بيكذب علي، وبنتي ومراتي، إلا مراتي أكبر كدابة، لفت رأسها بالحجاب وعملت نفسها ولية من أولياء الله الصالحين، كل النسوان لبسوا الطرح، عشان يضحكوا علينا يا أستاذ مش كده والا إيه؟ - إيه. - يعني إيه إيه؟ - يعني فيه ناس تعرف ربنا وتخاف النار في الآخرة، مش كده وإلا إيه؟ - إيه.
تفلت ضحكة من الاثنين في لحظة واحدة، ترن في المسجد نابية وسط التمتمات بالآيات المقدسات، تبدو كالعورة بين الرءوس المحنية في خشوع، والجباه الملاصقة للأرض. - قولي يا أستاذ، هو ربنا موجود بصحيح؟ - طبعا يا أستاذ، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. - ابني عامل مثقف، بيقرأ كتب كثيرة، بيقولي: إن علم الكون أثبت إن ربنا غير موجود. - ابنك مثقف جاهل، نصف مثقف. وطي صوتك الناس سامعاك، ركز دماغك في الصلاة، ربنا موجود مية في المية، خلي ابنك يقرأ العمود بتاعي في جريدة أبو الهول، عشان يجمع بين العلم والإيمان. - حضرتك بتكتب في الصحف يا أستاذ؟ حضرتك صحفي؟ - أيوه يا سيدي. - يعني إنت واحد من الكدابين؟
أفلتت ضحكة أخرى، ضحكة واحدة من فم أحدهما، ليس هو زكريا الخرتيتي. مط شفتيه إلى الأمام، نهض من جلسته متثاقلا، يدلك عظام ظهره، غادر الجامع يمشي بحركة بطيئة، ساقاه النحيفتان مقوستان قليلا، ظهره مقوس قليلا، يترنح قليلا في مشيته، يتأرجح بين السعادة والحزن، بين الفضيلة والرذيلة، بين الإيمان والعلم، يكاد يشبه كلماته المنشورة في عموده اليومي، تتذبذب كالبندول بين الحكومة والمعارضة، بين الأمانة والخيانة. يحمل عموده عنوان: أمانة العهد، يستعير من كارل ماركس بعض العبارات، ومن كتاب الله بعض الآيات، يقتبس من القرآن والإنجيل ما يشاء، ومن خطبة الرئيس ما يراه مناسبا. يحار القراء في أمره، لا يعرفون بالضبط ما يقول، هل هو مع الحرب أو ضد الحرب؟ هل هو مع السلم أو اللاسلم؟ هل هو مع الإيمان أو اللاإيمان؟ أطلقت عليه زوجته بدور اسم الرجل الزئبق. صديقتها صافي قالت عنه: السراب الذي تراه العيون الجاهلة ماء.
مع حركة الساقين في المشي أحس زكريا الخرتيتي بشيء من النشاط، مع أشعة الشمس الدافئة تسري في عروقه اليابسة، ونسمة الهواء الرقيقة تنفذ من فتحة القميص إلى صدره وبطنه، تدغدغ الجزء الأسفل من البطن بما فيه الشيء. مع حركة الفخذين في السير على القدمين، واحتكاك اللحم باللحم، كان الشيء ينتشي بشيء من النشوة، ينتفض قليلا باللذة أو الأمل في اللذة. لم تكن زوجته بدور قادرة على منحه اللذة؛ ربما لأنها مقطوعة البظر منذ الطفولة، مكبوتة منذ أن ولدتها أمها، مقموعة بأبيها العسكري، تحول بقدرة الله إلى كاتب كبير. أو لأنها أحبت رجلا آخر، منذ ليلة الزفاف أدرك أن في حياتها رجلا آخر، بل قبل ليلة الزفاف، منذ رأي صورتها داخل البرواز. عيناها الناعستان المسيلتان في أنوثة مراوغة، نظرة بنات الهوى تتخفى تحت ستار من الأدب والفن والثقافة، والنقد المسرحي والسينمائي.
