Zaytuna Wa Sindiyana
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
Genres
تمهيد
1 - غربة في الوطن
2 - عناق خطوط الطول
3 - وطن في الغربة
4 - هكذا تكلم عبد الله
5 - هكذا يريدوننا
6 - حوار مع عادل قرشولي
7 - هكذا تكلم عبد الله
8 - قصائد مختارة
قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته
Unknown page
تمهيد
1 - غربة في الوطن
2 - عناق خطوط الطول
3 - وطن في الغربة
4 - هكذا تكلم عبد الله
5 - هكذا يريدوننا
6 - حوار مع عادل قرشولي
7 - هكذا تكلم عبد الله
8 - قصائد مختارة
قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته
Unknown page
الزيتونة والسنديانة
الزيتونة والسنديانة
مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا
تكلم عبد الله
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
(أ) زيتونة وسنديانة.
ربما كانت هذه الاستعارة هي أصدق وصف لحياة «عادل سليمان قرشولي»، وإنجازه الأدبي والثقافي، ورسالته التي كرس لها جهوده ووهبها وجوده، هذا الشاعر السوري الأصل الذي يعيش ويوجد نفسه يعامل ممنعمل ويعلم ويبدع، ويشارك مشاركة فعالة في الحياة الشعرية والثقافية في مدينة «ليبزيج» الألمانية منذ ما يقرب من أربعين عاما متصلة.
إنه شجرة زيتون في دمشق، وشجرة سنديان تضرب جذورها في ليبزيج، والشجرتان اللتان تتعانق أغصانهما وتتشابك في الضلوع، تلقيان ظلالهما الندية فوق مدينتين، وأدبين، ولغتين، وتراثين، وحضارتين، وتقيمان جسور المودة والحوار والتفاهم والتقارب بين شاطئين يبدو للنظرة الضيقة وحدها، كأنما لا يمكن أن يلتقيا أبدا، أو كأن لعنة «كولريدج» المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا» ستظل تلاحقهما بغير أمل في لقاء أو عناق. (ب) شجرة زيتون في أرض الطفولة، وشجرة سنديان في المهجر.
Unknown page
الأولى تمد جذورها في دمشق، في أعماق الطفولة، والحلم، والذكريات، والشوق.
والثانية تنشر ظلالها في «ليبزيج»، مدينة الكتب، والعلم والفكر، والموسيقى، والهواء الموبوء بدخان المصانع وغبار الفحم.
زوج مختلف مؤتلف معا في وجدان الشاعر الذي ما فتئ - على مدى أربعة عقود من الزمان - يزاوج بين القطبين الأخضرين، ويتسلق الجذعين الراسخين في صميم كيانه، ويبذل كل ما يستطيع لإتمام الزفاف بين الثلج ودفء الشمس، في محاولة دائبة لتحسس الطريق إلى «الآخر»، ورأب الصدع أو الشرخ الذي يباعد بينهما ويعذبه ويمزقه ليل نهار: «آه أيها الشوق، لا تخنق البراعم في الضلوع المتشعبة الغصون.»
والشوق يحمله لشجرة الزيتون العجفاء التي تسخو بالزيتون، وتختزن الشمس في عروقها وتحط على مرساتها الخضراء حمامة نوح، والشوق يحركه أيضا نحو شجرة السنديان التي يتقطر منها المطر المتواصل، وتصنع من أوراقها المتكاثفة سقفا لحبه الكبير.
1
ويبقى البلد البعيد - الذي تستقر فيه وفي أحلامه وذكريات طفولته عنه شجرة الزيتون - وشما على الجبين، تميمة حول الرقبة، نبيذا معتقا في الذاكرة، بل نفسا يتردد في الصدر، وصورة تمسك بها يداه عندما يتوه في أدغال المدن الغريبة، كما يمسك الطفل برداء أمه في زحام البازار.
2
وتناديه أصوات اللهفة والحنين من ذلك البلد البعيد، فيلهث داخل الشبكة الواسعة التي أحكم خيوطها البلد الآخر، وهو يتحسس الطريق إلى حضن الأم. ويظل البلد البعيد هو الوطن الذي تتشبث أشواقه وذكرياته بجذورها الضاربة في حواريه الضيقة، وأزقته المتعرجة وملاعب طفولته وصباه، وأيام شبابه الباكر بأحزانه وأفراحه وكفاحه في سبيل لقيمات خبز تملأ الجوف، ولقيمات من خبز الشعير الذي بدأ ينضج تحت شمسها. ويبقى البلد الأجنبي، الذي جاء إليه بإرادته الحرة وفوق جبينه أحلام خضراء، هو الوطن الذي استطاع - بعد الكد والمرارة، والتحدي والمعاناة في تخطي أسواره الشائكة - أن يرسخ فيه جذوره، ويستظل فيه بنعناعة حبه الذهبية الخضراء، وينتزع الإعجاب والاحترام والاعتراف والتكريم أيضا من الآخر العنيد المتصلب، الذي لم ينجح كل النجاح في تخطي أحكامه وتحيزاته المسبقة ضد الشرقي والعربي بوجه خاص.
مع ذلك يبقى الشرخ داخل الجذور، ويظل الجرح يصرخ من ألم الفصام بين الطرفين المتباعدين. ولا يجد الغريب في بلدين، والمواطن في وطنين في نهاية المطاف من سبيل أمامه إلا أن يسلك طريق «الإنسان الكلي» أو «الأديب الكوني» - إذا صح هذان التعبيران - الذي يثبت جذوره في مركز العالم وقلبه النابض، ويأخذ هذا العالم والإنسانية كلها بين جفونه في الصحو والمنام، ويعلو فوق الشروخ والصدوع والجروح ليطل على «الكل» من فوق شجرته الشعرية، أو على الأقل ليستظل بظلها الوارف وهو قرير العين مرتاح الضمير، بينما لسان حاله يقول: بلداي ووطناي الاثنان، نحن اقترنا بالزواج إلى أن يفصل الموت وحده بيننا، وها أنا ذا الآن هنا، بينكم ومعكم، ولن أتخلى عن نفسي أو عنكم، أو عن بلد جئتها وعلى جبيني أحلام خضراء.
3
Unknown page
وليس معنى هذا الكلام عن «الكل» و«العالم» أن شاعرنا قد أصبح - وبخاصة في إنتاجه المتأخر - كوزموبوليتانيا (مواطنا عالميا) فاقد الجذور، أو إنسانا معلقا في الفراغ كما افترض ابن سينا. إنه يحب «الشجرة التي تسكنها العصافير» - أي السنديانة - في شتاء ليبزيج، مثلما يحب النسمة المنعشة في أمسيات دمشق تحت ظل شجرة الزيتون. ودمشق لا تغيب أبدا عن باله، فهو يحمل على لسانه وفي مسام جسده وروحه طعم طفولته في شوارعها وحاراتها و«غوطتها»، كما يحمل غبار أزقتها الضيقة، المتمسكة بجدائل الجبل الهرم، على نعل حذائه، وهو حين يزورها زيارة قصيرة للمشاركة في ندوة ثقافية أو مهرجان مسرحي يؤرقه ويهتف به الحنين إلى سنديانة ليبزيج التي تقاوم الشتاء، أو إلى النعناعة الخضراء الذهبية التي تنتظر أن تظله بظلها الحنون. وأي غرابة في هذا وهو الذي يتمسك بجذور هويته لا يفرط فيها لحظة، كما يتشبث بالجذور التي مدها في تربة الحضارة المكتسبة واللغة والأدب اللذين وجد فيهما السكن والوطن؟ أليس «الجسر» أيضا - إلى جانب الزيتونة والسنديانة - استعارة معبرة عن معنى حياته، ومغزى إبداعه المتواصل إلى اليوم؟! (ج) أجل، لقد استقر في وعي الشاعر - منذ وطئت قدماه أرض «ليبزيج» في أوائل الستينيات للدراسة بها - استقر فيه أنه وسيط بين ثقافتين، وجسر ممدود بين مدينتين ولغتين وأدبين وعالمين. ربما عذبه هذا الوعي، وما يزال يعذبه، لكنه يتحمل قدره وعبئه بجدارة وكبرياء، كما يتذوق في نفس الوقت بهجته ومتعته الممزوجة في كثير من الأحيان بالألم والعناء. ومنذ أن كتب أول قصيدة «عربية» في حياته وهو في الخامسة عشرة من عمره، حتى كتابته لقصائد «هكذا تكلم عبد الله» (1995م)، ومنذ أن كان أصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب العرب بدمشق في منتصف الخمسينيات، إلى أن انتخب رئيسا لفرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج بعد إعلان الوحدة الألمانية بين الشطرين السابقين، ومنذ أن هرب من بلده بعد إغلاق اتحاد الكتاب، وصدور أمر باعتقاله حتى استقراره في ليبزيج سنة 1961م، ثم حصوله على جائزة الفن التي قدمتها له سنة 1985م، وعلى جائزة «أدالبير فون شاميسو» - التي تمنح لأفضل كاتب بالألمانية من أصل أجنبي - من الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة (1992م)، منذ هذه المحطات الفاصلة بين عهدين ومفرقي طرق حاسمين، وحياة الشاعر - الذي دخل العقد السابع من عمره قبل خمس سنوات - تسير على إيقاعها المألوف الغني بالصدق والإخلاص والرضا بالإنجاز المتحقق، والأمل في المزيد من الجهد لاستكمال بناء الجسور، التي يكافح منذ الستينيات لمدها بين الشاطئين. صحيح أن هذه الحياة لم تخل أبدا من التوتر الذي يعانيه كل من يعيش على الحدود الفاصلة بين عالمين، بل يعيش في الصدع أو الجرح الفاصل بين حدودهما، لكن هذه التجربة الأساسية هي مصدر وحيه، ومنبع عذابه وسعادته أيضا، وهي التي جعلته يصف نفسه أحيانا بأنه زيتونة وسنديانة متعانقتان في ضلوعه، وأحيانا أخرى بأنه جسر «يتحرك تحت نور الحب، ويمتد من خط طول إلى خط طول»،
4
وأحيانا ثالثة بأنه كالراقص على الحبل بين هنا وهناك، بين هذا وذاك ولا هذا ولا ذاك، بين وطن عانى فيه الغربة، وغربة وجد فيها وطنا، أو بالأحرى موطنا للغريب. (د) من الشعراء من يكتب الشعر، ومنهم من يكتبهم الشعر. وإذا كان عبقري الشعر الفرنسي رامبو يقول: «أنا لا أكتب، وإنما أكتب (بصيغة المبني للمجهول).» وكان عبقري الشعر الإيطالي «أنجاريتي» قد نشر أعماله الشعرية والنثرية الكاملة، تحت هذا العنوان الدال: «حياة إنسان». فإلى أي حد يمكن أن نلتمس سيرة حياة الشعراء بين سطور قصائدهم؟ هل يمكن ببساطة أن نتتبع حياة الشاعر من تتبعنا لمراحل تطور شعره بالعربية والألمانية؟
5
الأمر بطبيعة الحال أعقد مما نقول ونتصور، والفن - والشعر بوجه خاص - من الرهافة والدقة والصعوبة والخفاء، بحيث يتعذر أن يكون مجرد مرآة عاكسة لحياة صاحبها بصورة مباشرة، ومع ذلك فقد اعتمدت في هذا الكتاب، الذي أعتبره مجرد مدخل متواضع إلى حياة عادل قرشولي وشعره، اعتمدت في المقام الأول على شعره المكتوب بالألمانية، واستقرأت من نصوصه مراحل تطور فكره واتساع آفاق رؤيته وشمول نظرته - لا سيما في آخر دواوينه - إلى ماهية الشعر والعالم والإنسان، وكذلك ماهية «الرسالة أو المهمة» التي حمل عبئها، كما سبق أن قلت، بجدارة وكبرياء، ولذة ومتعة لم تنج من التوتر والقلق والعذاب، لتصل في النهاية - وهذا هو حدسي ورجائي - إلى الطمأنينة والرضا بالتحقق والنضوج.
لقد بدأ في كتابة شعره بالألمانية في مطلع الستينيات، بعد رحلة مضنية وشاقة في بحور اللغة الألمانية، وتعمق لا نظير له في دروب أدبها السفلية والعلوية، وفي نصوص أدبائها وشعرائها القدامى والمحدثين والمعاصرين. أحس منذ أن بدأ دراسته في ليبزيج أنه دخل معركة تحد وإثبات للذات الفردية والجماعية، وأن عليه أن يكسبها وينتصر فيها مهما كان الثمن، كما شعر، منذ ذلك الحين، بأنه قد فقد ظله الذي لازمه منذ مولده عندما فقد المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه بشعره، واكتشف أن فقدان اللغة معناه أن يعيش بغير ظل ولا هوية. ولكيلا تصل أزمة الهوية إلى أقصى حدودها، وجد نفسه مضطرا للكتابة باللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من حوله، أي وجد نفسه أمام أحد اختيارين لا بديل عنهما:
إما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة المكتسبة والجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه في قبر الصمت. واختار الأول بطبيعة الحال حتى يؤكد لنفسه أنه لم يفقد ظله ولا هويته؛ أي إنه حي وفعال ومشارك. وبعد أن خاطب الآخر بلغته، وانتزع منه الاعتراف والإعجاب، بل والانبهار بشعره الذي قدمه وقرأه عليه في البداية (وتمثله قصائد مجموعته الأولى «كحرير من دمشق» التي ترجمت في معظمها عن قصائد عربية أو بمعنى أدق أعيد إبداعها في الألمانية بمساعدة بعض أصدقائه من الشعراء المقربين إليه)، بعد ذلك لم يشعر بالارتياح لذلك الإعجاب والانبهار، وتأكد له أنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الصور والأخيلة المنسوجة بخيوط عربية أو شرقية؛ أي إنه يختزل إلى ما هو عجيب وغريب ومثير وطريف . وكان أن تحول بعد ذلك إلى التعبير بنفسه عن نفسه، والتخلص من تأثير من تأثر بهم في تلك المرحلة من شعراء كلاسيكيين أو معاصرين، وبالأخص بريشت، أو من خاصة أصدقائه الذين جذبوه معهم إلى موجة الشعر الجديد، أو الموجة السكسونية في مطالع الستينيات، وكانوا من روادها وفرسانها الجسورين.
6
والكتاب يتابع هذه التحولات بقدر الطاقة من خلال النصوص الشعرية نفسها، ويرصد اتجاه القصيدة إلى مخاطبة الذات ومناجاتها، بعد استبعاد المخاطب القديم، وتجاوز التحدي والصراع المرير مع الآخر، ومع ظروف الحياة اليومية المحبطة، وذلك في إطار رؤية يمكن - إذا صح التعبير - أن توصف بأنها رؤية صوفية أرضية، وربما استطعنا أن نقول باختصار: إن القصيدة في مرحلتها الأخيرة قد تخلت عن طابع الدعوة والنداء والتبشير الذي ميز عددا كبيرا منها في البداية (مع الإيمان الراسخ للشاعر ولجيله، سواء في عالمنا العربي أو في قسم كبير من العالم الغربي في الستينيات بأن الكلمة فعل، وأن كلمة الشاعر يمكن وينبغي أن تغير العالم) كما تخلت عن جدليتها المعرفية إلى جدلية الصورة التي أضافت الجمالية إلى العقلانية. ونستطيع أن نقول على الإجمال إن هذا الشعر في تحولاته المختلفة قد حافظ على طابعه الجدلي، بل إن صورة المثلث الجدلي المشهور تكاد تغريني بتطبيقها على تطوره المتصل؛ فالضلع الأول من هذا المثلث الشعري يقدم الموضوع الممتلئ بالحنين للوطن وبتجارب الغربة المؤلمة (كحرير من دمشق)، والضلع الثاني يقدم الموضوع ونقيضه في صراعهما وتوترهما بين ضدين أو نقيضين يمثلان عالمين وثقافتين، كما يصور عذاب الذات الشاعرة ومحاولاتها الدائبة لنصب الجسور بينهما (عناق خطوط الطول، وطن في الغربة)، أما في المرحلة الثالثة والأخيرة فيتخلق مركب جديد يصالح بين الضدين من خلال الروح الفلسفية والرؤية التأملية والصوفية، التي لا نبالغ إذا قلنا إنها وصلت إلى جوهر الشعر أو الشعر الخالص، أو روح الشعر التي لا تخضع للمقاييس التقليدية، ولا تندرج تحت الأطر الفنية المعتادة؛ لأن الشاعر هنا لا يصدر إلا عن ذاته، ولا يتجه إلا إلى ذاته، ولأنه يتدفق من نبع داخلي خاص وكلي في الوقت نفسه، فيلتقي بالإنسان في كل مكان وزمان
7 (راجع قصائد «هكذا تكلم عبد الله» التي تجدها بين يديك في هذا الكتاب). (ه) لم يقتصر إبداع عادل قرشولي على الشعر الذي عاش له، واحتل نقطة المركز من دائرة حياته وعطائه. فهو كاتب مقال سياسي، وناقد أدبي، وباحث مسرحي معروف بدراساته عن مسرح بريشت بخاصة وآفاق تلقيه في العالم العربي، ومحاور قدير تتسم محاوراته التي يزخر بها العديد من الصحف والمجلات الألمانية والعربية بالموضوعية والدقة والعمق، ومترجم أمين، من اللغتين وإليهما، لعدد كبير من المسرحيات والقصائد لكتاب وشعراء معاصرين ومرموقين، فضلا عن همه واهتمامه الدائم بالأحداث والقضايا العربية، ومبادرته لتعرية الخداع والتزييف الإعلامي الذي أحاط وما يزال يحيط ب «سيناريو» حرب الخليج والعدوان المتجدد لدولة الإرهاب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب، وموجات العداء للأجانب في ألمانيا، ودفاعه عن الحق والحقيقة في مواجهة الأحكام المغرضة والتحيزات المسبقة التي تروجها أجهزة إعلامية كاسحة ومتآمرة وموجهة ضد العرب والمسلمين بوجه عام (راجع الفصل الأخير من هذا الكتاب). ولما كانت القائمة المختصرة بأهم مؤلفاته ودراساته الواردة في ختام الكتاب ستلقي بعض الضوء على هذه الجهود المتميزة والمشرفة، فلا بأس من ذكر طرف منها في هذا التمهيد السريع.
Unknown page
نشر الشاعر حتى الآن ديوانين بالعربية (موال في الغربة 1967م، والخروج من الذات الأحادية 1985م)، وخمسة دواوين بالألمانية (كحرير من دمشق 1968م، وعناق خطوط الطول 1978م، وموطن في الغربة 1984م، ولو لم تكن دمشق - ويضم مختارات من دواوينه السابقة - 1992-1993م، وهكذا تكلم عبد الله 1995م). والجدير بالذكر أن بعض قصائده المختارة قد نشرت مع قصائد لكبار الشعراء من ألمانيا الشرقية السابقة، في أكثر من خمس عشرة مجموعة منتخبة (أو أنثولوجيا)، أصدرتها دور نشر ألمانية مختلفة قبل الوحدة وبعدها، بجانب مجموعة أخرى منتخبة من الشعر الألماني المعاصر ظهرت بالإنجليزية في عددي شهري أكتوبر ونوفمبر سنة 1998م، من مجلة شعر الأمريكية.
8
أما عن ترجمة الشعر، فقد نقل إلى الألمانية عددا كبيرا من القصائد - التي لم يبلغ إلى علمي أنها نشرت في كتاب - لمجموعة من الشعراء العرب المتميزين؛ من أهمهم: أدونيس، ومحمود درويش، وسميح القاسم وغيرهم، كما ترجم إلى العربية قصائد رائعة لأستاذه وراعيه جورج ماورر، نشرها مع مقدمة طويلة عن شخص «ماورر» وشعره، تحت عنوان إحدى القصائد الملحمية المطولة للشاعر «ما هو خاص بنا» (1981م)، كما نقل إلى العربية أيضا مجموعة من قصائد بعض أصدقائه وزملائه في الدراسة - ولم يبلغ إلى علمي أيضا أنها نشرت في كتاب - ومن أهمهم: صديقه الشاعر «فولكر براون»، الذي نقل له كذلك إلى العربية مسرحيته الشعرية «تشي جيفارا أو مدينة الشمس» 1986م.
ونأتي إلى حقل المسرح ودراساته وترجماته فيه، فنذكر في البداية أن أطروحته الجامعية للدكتوراه - التي حصل عليها في سنة 1970م - كانت عن مسرحية «بريشت» التعليمية «الاستثناء والقاعدة» وصور استقبالها أو تلقيها في العالم العربي، مع مناقشة للجوانب المختلفة من سوء الفهم، وسوء التفسير لمنهج «بريشت» ونظريته عن المسرح الملحمي (أو بالأحرى السردي)، وقد شاءت الصدفة التاريخية وحدها أن يكون كاتب هذه السطور هو أول من ترجم إلى العربية نصا مسرحيا لبريشت (وإن كان قد سبقه غيره إلى الكتابة عن بريشت، راجع مقدمة الطبعة الثانية لكتابي «قصائد من بريشت»، القاهرة، دار شرقيات، 1999م). وأن يكون هذا النص الأول هو تلك المسرحية نفسها التي نقلتها - قبل أن يتاح لي التعمق في الألمانية - عن الفرنسية، ونشرت في مجلة «الهدف» سنة 1957م، قبل أن تصدر مع مسرحيته الأخرى التعليمية «محاكمة لوكوللوس» سنة 1966م عن سلسلة المسرح العالمي التي كانت تصدر في القاهرة. ومع أنه لم يقدر لي الاطلاع على هذه الأطروحة، فقد عرفت لأول مرة من فم الشاعر نفسه - عندما تشرفت بلقائه وصحبته في القاهرة في شهري يناير وفبراير من هذا العام - أن ترجمتي المتواضعة لم تكن هي الترجمة العربية الوحيدة، ولا كانت كذلك ترجماتي التالية لعدد كبير من قصائد «بريشت» ومسرحياته الطويلة والقصيرة. والأهم من كل هذا أن الشاعر قد توفر بعد ذلك على دراسة الموضوع نفسه، وتوسع فيه، حتى أصدر بحثه الهام بالألمانية عن «بريشت» في المنظور العربي، وهو الذي نشره له مركز دراسات بريشت في برلين سنة 1982م، كما ترجم إلى العربية في نفس الوقت على وجه التقريب أربع مسرحيات للكاتب والشاعر الشهير، وهي: «أوبرا، ازدهار، وانهيار مدينة مهاجوني» (التي شاءت الصدفة - مرة أخرى ودون علم مني بسبق ترجمتها - أن ترجمتها ترجمة شعرية في سنة 1990م، وأن تصدر قبل عامين ضمن مطبوعات المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة)، و«قائل نعم وقائل لا»،
9
و«دانزين»، و«ثمن الحديد».