وكان زكريا الخرتيتي ينسى آثامه الكثيرة، يمسحها بالحج والصلاة والصوم. تزوج بدور دون حب دون صدق، كان زواجا قائما على العقل، منذ رأى صورة أبيها منشورة في الصحف مع رجالات الدولة، منذ أصبح أبوها رئيسا لتلك المؤسسة الكبرى للثقافة والأدب والفن والصحافة، قال له عقله الباطن في الحلم: انتبه يا زكريا يا ابن الخرتيتي، هذا الرجل هو فرصتك الوحيدة، هو طريق الوصول إلى أحلامك في الصحافة.
منذ رأته بدور في أول لقاء، قال لها عقلها الباطن في النوم: انتبهي يا بدور يا بنت الدامهيري، هذا الرجل انتهازي وصولي، ينتهز الفرص للوصول قبل غيره من الشباب، تربوا في مدرسة الثورة. إنه الجيل الضائع بين عصر ملكي فاسد وعصر جمهوري أكثر فسادا، بين كارل ماركس ومحمد رسول الله، بين الاستعمار البريطاني المتخفي تحت ورقة التوت، وبين الاستعمار الأمريكي العاري إلى حد الفسق، بين نساء يرتدين الحجاب ونساء يرتدين الميني جوب، بين هؤلاء وهؤلاء الفتيات الجدد، تلف الواحدة رأسها بالحجاب وتكشف عن بطنها داخل الجينز الضيق.
زكريا الخرتيتي يرمق سيقان البنات وهو يمشي في الشارع، تصعد عيناه الضيقتان الغائرتان مع الساق الطويلة الممشوقة إلى الفخذ الممتلئة باللحم. تضرب البنت بكعب حذائها الأرض مثل الجواد الجامح، ترتج الأليتان المكورتان أسفل ظهرها، تمتد إصبعه في خياله بينهما، في الشق العميق بين الإليتين، كل منهما مستديرة صلبة مثل الكرة المطاط. لا يعرف البنت من الولد من الخلف، في المراهقة كان يشتهي الأولاد الذكور، أفخاذهم مشدودة كالنمور، أخذه المدرس الأول ذات يوم إلى المرحاض، حيث أفقده العذرية، وأخذ هو ولدا أصغر يتيما ليس له أم ولا أب.
يطرد زكريا الخرتيتي هذه الذكريات القديمة، مدفونة في قاع أحشائه الدفينة، يهز رأسه على إيقاع الموسيقى الراقصة في الراديو، أو في التلفزيون فوق الرف داخل المقهى. قلبه يتخفف من العبء، انتهى من كتابة عموده اليومي، العبء الثقيل يجثم على صدره حتى يلفظه فوق الورقة. أمامه يوم كامل ليس فيه زوجته ولا ابنته، يشعر بنشوة خفية حين تغيب زوجته عن البيت، تسقط الأغلال غير المرئية عن عقله وجسده، يصبح البيت ملكا له وحده، يفرد ذراعيه عن آخرهما، يفرد ساقيه حتى تطقطق فقرات ظهره. يخرج النوتة الخضراء الصغيرة من الدرج السري أسفل المكتب، يحتفظ في الدرج بأسراره القديمة، منشورات الحزب أو الخلية السرية في النشاط السياسي ، نشاطه الجنسي السري، صور بنات الهوى، خطابات غرامية جاءته من النساء، أو كتبها بخط يده دون أن يرسلها إلى واحدة منهن، أبيات شعر كتبها في الغزل والحب، عبارات مهذبة بريئة، وعبارات بذيئة يسمعها من أولاد الشوارع تطرب لها أذناه، ينتشي لها جسده. كانت البذاءة شيئا ضروريا للوصول إلى قمة اللذة، وكانت زوجته مهذبة مثل بنات العائلات. إن همس لها بكلمة بذيئة أثناء الجماع تمط شفتيها باشمئزاز، تسري في جسدها برودة من قمة الرأس حتى بطن القدمين، وإن ضغط عليها بكل جسده، أو نخسها بسكين في بطن قدمها أو ثنايا اللحم، لا تنتفض في كيانها خلية واحدة أو يطرف لها جفن.
Unknown page