وقد أجرى الشاعر مجموعة من الحوارات الهامة والشاملة عن بريشت، والبريشتية، والمسرح الملحمي وبريشت في المرآة العربية في عدد من المجلات العربية المخصصة للثقافة المسرحية مثل: مجلة الحياة المسرحية (السورية، 1980-1981م)، ومجلة فضاءات مسرحية (التونسية، 1986م)، والعالم الثقافي (المغربية، 1994م)، وذلك مع السيد مصطفى عبود، والسيدة خيرة الشيباني، والدكتور عبد الرحمن بن زيدان.
ويطيب لي أخيرا أن أذكر أن الشاعر قد ترجم إلى الألمانية - بالاشتراك مع زوجته المستعربة الفاضلة السيدة ريجينا قرشولي - مجموعة من المسرحيات العربية، لنخبة من الكتاب والشعراء العرب، وهي مجموعة نتمنى أن تظهر في أقرب وقت في سوق الكتاب الألماني، وفوق خشبة المسارح في المدن الأوروبية المختلفة، وهذه هي المسرحيات مع تواريخ ترجمتها: رأس المملوك جابر، لسعد الله ونوس (1973م)، وعلي جناح التبريزي وتابعه قفة، لألفريد فرج (1976م)، والمفتاح ليوسف العاني، والعصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، لمعين بسيسو (1979م)، ومؤسسة الجنون، لسميح القاسم (1979م)، وديوان الزنج، لعز الدين المدني، والرفيق سمعان، لجلال خوري، وأهل الكهف 74، لمحمود دياب، وعلى رصيف المقاومة، لحمدة خميس (1979م).
ولا بد من القول في الختام: إن محاوراته ومساهماته بالخطب والمقالات والدراسات، في الصحف والمجلات والحوليات والمؤتمرات والكتب والإصدارات التذكارية - لا سيما عن بريشت وجورج ماورر - أكثر من أن تحصى، ومن شاء أن يطلع على البيبليوجرافيا الوافية، حتى سنة 1999م، عن مؤلفاته وترجماته ومقالاته وحواراته، فليرجع إلى الأطروحة الجامعية التي كتبتها عن حياته وأعماله السيدة «فريدريكه هيندلر»، وقدمتها إلى جامعة دريسدن (من ص89-105). ويشرفني أن أشيد بفضلها ، وأن أقول إنني قد أفدت منها فائدة لا تقدر، وذلك بصرف النظر عن اهتمامها الأساسي بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاش الشاعر في ظلها وبعدها - إلا فيما ندر - عن تحليل النصوص وتفسيرها.
10 (و) رأينا كيف كافح عادل قرشولي طوال العقود الثلاثة التي سبقت قيام الوحدة الألمانية في سبيل أن يغرس جذوره، ويمد جسوره في اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، بحيث أصبحت وطنه وسكنه، وشعر وهو يشارك فيها ويبدع بها أنه يعيش في بيته. لم يخطر على باله أبدا أن ينسب إبداعه إلى الأدب الذي يسمى بأدب المهاجرين أو اللاجئين أو أدب العمال الأجانب. فلما تحققت الوحدة بين الشطرين، وبدأ البحث العلمي في الاهتمام الجاد بأدب المهاجرين، نشب الخلاف حول إنتاجه: هل ينتمي إلى هذا الأدب الأخير كما رأى معظم النقاد والباحثين من ألمانيا الغربية، أم هو جزء لا يتجزأ من الأدب الألماني الذي نشأ في ظل الحكم الاشتراكي في ألمانيا الديمقراطية السابقة؟ وأثار موقف أولئك الباحثين غضب الشاعر وسخطه، إذ وجد أنهم لم يهتموا إلا بجانب واحد من إنتاجه الشديد التنوع، وأنهم أغفلوا الاعتراف به، والحفاوة التي لقيها في ألمانيا الشرقية السابقة كشاعر وعضو فعال في اتحاد الكتاب بها، منذ الثمانينيات، إغفالا تاما، مع أنه لم يصنف نفسه ولا صنفه أي ناقد في تلك الفترة الطويلة داخل دائرة أدب المهاجرين أو أدب الأجانب، كما أنه اعتبر نفسه واعتبره الجميع عضوا بارزا في جسد الحركة الشعرية والنقدية في ذلك البلد الذي سمى نفسه «البلد الأفضل». ولا يقلل من هذه الأهمية أن أصله الأجنبي قد لعب دورا لا يستهان به في إنتاجه الشعري الذي يدور حول الغربة في الوطن أو حول الوطن في الغربة، وأن اسمه لم يذكر مرة واحدة - كما تقول الباحثة السابقة الذكر في أطروحتها (ص121) - في أي معجم أدبي أو تاريخي للأدب القومي نشر في ذلك البلد الأفضل.
Unknown page
والواقع أن تصنيف الأديب و«إدراجه» في خانة محددة لا يخرج عنها لا يمكن أن يجلب معه إلا الظلم له ولأدبه. وأحسب أن الحقيقة التاريخية والموضوعية تقول بأفصح لسان وأوضح بيان: إن المعول في كل الأحوال على قيمة الأدب نفسه بما هو أدب؛ فالأدب هو الأدب. والأدب الجيد هو الذي يبقى، ولا ضير عليه أن يوصف بأنه أدب أجانب أو بأنه جزء من الأدب القومي. وأعتقد أن هذا يصدق على كتابات عدد لا حصر له من المهاجرين الأجانب، بلغات أخرى ليست هي لغتهم الأم، لا سيما باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وأعتقد أيضا أن إعجاب القراء بالشعر الذي نشر له، وأعيد طبعه أكثر من مرة في مدينة ميونيخ بعد إتمام الوحدة الألمانية «مثل ديوانيه: لو لم تكن دمشق (1992م)، وهكذا تكلم عبد الله (1995م)، اللذين أصدرتهما دار نشر أكسيون آيس» هو الدليل الواضح على الاهتمام بالشعر الصادق في ذاته، بغض النظر عن اسم صاحبه، أو اسم البلد، أو خط الطول الذي جاء منه. •••
لقد ظل زملاؤه وأصدقاؤه في فرع اتحاد الكتاب بمنطقة ليبزيج - طوال العقود الثلاثة السابقة لقيام الوحدة الألمانية - يعتبرونه واحدا منهم. ولم يكن تعبيره الشعري - بصوره الشرقية والعربية المذهلة - هو وحده مصدر إعجابهم به، بل إيمانه القوي الصادق بالتكامل الإنساني والوحدة الجوهرية التي تجمع شتى الثقافات والحضارات والبشر، إلى جانب اعتزازه بأنه مواطن في ثقافتين وحضارتين، وتمسكه الدائم بهويته السورية والعربية. وعندي أن إنتاجه الشعري والنثري بالألمانية هو جزء لا يتجزأ من مجموع الإنتاج الأدبي في ألمانيا الشرقية السابقة، بشرط أن نفهم من هذا أنه ينتمي لأدب الناقدين والمحتجين، لا أدب المجارين والممالئين الذين يؤثرون السلامة، فيصمتون أو يقولون آمين (راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب). (ز) تنوعت ألوان التكريم وصور الثناء على إبداع شاعرنا، ودوره الأدبي والثقافي بوصفه «وسيطا» وبناء للجسور. ويكفي أن نتذكر التقرير الذي كتبه راعيه الطيب «ماورر» في مطالع الستينيات عن شعره المبكر، وقال فيه: «إن لغته غنية بالصور المذهلة التي تشبه باقة زهور طازجة، قطفت من فورها.»
ويمكننا أن نذكر عشرات التعليقات النقدية على دواوينه وبحوثه، والإشكالات المرتبطة بحياته وإنتاجه (كالكتابة بلغتين والانتماء لثقافتين وتراثين)، بالإضافة إلى «الوثائق» المتعلقة بحصوله على جائزة الفن التي قدمتها له مدينة ليبزيج في سنة 1985م، وجائزة «أدالبير فون شاميسو» التي منحتها له الأكاديمية البافارية للفنون (1992م)، وإلى «الشهادات» التي أدلى بها بعض أصدقائه - الذين يعدون اليوم من كبار الشعراء - سواء في تقييمهم لأحد كتبه، أو غداة ترشيحه لعضوية فرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج «قبل انتخابه منذ سنتين بالإجماع رئيسا له»، أو لإحدى الجوائز السابقة.
لنقرأ معا هذه السطور من «الوثيقة» التي تليت أمام جمع حاشد من المثقفين، قبل تسليمه الجائزة البافارية في مدينة ميونيخ: «إن شعر - المحتفى به - يجمع بطريقة موفقة وبارعة بين الشرق والغرب في صور مألوفة وغير مألوفة، ومقالاته رؤى نقدية نافذة لعالم يزداد على الدوام اضطرابا، ويهدد فيه الفرد بالضياع. وأعماله تنطق بالكمال الشكلي والغنى الفكري الذي يميز الشاعر الحقيقي، كما تعبر أيضا عن حكمة مواطن عالمي.»
ولعل أروع شهادة قدمت عنه في معرض الحديث عن ديوانه الأخير «هكذا تكلم عبد الله» وبمناسبة عيد ميلاده الستين، هي التي عبر عنها بحب وصدق نادر صديقه الشاعر الشاب توماس بيمه: «إن قرشولي يقول لنا بغير ادعاء، ولكن بإصرار: انظروا كم هي جميلة لغتكم التي أصبحت لغتي، وهو يخجل كل الذين فقدوا ثقتهم بألمانيتهم، ولم يعودوا يستخرجون منها ما تحتوي عليه من غنى وجمال. إن هذا العمل (أي الديوان السابق الذكر) هو صدفة سعيدة للأدب، وهبة من ربات الفن التي لا تمنح رجلا تخطى نصف عمره كل هذه الطاقة الإبداعية، إلا فيما ندر.»
وربما كانت الشهادة التالية التي تهز الوجدان بحق، وتملأ قلب العربي بالغبطة والرضا والفخار، هي تلك التي قدمها له صديقه الصدوق ورفيق رحلته الشعرية منذ أن تزاملا في معهد الأدب الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الشاعر فولكر براون في اللؤلؤة الصافية التي تشع أضواؤها وظلالها في هذه الأبيات:
11
شجرة زيتون ودود، ناصعة،
بجانب شجرة السنديان العجفاء
الجذور من مكان بعيد بعيد،
Unknown page
لكن الغصون الكثيفة تتعانق في الريح. •••
أنت، أيها الشاعر، بين الألمان
مواطن في الغربة،
ونحن الألمان نشعر معك
بأننا لم نعد غرباء في الوطن. (ح) ويبقى عادل قرشولي - مع نخبة من أدبائنا العرب الذين يعيشون في لندن وباريس، ويكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية - ظاهرة فريدة في المشهر الأدبي والثقافي العام في ألمانيا وأوروبا والعالم العربي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة لمشكلة انتماء إنتاجه للأدب الألماني المحلي أو القومي، أو أدب المهاجرين والأجانب، وأجبنا على هذه المشكلة، أو بالأحرى شبه المشكلة؛ بإيماننا الحاسم بأدبية الأدب وإنسانيته وشموله وعالميته. ويبدو أن المسألة لم تحسم بمثل هذه السهولة عند شاعرنا العربي-الألماني؛ إذ جعلته يخوض صراعا طويلا، ويدخل في تحد قاس ومرير ل «الآخر» وثقافته حتى استطاع أن يحقق في ذاته الشعرية والإنسانية ذلك «العناق» الذي عنون به واحدة من أهم دواوينه: «عناق خطوط الطول 1978م»، وأن يجعل من شخصه وشعره جسرا عربيا حيا ممدودا نحو «الآخر العربي» بالمحبة والسلام والمروءة والحقيقة، على الرغم من كل شيء، على الرغم من الحملات الدعائية الضارية، والحصار الإعلامي الغربي الزائف والمزيف ليل نهار، وتسليط ربيبته دولة الإرهاب إسرائيل على إخوتنا وأبنائنا في الأرض السليبة، وعلى وجودنا ومستقبلنا كله.
يقول شاعرنا في أحد الحوارات التي أجريت معه: «كانت الألمانية بالنسبة لي لغة مصطنعة أو مكتسبة، وأنا أميل أحيانا لوصف قراري بكتابة القصائد بالألمانية بأنه كان قرارا طائشا، ومع ذلك فقد كان قرارا قدريا لا مفر منه. لقد عرفت من سيرة حياتي أن دوري هو دور الوسيط. وإذا كان للأدب أن يؤدي دور الوسيط، فلن يمكنه أن يفعل ذلك إلا بالاتجاه من الداخل للخارج، وبالنظر إليه في كليته لا من جهة كونه دعوة أو نداء، أو تحريضا على تبني قضية معينة.» ثم يطل على رحلة حياته وكفاحه ويقلب بين يديه حصادها الناضج، فيقول في حديثه الهام مع السيدة ليلى حوراني (بجريدة السفير، في يوم الجمعة الرابع عشر من شهر يوليو عام 2000م): «أنا شخصيا لم أعد أخاف الآخر؛ لأنني رأيت أنني قبلت بتحديه، وتمكنت على صعيد شخصي من أن أواجهه، بل وأن أكسب هذا التحدي في مجالات كثيرة. إذا عممت تجربتي في هذه المساحة، أقول: ليس علينا أن نخاف الآخر؛ لأنني على ثقة بأن لدينا من التراكمات الإبداعية ما يمكن أن يصمد لعملية التنافس مع الآخر. نعم لو لم يكن إبداعنا محاصرا على كل الأصعدة، لكنا استطعنا أن ندخل بدون خجل ساحة المنافسة العالمية.»
والكلام - كما يقال - لا يحتاج لتعليق. إنه يجسد ويؤكد وجود ذلك «الحاضر/الغائب» الذي لم نكن في يوم من الأيام أشد حاجة إليه منا في هذا الوقت الذي تسحقنا فيه طاحونة تواطؤ الآخر مع ربيبته العدوانية، وتجاهله وصمته المريب، ذلك هو الثقة بأنفسنا. (ط) من طبع الشعراء، والممسوسين بإلهام من ربات الفن ألا يرضوا عن أنفسهم. أحيانا ينظر الواحد منهم وراءه «بغير غضب»، وربما بشيء من الرضا أو الغبطة بنجاح حققه أو إنجاز أتمه. لكن الصوت لا يلبث أن يناديه ويؤرق سكون لياليه حتى آخر نفس في صدره «لا لم تحقق حتى الآن ما كنت تحلم به وتتمناه» هذا شيء طبيعي ومألوف يجربه كل من أصابته لعنة الفن والإبداع، أو بالأحرى نعمته. ومع أن ذلك الصوت لا يتوقف أبدا عن فتح الجروح وكي الجلد والروح، فإنني أعتقد أن من حق شاعرنا - ومن حقنا أيضا معه - أن ينظر إلى الوراء وإلى الإمام - بعد طول المشقة والعناء، وبالرغم من كل العقبات والمرارات - بقدر غير قليل من الطمأنينة والرضا، ومن الامتنان والحمد والعرفان بعد كل شيء. وها هو ذا اليوم يتحسس بيده - أو بيد حكيمه العاقل الملهم عبد الله - نبض الكون الذي يخربه الظلم، ويفترسه التعصب، يصرخ مع المعذبين والمضطهدين، ويهمس مع العشاق والمحبين، وينشر سجادة كلماته على طريق الأمل، ويدق بإصرار على أبواب الحقيقة، منتظرا في صبر وبلا يأس أن يرد عليه صوت واحد، يقول له: ادخل! لو تردد يوما هذا الصوت في سمعه، لو أحس بنبضه يسري في دمه وجلده وعظمه، هل سيكون في الوجود من هو أسعد منه؟ أليست هذه الدعوة إلى رحاب الحقيقة هي الجزاء الأوفى عن ليالي الأرق ، والقبلة الدافئة فوق الجبين المرهق والعيون المتعبة، والبلسم الشافي للجروح التي لا تنفك تفتحها سكين البحث عن مقطع له رنين الإيقاع الحلو، أو عن كلمة يفوح منها عطر الحقيقة والصدق؟ (راجع قصيدة عزاء للذات، من ديوانه «عناق خطوط الطول»، 1978م، ص20.) (ي) وأخيرا يكفيه أن يهتف به نداء الحقيقة قائلا: طوبى لك ولشعرك! أديت وظيفة الفن والفكر والشعر الجوهرية، فكنت خير وسيط عدل ونعم الجسر المشرف. واستطعت - كما يقول صديقك الروائي هيدوتشيك
12 - أن تحمي نفسك من الشرين الخطرين: من التكيف مع ثقافة الآخر إلى حد الذوبان والتشوه وضياع الهوية، ومن التصلب على تراثك الخاص إلى حد التقوقع والتمزق واليأس. إنك استطعت أن تتحدى وتواجه وتصمد، ثم تحلق بجناحي طائرك الشعري، وتشدو بغناء العالم والأرض والإنسان. وبذلك استحقت شجرتك الشعرية أن تكون - كما جاء في فاوست - هي شجرة الحياة الذهبية الخضراء قبل أن تكون شجرة زيتون أو شجرة سنديان. واستحق شخصك وشعرك أن يقفا في نفس الصف الذي تقف فيه «جسور» أخرى مباركة، وسفراء مشرفون لحضارتنا وثقافتنا وكرامتنا وعدالة قضايانا؛ مثل: نجيب محفوظ، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، وفاروق الباز، ومحمد غنيم، ورمزي يسى، وغيرهم من عشرات، وربما مئات، النابغين العرب المنتشرين بأدبهم وعلمهم وفنهم في مدن الآخر وجامعاته ومكتباته، ينتزعون منه الاحترام والتقدير والإعجاب، ويخترقون حواجز التحيز والتعالي والتجاهل التي يتمترس وراءها، في مناطق مهمة، ويفرضون عليه - في غابة عالمنا الذي تدوي فيه طبول القوة ووحوشها - أن يعيد النظر في مواقفه المتجنية علينا، كما اضطر أن يفعل مع بلاد أخرى في الشرق الأقصى، والبعيد استطاعت أن تفرض عليه احترامها. (ك) وأكرر في النهاية أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون مجرد مدخل أولي إلى حياة شاعرنا وإنتاجه الزاخر، ودوره المرموق في مد الجسور والجذور، ومواجهة جدران الجهل والتجاهل والصلف والغرور بما فطرنا عليه من الصبر والتسامح، والشجاعة والحكمة، والثقة التي تشتد حاجتنا إليها اليوم أكثر من أي وقت آخر في تاريخنا القديم والوسيط والحديث. والكتاب في النهاية تحية حب وتقدير وعرفان بقلم واحد من أحباب الشاعر وأصدقائه وعارفي فضله الذين يعيشون في العالم العربي وعلى ضفاف النيل.
القاهرة في أبريل 2001م
عبد الغفار مكاوي
Unknown page
الفصل الأول
غربة في الوطن
(أ) لم يبدأ كتابة الشعر في المهجر أو المنفى أو الموطن الجديد الذي راح يبحث فيه عن وطن؛ فقد عرف في وطنه السوري كشاعر واعد، وصحفي مناضل، وأصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب، الذي اتسم في أواخر الخمسينيات بالتوجه الاشتراكي والتقدمي.
رأت عيناه النور في دمشق في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر، سنة 1936م لأسرة كردية ميسورة الحال، تتألف من الأم والأب صاحب الضيعة - سليمان قره شولي - وسبعة إخوة وأخوات. كان في الخامسة عشرة من عمره، عندما بدأ كتابة الشعر، وكانت أول قصيدة بطبيعة الحال قصيدة حب. وتوالت بالفصحى والعامية السورية قصائده التي نلمس في بعض ما ترجمه منها إلى الألمانية، في أول دواوينه بهذه اللغة، وهو «كحرير من دمشق» 1968م، تأثره الشديد بالتراث الشعبي العربي، وارتباطه القوي بالطبيعة، وموهبته الفطرية في التفكير بالصورة الفنية الموحية، وتشخيص الجمادات والمعنويات: «تحت الصفصاف وفوق الأحجار، يمشي سالم السلمان، جبهته سمراء كالسنبلة الناضجة، يلمع في عينيه فرح الشموس، وصفاء الأقمار يطوف على شفتيه.»
1 (ب) تأكدت له فطرته الشعرية، وتملك الأدب حياته ووجدانه، وبدأ يزوغ من المدرسة ويتردد على المكتبات العامة. وفي كتيب بديع عن رامبو، ربما يكون هو الذي صدر في الخمسينيات في سلسلة «اقرأ»، التي كانت تنشرها دار المعارف عن هذا الصعلوك الفرنسي العبقري، لفت نظره عبارة تقول: «من العبث أن نبلي سراويلنا على مقاعد المدرسة.» وكان أن ترك بالفعل المدرسة الثانوية، وهو ما يزال في الصف السابع، وباع كتب المدرسة؛ ليشتري بثمنها كتبا من روائع الأدب العالمي. بل لقد أسس وهو في السادسة عشرة من عمره مع بعض زملائه التقدميين صحيفة صودرت على الفور بعد ظهور أول أعدادها؛ بسبب هجومها الناري على الحكومة، ثم أخذ يعمل من سنة 1952م حتى سنة 1958م، في صحف سورية مختلفة، ويشرف على برنامج الطلبة في إذاعة دمشق، ويتصل بعدد كبير من أدباء بلاده ومثقفيها اليساريين، ويواصل كتابة قصائده التي نشر بعضها في بيروت والقاهرة، مثل قصيدته عن المجاهدة الجزائرية «جميلة بوحريد»، التي ظهرت في كتاب ضم قصائد أخرى لعدد من كبار الشعراء، مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين ... حتى جاءت أزمة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر (1956م)، فانخرط بشعره في أتون العمل السياسي والوطني الملتهب بالثورة والغضب، والآمال العريضة التي راحت تحلق وسط الدخان والنيران كالحمامات المحترقة.
ولا بد أن والده الذي كان له بمثابة الصديق الأكبر قد حذره في هذه الفترة من حياته من الأمرين معا: من التوجه التقدمي والماركسي، ومن الشعر الذي يحكم منذ الأزل على من يكتبونه بالحياة والموت جوعا. (ج) وتمت الوحدة السيئة الحظ بين مصر وسوريا. وأمر عبد الناصر في سنة 1959م بمصادرة ووقف جميع الأحزاب والتنظيمات الجماهيرية، ومنها اتحاد الكتاب الذي كان الشاعر قد انضم إليه في سنة 1958م. ولم تلبث موجة الاعتقالات أن اتسعت حلقاتها الجهنمية، لتشمل عددا كبيرا من الكتاب والشعراء والمثقفين. ولم يكد الشاعر يسمع عن صدور الأمر باعتقاله، حتى اتخذ أول قرار مهم في حياته، وهو الهرب إلى المنفى:
تكلموا عن الطغاة،
رددت كلامهم،
قالوا: الجوع فظيع،
رددت كلامهم،
Unknown page
كورت قبضتي كالآخرين،
رمقتني عيون الحراس من حارة إلى حارة،
لا، لم تقف أمي في الشرفة،
لم تلوح لي كما تلوح الأمهات في الأفلام،
كانت تغطي شعرها بالطرحة البيضاء الشفافة،
توجهت نحو القبلة وأخذت تصلي،
لم يعانقني أبي كما يعانق الرجال الرجال،
بل أشعل سيجارته في صمت،
نفث غضبه في الدخان في صمت،
وعندما ذهبت لم أكن أعرف أن القبلة التي وشمت بها يديهما،
Unknown page
كانت قبلة موت غريب.
2
بهذه النغمة القاتمة - التي تستحضرها القصيدة المكتوبة مع قصائد أخرى في الثمانينيات - ودع الشاعر وطنه. وربما تلفت قلبه، مذ بعدت عنه طلول دمشق، وبدأ الترحال والتجوال من بيروت إلى ميونيخ إلى برلين الغربية لمدة عامين ثقيلين، طاردته فيهما خناجر الجوع والإهانة، ربما تلفت قلبه إلى شجرة الزيتون الشعرية التي كان قد غرسها في تربة وطنه، وتحتم عليه أن يتركها وراءه. (د) ابحث عن وطن في جنة العمال والفلاحين.
هكذا قال الشاعر الواعد لنفسه، وهو يجرب في بيروت حياة اللاجئ الشريد، ويعاني مرارة القلق والشك والجري وراء لقمة العيش، ويرضى بأي عمل مقابل وجبة الغداء أو العشاء. كان عليه أن يقضي سنتين ما بين بيروت وميونيخ وبرلين الغربية، قبل أن يصل إلى ألمانيا الشرقية السابقة للدراسة والإقامة فيها. رفض الحزب الشيوعي اللبناني أن يسانده في منفاه؛ لأنه لم يكن عضوا فيه (ولن يكون عضوا في أي حزب سياسي علني أو سري)، وساعدته الصدفة وحدها على الحصول على تذكرة سفر مخفضة السعر؛ لحضور معرض الكتاب الشهير في مدينة ليبزيج سنة 1959م، والاتصال بصديق أردني يعمل في إذاعة برلين الشرقية، ووضع قدمه في النهاية على أرض أوروبية.
واستقبل الشاعر استقبالا طيبا من اتحاد الكتاب ببرلين، مما شجعه على طلب اللجوء، وحول إلى معسكر لتجميع اللاجئين في «فورستين فالد»؛ للإقامة به عدة أسابيع، ريثما يبحث طلبه الذي لم يلبث أن فوجئ برفضه بعد أن ثبت للسلطات، أنه لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي السوري، وبعد رفض ممثل هذا الحزب في برلين الموافقة على أن يضمنه لديها. وقرروا ترحيله إلى سوريا فأصر على الرفض، وهدد بالانتحار، ثم وافقوا على لجوئه إلى برلين الغربية التي يستطيع منها - قبل إقامة السور الشهير وإغلاق الحدود - أن يتصل بصديقه الوحيد الذي سبق ذكره.
كانت أيامه في المنفى مرة وقاسية، وضاعف من مرارتها وقسوتها أنه يجهل اللغة التي يتكلم بها الناس، وإذا نطق ببعض كلماتها المبتورة عرض نفسه للسخرية، فضلا عن رفضه للقيم والأهداف التي يتصارع عليها الناس في غابة المجتمع الرأسمالي الذي وجد نفسه فيه. وانتقل إلى ميونيخ للعمل على «السير» تسع ساعات كل يوم مقابل أجر لا يقيم الأود. وعانى فظاعة الاغتراب والوحشة والبرد في الغرف والأنفاق غير المكيفة، والبرودة والمهانة التي يتجرعها العمال الغرباء كل يوم، لكنه لم يتوقف عن كتابة قصائده التي سجل فيها تجاربه ونشر بعضها، بعد أن أعاد إبداعها وصياغتها الشعرية بعض أصدقائه كما سنرى بعد قليل، في أول ديوان نشره بالألمانية وهو: «مثل حرير من دمشق». ويكفي أن نطالع هذه السطور من قصيدة جدران، التي لم أتوصل أيضا إلى أصلها العربي:
وحيد أنا،
لا عزاء لي هنا في العيون الزرقاء.
لا عزاء،
ظلال النجوم لا تجلب لي النسيان،
Unknown page
لا تجلب النسيان.
أمام النافذة يتساقط الثلج على الطرق الخالية،
بلا هدف،
على الحقول الجرداء، وعلى حواجز الحدود يتساقط الثلج أبيض.
وجد نفسه يعامل ممن حوله كعامل أجنبي معوق أو طفل متخلف العقل. لم تشفع له قراءاته لرامبو وبودلير، وتولستوي، وماياكوفسكي، وناظم حكمت، ونيرودا، وجوته، وهيني، ولم يمكنه الفتات الذي حصله من اللغة الغريبة من تخطي الحواجز والأسلاك الشائكة إلى «الآخر» الذي لم يضن عليه بالتهكم، ولم يرحمه من الشراسة والصلف والغرور. وحاول في ميونيخ وبرلين أن يمد جسر اللغة بينه وبين الآخرين، فخذله الحصاد البائس الذي كان يلتقطه من الأعمال المهينة التي يزاولها، ولا يساعده على تحمل نفقات التعلم. كانت قوة الصدمة أكبر من قوة الاحتمال والصبر. وكاد المغترب - المفعم بحكم طبيعته بالإصرار والثقة والأمل - أن يفقد كل أمل أو ثقة في نفسه وفيمن حوله.
لقد كان أقسى ما يلقاه كشاعر أن يفقد اللغة والمخاطب الذي اعتاد أن يتوجه إليه، وهو ما يساوي فقدان الظل والهوية. فهل ستساعده المنحة، التي حصل عليها بمحض الصدفة أو المعجزة للدراسة في بلد الاشتراكية والديمقراطية والأخوة والتضامن الإنساني، على أن يجد في اللغة الجديدة وطنه الجديد؟ وهل سيستطيع الشعر الذي سينظمه بها أن يجذب إليه أذن المخاطب الجديد وعينه ووجدانه؟ (ه) وحصل على المنحة المأمولة في سنة 1961م للدراسة بمدرسة المسرح في ليبزيج. لم يتردد لحظة واحدة عن مغادرة ألمانيا الغربية التي قاسى فيها الأمرين، والرجوع إلى بلد اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، التي طالما طافت بها أحلامه وأحلام جيله. وبدا كل شيء في الأيام والأسابيع الأولى، وكأنه يعيش بحق في الجنة: «في اليوم الأول الذي قضيته في بيت الصداقة أعطوني غرفة مدفأة، وأخذتني معلمتي إلى المجمع الاستهلاكي، فاشترت لي معطفا وبذلة وسلمتني ثلاثمائة مارك اشتريت منها جهازا لتشغيل الأسطوانات (جراموفون)، مع السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي. ما زلت أذكر هذا إلى اليوم. لقد شعرت بأنني إنسان، وأصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نظري هي الفردوس .»
3
ولازمه الشعور في تلك الأيام والشهور الأولى، بل حتى اليوم الحاضر، بالامتنان نحو البلد الذي آواه، وما يزال يؤويه إلى الآن، حتى نسي أو كاد ينسى أن سلطاته البيروقراطية قد رحلته قبل ذلك بسنتين إلى برلين الغربية، ليشقى فيها وفي غيرها من المدن المتوحشة، ولكنه الإحساس بالوفاء والعرفان الذي لم تخمد جذوته أبدا في صدره، وإن كانت نارها قد ضعفت خلال عقد الثمانينيات الذي تعرض فيه للضغوط النفسية الثقيلة، والذي سبق انهيار التطبيق الاشتراكي وتوحيد الشطرين: «إني أكسر هذا السور العالي، سور الشكر الذي يفصل بيننا، أكسره حجرا حجرا.»
4
وساعدته موهبته اللغوية الفائقة، مع الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية الطيبة التي أحاطت به، إلى الحد الذي جعله يقدم أول قراءة لقصائده بالعربية، مع ترجمتها الألمانية، أثناء الفترة التي قضاها في معهد «هيردر»، الذي التحق به لتعلم اللغة. (و) وأشرق في أفق حياته ربيع آخر عندما تمت الموافقة في سنة 1963م على التحاقه ب «معهد الأدب في ليبزيج»، وهو المعهد الذي كان يحمل اسم الشاعر التعبيري والثوري المعروف، وأول وزير للثقافة في «ذلك البلد الأفضل» وهو يوهانيس ي. بيشر. كان قرشولي هو الشاعر الأجنبي الوحيد في هذا المعهد بين زملائه من الشعراء والكتاب الشبان. وتفرد المعهد يرجع إلى اقتصاره على قبول شباب الشعراء والكتاب الذين سبق أن أثبتوا مواهبهم الإبداعية في الكتابة الأدبية، شعرية كانت أو قصصية أو مسرحية أو نقدية ... إلخ، بحيث يتولى أساتذة المعهد من كبار الشعراء أو النقاد صقل هذه المواهب، وتفجير الطاقات الإبداعية، ومدها بالوقود المعرفي والجمالي والحرفي والفني المتجدد.
Unknown page
وينظر الشاعر - الذي جاوز الستين من عمره - إلى الوراء بكل الحب والعرفان بفضل هذا المعهد عليه؛ ففيه تعرف على عدد كبير من أعز أصدقائه من الشعراء الأحرار رواد
5
ما سمي في أوائل الستينيات بالموجة السكسونية الجديدة، وفيه انهمر عليه الحنان والرعاية من شاعر اشتراكي كبير، كان يقوم بتدريس فن الشعر والإبداع الشعري لطلابه الذين أصبح عدد كبير منهم من الأعلام المرموقين في ساحة الشعر الألماني المعاصر، ذلك هو معلمه وراعيه الطيب الودود «جورج ماورر» الذي يستحق اللقاء القدري الفريد الذي جمعه بتلميذه العربي وقفة قصيرة نتحدث فيها عنه باختصار. (ز) شاءت الصدفة السعيدة، كما قلت، أن يلتقي شاعرنا بعد التحاقه بمعهد الأدب بشاعر كبير ومعلم عظيم يملك علم الأستاذ وحنو الأب وطيبة ونقاء قلب الطفل. كان ذلك المعلم والشاعر والأب الحنون «الفارع الطول ذو العينين العميقتي الزرقة، والجبهة العريضة» كان هو جورج ماورر (1907-1971م) أحد أعظم شعراء العصر، كما قال عنه الشاعر الفرنسي الكبير أراجون.
6
كان الرجل يقوم بتدريس «مادة» الشعر. وكان تلاميذه - كما سبق القول - مجموعة من الشعراء والكتاب الشبان الذين «يبحثون عن المعرفة وعن كيفية تملك ناصية الحرف، وذلك بفضل خبرة معلم يملك ناصية الحرف، ويحمل في جعبته ألف معرفة ومعرفة.»
7
راح المعلم والشاعر الاشتراكي الكبير يبحث مع تلاميذه عن أصواتهم الخاصة، ويهديهم في الوقت نفسه إليها، يكشف لهم عن الطاقات الكامنة فيهم من جهة، وفي الواقع من جهة أخرى. وكان منهجه في التعليم يتلخص في هذه العبارة الذهبية: «ليس هناك بلسم شاف وحيد، فلكل كائن طريقته الخاصة في الوصول للهدف، ولكل شاعر قصيدته الخاصة به دون سواه، ولكل قصيدة روحها وعالمها الإيقاعي والشعوري والفكري المستقل بها». وكان المعلم واقعيا بالمعنى الشعري الشامل لهذه الكلمة، ولذلك أخذ بأيديهم ليبحثوا ويتحركوا في اتجاه «مشتل الواقع» وانطلاقا منه، ويكتشفوا بأنفسهم الطاقات الكامنة في «واقعهم» الباطن، وفي الواقع التاريخي الراهن والماضي والمستقبل بكل ما يختزنه قلبه الجياش بالتجربة البشرية الشاملة من صور وصراعات وأساطير ورموز عند كل الشعوب، وفي كل الحضارات. وباختصار: علمهم من خلال دروسه المفعمة بالحب، ومن خلال أشعاره الغنية بالتعاطف والشجاعة والأمل، علمهم الرؤية الكلية للواقع الحسي والتواصل الودي بين البشر كافة.
والقارئ الذي يطلع على كتاب عادل قرشولي عن هذا الشاعر والمعلم الكبير، ويعايش القصائد البديعة التي ترجمها إلى العربية، سيدرك، في تقديري، مدى تأثيره المباشر وغير المباشر عليه في كثير من الدوائر التي يتحرك فيها شعره، والإشكاليات الفكرية والفلسفية والإنسانية التي تشغل عقله وقلبه: علاقة الأنا مع الآخر، وحدة الذات مع الكون، تواصل الإنسان مع الإنسان والطبيعة، وتراث الأجيال البشرية كلها بغير تفرقة بينها. وسوف يرى القارئ أيضا أن التلميذ السابق قد تأثر بأستاذه تأثرا ملحوظا في نظرته المتفائلة، بل الطوباوية، إلى الواقع والمستقبل، والثقة العميقة بالأدب والفن، وقدرتهما على تغيير العالم والعلاقات الإنسانية، من خلال التواصل الحي الفعال بين الذات والآخر (الذي يمكن أن يكون هو الإنسان أو الطبيعة، أو الحضارة البشرية، أو الماضي أو المستقبل ...) ومن خلال التوحد مع الآخرين، مع الأرض ومع الكون كله.
يقول شاعرنا في قصيدة طويلة وجميلة أهداها إلى ذكرى معلمه وراعيه، وجعل عنوانها: «خضرة النعناعة» (من ديوانه: لو لم تكن دمشق، 1999م، الطبعة الثالثة، ص13-14)، وذلك بعد أن يعرف ببلاد الخرافات والحكايات التي جاء منها «بلاد الألف شمس وشمس، والألف بؤس وبؤس» إلى المدن الكبرى المزدهرة التي دارت فيها عجلة التقدم وسبقت بلادنا التعيسة بمائة عام في أقل تقدير، وانتشرت عليها ظلال اللامبالاة والعقلانية الباردة التي لا قلب لها، بحيث تجمدت الفراشات الذهبية - التي كانت ترفرف في صدر الشاعر قبل مجيئه إليها - فوق غاباتها الثلجية، ونثرت الرياح الجليدية الشك في أغانيه، وبعثرت الألوان من ريشته، ومزقت أوراق عقد الياسمين الذي كان يطوق رقبته ... حتى جاء المعلم الحنون «فألقى بالأصداف النبوية على الثلج، ودل الشاعر الشاب على الطريق إلى قاع النبع، وإلى الكنز الكامن في الغابات الثلجية الأخرى»، أعطاه الكلمة «الخاصة بنا» (إشارة إلى القصيدة المطولة التي ترجمها الشاعر إلى العربية، وجعلها عنوانا لكتابه السابق الذكر عنه)؛ لكي نتحكم في السحاب، ونحتفل بعرس الطبيعة، ونخزن الماء وراء السد، ونواجه خط الموت الفاصل بلا خوف؛ لأن الأولى بالخوف هو قناع الأحياء الجامد. وتستمر القصيدة، في القسم الرابع منها بوجه خاص، في تضمين سطور دالة من قصائد ماورر، هذا الشاعر الذي رصد حركات التقدم في الواقع الاشتراكي الذي عاصره على مهاد رحب من معرفته الواسعة بنضال الإنسان وتضحيات الأجيال، عبر ألوف السنين من تاريخ البشرية.
نعم لقد أعطاه سر الكلمة الشعرية، وأعاد إلى قلمه «خضرة النعناع»، وأكد له صدق البيتين الشهيرين اللذين كتبهما أمير الشعر الألماني «جوته» في ديوانه الشرقي الشهير:
Unknown page
8
من لم يستطع أن يقدم لنفسه الحساب، «عما تم من تطور» خلال ثلاثة آلاف عام؛
فليبق معدوم الخبرة يتخبط في الظلام،
وليعش من يوم ليوم «ويتنقل من باب لباب». (ح) والتحق الشاعر الشاب في سنة 1966م بالمعهد التابع لجامعة ليبزيج لدراسة المسرح واللغة والأدب الألماني، حيث تفرغ بعد ذلك بسنوات لإعداد أطروحته للدكتوراه عن «التلقي العربي لمسرحية بريشت التعليمية «الاستثناء والقاعدة»»، ومناقشة ما شاب هذا التلقي - سواء في ترجماتها العربية المختلفة أو في التعليقات، والدراسات النقدية عنها وعن مسرح بريشت - من خلط وسوء فهم لمنهجه في المسرح الملحمي (راجع ما سبق أن ذكرته في التمهيد عن هذا الموضوع). (ط) كان الشاعر - كما سبق القول - قد فقد المخاطب العربي وفقد معه، أو صور له القلق أنه فقد معه، الظل والهوية.
بدأت محاولاته لمد جذوره في اللغة الجديدة وفي الوطن الجديد. لكن محاولاته لكتابة الشعر بالألمانية بقيت متعثرة طوال عقد الستينيات، إذ اقتصر شعره الذي يسجل تجارب هذه المرحلة (وقد جمعه في أول ديوان صدر له بالألمانية، وهو كحرير من دمشق، 1968م) على بعض القصائد التي كتبها بالعربية، ثم ترجمت، بفضل بعض أصدقائه الذين ذكرناهم، ترجمة شعرية إلى الألمانية. وجاءت معجزة الحب ل «النعناعة الشقراء» التي تعرف عليها في الجامعة، فشدت على يده وقلبه أثناء كفاحه لمد الجذور في الأرض واللغة والأدب والثقافة والحضارة الغريبة عليه، واستطاعت أن تمسح العرق عن جبينه، وتخلصه من تردده في تلك المرحلة عن البقاء في تلك الأرض.
صمم الحبيبان على عقد الرباط المقدس، بالرغم من نصائح بعض مواطني الشقراء بالابتعاد عن الأجنبي الأسمر الشعر والجبين، وتم الزواج في سنة 1964م، ووضع أساس الأسرة السعيدة التي يلتئم شملها اليوم مع الابن والابنة والحفيدتين. صحيح أن الحبيبين قد لقيا ما لقيا من متاعب البيروقراطيين هنا وهناك، ولكن الصحيح أيضا أن الظروف المواتية وقفت في صفهما لإتمام المعجزة: انفرجت الأحوال في سوريا بعد إنهاء الوحدة السيئة الحظ، ورفع أمر القبض على الشاعر، فتمكن بعد الزواج بعام واحد (1965م) من زيارة وطنه في صحبة زوجته، بل شاءت معجزة الحب أن تغير الزوجة تخصصها الأصلي في الأدبين الروسي والألماني، وتتفرغ لدراسة اللغة والأدب العربي الحديث، حتى أصبحت اليوم من ألمع وأقدر مترجميه إلى الألمانية، بجانب قيامها بتدريسهما منذ سنوات طويلة في قسم اللغات الشرقية بجامعة ليبزيج.
9
ولم يمض وقت طويل حتى توج الزواج بحصول الزوجين على الدكتوراه، وعلى وظيفة للتدريس بنفس الجامعة التي التقيا فيها وتخرجا منها.
لم تخل الحياة في الواقع اليومي بطبيعة الحال من المتاعب والضغوط النفسية، ولم ينج إحساس الشاعر بنفسه كشاعر من الألم والضيق؛ بسبب النظر إليه في تلك الفترة، وإلى شعره كشيء خرافي غريب أو عجيب أو جذاب،
10
Unknown page
مع اختزال الشعر إلى هذه الغرابة وغض النظر عن قيمته الفنية والجمالية في ذاتها ولذاتها. لكن المعجزة استطاعت أن تكتسح المتاعب والمنغصات الصغيرة، وترفع الحواجز الفاصلة بين بلدين وحضارتين، وتؤكد للزوجين أنهما يعيشان «في بيتهما»، وتعين الأيدي الطيبة المتعانقة على تعميق الجذور في وطن الغربة، بل استطاعت المعجزة أن تنقله من مرحلة تقديم قصائده العربية الأصل في ترجمتها الشعرية، إلى مرحلة كتابة الشعر مباشرة بالألمانية؛ لكي يتسنى له أن يشارك مشاركة فعالة في الحياة الأدبية والاجتماعية، ويخاطب قارئه الجديد بلغته، فيزداد تقديره له جماليا وإنسانيا، بدلا من النظر إليه، كما حدث في عقد الستينيات، كشاعر خرافي وغرائبي، أو زهرة عجيبة في زهرية معزولة، أو تحفة شرقية نادرة ومثيرة.
حقا ما أعجب وما أطيب المعجزة التي أعانته على مواجهة هذه المخاطرة الضرورية، دون أن يضطر في نفس الوقت للتخلي عن هويته أو التنكر لذاتيته الأصيلة.
الفصل الثاني
عناق خطوط الطول
(أ) عرف منذ البداية أن الحياة حوار، وأن الشعر حوار، ولأنه بفطرته ومعتقده الفكري جدلي أصيل، فقد عرف أيضا أن الحوار يفترض الخلاف والتعارض والتضاد، وأنه يقوم على الدوام على الصراع بين قطبين أو طرفين متناقضين يحرص المفكر، مثل كيركجارد ونيتشه، على استمراره؛ تعبيرا عن صيرورة الوجود وتناقض العالم والوجدان، أو يسعى بكل جهده، مثل هيجل وماركس، إلى التأليف بينهما في مركب جديد، يتحقق معه التجانس والوئام بعد الحرب والصراع والخصام. ثم لا يلبث هذا المركب أن يواجه نقيضا جديدا يدخل معه في الحوار أو الصراع، وتدور العجلة الجدلية وتدور حتى تصل، أو لا تصل للتأليف بينهما في مركب آخر.
هل ينتمي عادل قرشولي إلى الفريق الأول، أم إلى الفريق الثاني؟
الإجابة حاضرة، ناصعة كضياء الشمس: لقد شاء لنفسه، وشاء له قدره أن يكون بحياته وشعره وسيطا جدليا، أو جسرا ممدودا بالمحبة والتفاهم والمودة والاحترام المتبادل بين لغتين وأدبين، وحضارتين أو عالمين مختلفين، لم يكن ذلك أبدا، ولن يكون أمرا سهلا؛ لأنه، كالحياة والشعر، عملية متصلة تجري كنهر الصيرورة الجياش بالحركة والتدفق، وسط النتوء والصخور، وتتعرض للأنواء والأعاصير، وتفرض عليها الضرورة أن تخترق الحواجز والقيود والسدود. (ب) كان على الشاعر - بعد صدور ديوانه الأول بالألمانية الذي عرفنا قصته، وخلال ما يقرب من عشر سنوات - أن يخوض معارك مختلفة، ويمر بأزمات قاسية: تعمق اللغة الأخرى والأدب الآخر إلى حد التمكن من التوجه للمخاطب الجديد بلغته، ومشاركته في هموم حياته ومجتمعه وثقافته؛ المرور بأزمة خلق شعري من نوع فريد نتيجة التصميم على الكتابة بلغة جديدة، والتوجه لمخاطب جديد؛ التخلص من أوهام كثيرة وعزيزة عن «جنة العمال والفلاحين»، وازدياد الوعي بحقيقة الواقع الذي يخنقه الملل واللامبالاة، وتهيمن عليه الأوامر والتعليمات والشعارات. يوارب الباب أحيانا لنسمات من الحرية، ثم لا يلبث أن ينفد صبره عندما تهب تيارات النقد والتمرد والغضب، فيعيد فتح أبواب العقوبات والمحظورات والمعتقلات على مصاريعها. ثم المعاناة من طغيان تأثير الآخر الذي عايش شعره وفكره عدة سنوات، حتى لمس جذوره واستظل بفروعه؛ لا سيما بريشت ومجموعة الشعراء المقربين منه، الذين سبحوا مع الموجة الجديدة، وجذبوه للسباحة معهم إلى الحد الذي أحس معه بخطر تهديد ذاتيته الفنية وهويته الشخصية والقومية. مع ذلك لم تتوقف الجهود المبذولة لعبور الأزمات ومد الجسور، وتحسس الطريق للعثور على «الوطن» الشعري الحقيقي داخل الذات، في أعمق طبقاتها الواعية واللاواعية. (ج) و«عناق خطوط الطول» (1978م) هي المجموعة الشعرية، التي تسجل مشاهدها وصورها ذبذبات تلك الزلازل التي هزت كيانه، ومزقته بين عالمين ووطنين ولغتين وثقافتين، وذلك قبل أن يطمئن لنجاحه في مد الجسور وغرس الجذور، ولمس الحقيقة الباطنة في عالمه الباطن:
هناك وهناك،
هنا وهناك.
أين أكون أنا في بيتي؟ •••
Unknown page
في لغتين تصاغ الجملة.
في عالمين تمسك اليدان بالأشياء.
في الحلم تكلمني أمي بالألمانية،
وتكلمني بالعربية زوجتي السكسونية. •••
من خط طول إلى خط طول
تقفز أحلامي خفيفة الأقدام،
تمتد فروع شجرتي،
وكل زهرة تحمل
وشم قوافل الشمس القديمة العهد،
التي تنبض خلال عروق شجرتي. •••
Unknown page
آه
يا خطوط الطول!
أنت يا غصون شجرة السنديان،
وشجرة الزيتون،
تعانقي بقوة،
بقوة أشد
داخل ذاتي.
والجزء الأول من أجزاء القصيدة الأربعة يؤكد تمزق الأنا الشاعرة بين ال «هنا» وال «هناك»، وتوترها بين القطبين المتنابذين اللذين تمثلهما هاتان الكلمتان، وتعبران بهما عن اتجاهين مختلفين تنتفي عن كل منهما الراحة والاستقرار والأمان، ولا بد من البحث عنهما في شيء يوحد بينهما، أو يصل بين شاطئيهما.
ويأتي السؤال المحدد عن الوطن: أين أكون في بيتي؟ في هذا الشاطئ أم ذاك؟ على هذا القطب أم القطب الآخر؟ يتبين من الأبيات التالية استحالة التمسك بأحدهما دون الآخر، سواء بالنسبة للإنسان «في عالمين تمسك اليدان بالأشياء»، أو بالنسبة للشاعر والشعر ف «الجملة تصاغ في لغتين». وتتكاثف الأمور، ويتعقد الموقف، وتتشابك خيوطه بعد ذلك، فالسؤال عن الوطن الذي يبدو بسيطا وواضحا لا تظهر له إجابة واضحة وبسيطة مثله. إن العالمين يختلطان أو يمتزجان، ولكن هذا يحدث في الحلم ، وفي الحلم وحده يبدو عثور الشاعر على الوطن أمرا ممكنا؛ ففروع شجرته تنتشر، وتمتد فوق خطوط الطول. والشجرة نفسها رمز للجذور الثابتة في الأرض، وللنفس الكبيرة التي لا تستريح؛ حتى توحد في ذاتها بين العالمين.
غير أن ينابيع الطفولة لا تجف أبدا، بل تسري نابضة في عروق الشجرة التي تحمل أزهارها وأثمارها وشم قوافل الشمس القديمة قدم طفولة الشاعر وصباه وأجيال سبقته، وأخرى ستجيء بعده.
Unknown page
ونسمع التنهيدة فنشعر بأن صحوة الواقع قد جاءت في أعقاب نشوة الحلم باللقاء، أو العناق الذي لم يتحقق بعد. وتتخذ خطوط الطول مضمونا محددا ومعنى مجسدا؛ فالسنديانة الألمانية والغربية، وشجرة الزيتون السورية والعربية يمثلان الحضارتين المختلفتين اللتين يتحرك بين شاطئيهما شراع «الأنا» الشاعرة التي تحاول - ولو في الحلم - أن تقرب بينهما إلى حد التوحد في عمق الذات، الذات التي ضربت الشجرتان جذورهما في صميمها، وبقيت متشبثة بجوهرها وسرها.
وإذا كانت قصائد الشاعر تزخر بالتعارضات والصراعات بين طرفين أو قطبين يحاول أن يجمع بينهما: بين شجرة زيتون وشجرة سنديان، بين الصراخ والصمت، والحب والموت، بين النقد إلى حد الغضب والتمرد والرضا، إلى حد الاعتكاف والعكوف على الذات، فإن «عين الشاعر الثالثة»، أو حدسه الكاشف الذي لا يخطئ، يدله دائما على أن العالم لا يرى على الحقيقة إلا في كليته، وأنه إذا كان يتمزق بين تناقضاته وأطرافه المتصارعة، فإنه لن يجد العالم - كما يقول بيت مشهور للشاعر رلكه - إلا في الباطن وحده. ولا غرابة بعد هذا في أن تنتهي القصيدة بأمر ملح ومعبر عن القلق، ونفاد الصبر: «تعانقي بقوة، بقوة أشد، داخل ذاتي ...» (د) لم يكن الطريق إلى كتابة الشعر بلغة أخرى غير لغة الأم بالطريق السهل؛ فقد شعر في مطلع الستينيات - كما سبق القول - بأنه قد فقد ظله الذي لازمه منذ مولده في نفس اللحظة التي ترك فيها وطنه. ولم يقتصر الأمر على فقدان المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه بشعره المبكر ويتأثر به، كما يؤثر عليه خلال عملية إبداعه، وإنما بلغ حد الإحساس المهول بفقدان الهوية، وجد نفسه في حالة عجز مطلق عن التعبير للآخرين عما يجيش في كيانه، كما وجد الآخرين يعاملونه كأنه طفل متخلف، أو معوق. وبعد أن تحرر من الظروف المهينة التي أحاطت بالفترة الأولى من وجوده في المهجر، واستقرت قدماه في مدينة ليبزيج؛ وجد نفسه في مواجهة اللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من حوله، أمام أحد اختيارين لا بديل له عن أحدهما: فإما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة الجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه بنفسه في قبر الصمت. وكان عليه بطبيعة الحال أن يختار الأولى؛ حتى يؤكد لنفسه أنه حي وفعال ومشارك، وحتى يتمكن من وضع قدمه في صميم الساحة الثقافية الجديدة التي وجد نفسه فجأة على هامشها.
1
وبقي الطريق إلى كتابة قصائده الأولى بالألمانية طريقا شاقا مضنيا؛ فقد سبقته جهود طويلة في دراسة اللغة والأدب الألماني، وتاريخه (إلى حد تكليفه بعد ذلك بالقيام بتدريسه في نفس الجامعة)، وفي الاطلاع على نماذجه الكبرى في شتى عصوره، والتعمق في تذوق بعض قممه الحديثة والمعاصرة، وبالأخص شعر بريشت والأجيال التالية المتأثرة به سلبا أو إيجابا، بالإضافة إلى الإنتاج الشعري لطائفة من أصدقائه وزملائه في معهد الأدب الذين سبق الحديث عن موجتهم الجديدة. (ه) ومرت القصيدة الألمانية، التي بدأ في كتابتها منذ منتصف الستينيات، بعدة تحولات. كانت في الأصل - كما يؤثر أن يسميها - قصائد ظرفية عبرت عن لحظة آنية عاشها، ثم رفعها التشكيل الشعري من حدث جزئي وهامشي إلى حدث كلي وعام. ولست أدري على وجه التحديد؛ هل كتبت القصائد الأولى في الأصل بالعربية قبل أن يترجمها بنفسه، ويضيف إليها أصدقاؤه الألمان لمساتهم الإبداعية، أم أنها ترجمت مباشرة عن قصائد عربية سابقة، وبقيت من حيث الموضوع والشكل متأثرة بالتراث الشعري العربي، واحتفظت بلغة غنية بالصور المذهلة، ونهلت مضامينها من ينابيع الحب والحنين للوطن، والنضال في سبيل الحرية والكرامة والسلام والأخوة البشرية، وسائر المثل، والأحلام التقدمية التي جعلت من الخطاب الشعري دعوة ونداء ورسالة تبشيرية وتحريضية؟ لست أدري هل كان الأمر على هذه الصورة أو تلك؟ فالذي أدريه - من كلام الشاعر نفسه في حوارات ومناسبات عديدة - أن هذه القصائد الأولى قد لفتت إليها أنظار القراء، وبهرت المستمعين الذين تحمسوا لها حماسا جارفا في الندوات التي كانت تلقى فيها؛ بسبب السحر الشرقي الذي يسري فيها، والمناخ العربي الذي كان يظللها، والصور والأخيلة والاستعارات والتشكيلات الجمالية التي عمل الموروث الشعري العربي، مع ذكريات الطفولة والصبا في أزقة دمشق وأمسياتها الحلوة، عملهما في غزل نسيجها؛ أي إنها قد جذبت إليها العيون والآذان بسبب «غرائبيتها»، أو ما فيها من عناصر عجيبة وغير مألوفة. وقد كان هذا على وجه الدقة هو الذي دفع الشاعر على الثورة والغضب؛ فقد رفض أن يكون تحفة شرقية، أو زهرة مجلوبة من بلد بعيد، وهكذا تحولت القصيدة الألمانية من وسيلة ضرورية واضطرارية للتواصل مع الآخر، إلى بنية جمالية متفردة تنتزع الإعجاب بقيمتها الفنية في ذاتها، لا بسبب ما تحتويه بالضرورة من توابل شرقية وعربية، إلى أن أصبحت في النهاية - وبالأخص في ذروة تجلياتها الشعرية على لسان عبد الله في الديوان الذي سنجده في هذا الكتاب - أصبحت مناجاة ذاتية أو صوتا ثانيا يعبر عن حوار الذات مع ذاتها. مر الشاعر بأزمة إبداع استمرت معه قرابة العشر سنوات، قبل أن يصدر ديوانه الذي يضم القصائد التي كتبها بالألمانية مباشرة، ودون الحاجة إلى وسيط من الأصدقاء لإعادة إبداعها وصياغتها صياغة شعرية. ولا شك أن قراءه «الآخرين» قد أحسوا، وهم يطالعون أبيات «عناق خطوط الطول» (1978م)، أو يستمعون إليها من فم صاحبها، أنهم أمام شعر حقيقي لا شعر «غرائبي»، يستثير إحساسهم الموروث بالشرق، أو يرضي أحكامهم وتحيزاتهم المسبقة عن العرب وحضارة العرب. ولعل أول صدى لهذا الاستقبال الجديد هو الذي دعا أحد النقاد لأن يمنحه «المواطنة الشعرية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية».
2
ويضم الديوان - الذي اقتبسنا منه قصيدة العنوان، التي وقفنا معها في بداية هذا الفصل وقفة قصيرة - قصائد متنوعة الموضوعات ما بين السياسة والنقد الاجتماعي، وحياة اللاجئين أو المهاجرين، فضلا عن موضوع الحب الذي كان ، ولا يزال هو سند وجوده. (و) كان هدفه من هذا الديوان هو أن يوحد في شخصه بين خطوط الطول؛ غير أن العقبات التي تحول دون هذا التوحيد كادت أن تصل إلى حد الارتطام بجدران المستحيل. وأول هذه العقبات هي مشكلة الحياة والكتابة بلغتين، وبخاصة بعد أن اتخذ قراره الحاسم بأن ينطق لسانه الشعري مباشرة بالألمانية، وأن يخاطب المتلقي الجديد بلغته، ويعبر عن همومه التي يعيشها معه، ويشاركه فيها بالعاطفة والفعل، ولا يقف موقف المتفرج الذي يتخفى وراء قناع الأجنبي، أو المنفي أو اللاجئ والمستبعد. وجد نفسه كمن يبدأ من جديد، وأحس أنه يحيا وينطق ويكتب بلسانين، وأن ذلك يضاعف وجوده في شخصين، أو يشقه نصفين، ولكنه ظل إلى اليوم، كما يقول صديقه الناقد والشاعر هاينز تشيخوفسكي، في تعقيبه على ديوانه «لو لم تكن دمشق» (1992م): ظل يحمل العبء الثقيل بجدارة وكبرياء، وبقدر غير قليل من الحكمة والالتزام والبهجة والمتعة أيضا.
كان على يقين من أنه منفي في اللغة الجديدة، وأن اللغة التي يكتب بها ستبقى مختلفة عن لغة أهلها الذين نشئوا عليها وفيها؛ إذ يتحتم عليه أن يجدد خلقها في كل قول أو فعل تواصلي، وأن يجعلها متطابقة مع حالة المنفي أو اللاجئ التي لا ينكرها، وإن حاول جهده أن يتجاوزها، بحيث تصبح في حقيقتها ووظيفتها لغة للتواصل والأمل، تصبح بيته وملاذه، ومحط رجائه وثقته في المستقبل. صحيح أنها لم تكن لتصبح بالنسبة إليه «لغة الأم»، إذ يستحيل على الإنسان أن يستبدل بأمه أما أخرى، ولكنها استطاعت أن تحتل مكان «الحبيبة» التي تستند إليه كما يستند إليها، وتلجأ إليه كما يلجأ إليها كلما أعوزه التعبير عن هواجسه وشكوكه، وأحزانه وأفراحه، وذكرياته وأشواقه، وكلما أراد أن يشعر بأنه مشارك في الأحداث والتغيرات التي تتم في وطن الغربة الذي اختاره بإرادته الحرة وطنا ثانيا، وآمن بقيمه العليا وتوجهاته الأخيرة، وإن تزايدت شكوكه مع الزمن في صحة تطبيقها وممارستها على أرض الواقع. (ه) هكذا تغيرت اللغة التي جعلها وطنه وسكنه، وبدأ ينظم بها شعره. وتغير المخاطب الذي قصده بهذا الشعر المعبر عن تعاطفه معه، ومشاركته له بالرأي والفعل، والقادر، تبعا لإيمانه الراسخ مع معظم أبناء جيله ب «الكلمة - الفعل»، على تغيير العالم. وكان من الطبيعي أن تتغير أغراض هذا الشعر وموضوعاته عما كانت عليه من قبل، تستوي في ذلك قصائده السابقة بالألمانية، أو بالعربية التي غلبت عليها النغمة العاطفية والحنين للماضي، ولم تكترث باتخاذ موقف نقدي من مشكلات الحاضر وأزماته، حتى إذا شغله الشعر الحديث بعمق، وبالأخص شعر بريشت، حاول أن يصل إلى الوحدة الجدلية التي تؤلف في قصائده بين العقل والعاطفة، بحيث لا يطغى أحدهما عليه؛ ذلك لأن لغة الشاعر، على حد تعبيره في مقال نشره في عام 1965م، بجريدة الشعب التي تصدر في مدينة ليبزيج: «ينبغي أن تكون حوارا بين عقله وقلب القارئ، أو بين قلبه وعقل القارئ، فاللغة التي تتجه من العقل إلى العقل هي لغة العلم، أما اللغة التي تتجه من القلب إلى القلب فهي لغة المحبين.»
كانت عقلانية بريشت الجدلية قد سيطرت عليه فترة من الزمن، حتى أيقن بأنه لن يصل إليه إلا إذا تخلص من تأثيره عليه، وكسا عقلانيته بثوب الصورة والاستعارة النابعة من فطرته، ومن موروثه العربي المغروس في دمه. وهكذا «أخذت الاستعارة، لا الفكرة الواضحة كالبلور، هي التي تقود قلمي، وبدا لي وكأنني لست أنا الذي يشكل شعري، بل إن الشعر هو الذي يشكلني ويؤثر على الرؤية وزاوية النظر، بل وأحيانا على أسلوب الأداء.»
3 (ح) وكما تخلص من العناصر «الغرائبية» التي جذبت المتلقين إليه في البداية، استطاع كذلك أن يتخلص من تأثير بريشت، وتأثير أستاذه «ماورر» وسائر الشعراء - وبالأخص أصحاب الموجة السكسونية الجديدة - الذين تأثر بهم إلى درجة المحاكاة في بعض الأحيان أو المعارضة في أحيان أخرى.
4
Unknown page
كان عليه أن يجد نفسه أولا قبل أن يجد طريقه للخلاص من أزمته الطويلة، وقد وجدها عندما وجد كذلك مكانه بين التيارات الأدبية المتلاطمة من حوله، وعرف أن دوره الحقيقي هو الجمع بين تراثه الأدبي الموروث، وبين التراث الألماني والعالمي في وحدة واحدة، أي عندما تأكد لديه الوعي بمهمته وواجبه في الحياة والشعر؛ مد الجسور بين أدبين وتراثين وعالمين، وترك جذور السنديان والزيتون تتعانق بقوة في داخله، كما تتعانق خطوط الطول.
الفصل الثالث
وطن في الغربة
(أ) يستحيل على أي قول أو فعل - بل يستحيل على الصمت نفسه - أن يخلو من السياسة. ومن رابع المستحيلات أن يخلو قول أو فعل أدبي من موقف أو وجهة نظر، مباشرة أو غير مباشرة، عما يحدث في بلد الأديب، أو في العالم من أحداث تتصل بقضايا وأسئلة ومشكلات كبرى في حياة البشر، كالحرب والسلام، والحرية والاستعباد، والعدل والظلم والاضطهاد، والفقر والجوع ... إلخ.
وقد آمن عادل قرشولي منذ البداية بأنه شاعر سياسي ملتزم، وإن كان قد حرص منذ البداية أيضا على أن ينأى بنفسه عن الأحداث السياسية التي تجري كل يوم، وعن الدخول في أي حزب سياسي علني أو سري. شعر منذ الستينيات شعورا عميقا بأنه سياسي، كما أحس إحساسا جارفا بأن أي حدث سياسي هام، ومن ثم أي حدث إنساني يقع في بلده أو خارجها، يهز وجدانه إلى الحد الذي يجبره على تشكيل تجربته له في شكل فني.
ويتجلى هذا الموقف السياسي والإنساني العام - الذي لم يزل الشاعر ملتزما به التزاما أساسيا - منذ بداية محاولاته لكتابة القصيدة الألمانية في أوائل الستينيات. يكفي أن نستشهد على هذا بإحدى قصائده المبكرة التي استجاب لها جمهور الشباب الذين استمعوا إليها في إحدى الندوات، التي كان وما يزال حريصا على قراءة مختارات من شعره فيها، وهي قصيدته «نداء من أجل فيتنام»:
أريد أن أهز الحالمين في الشوارع،
أن أنتزع فنجان القهوة من اليد الهادئة المطمئنة،
أن أقف في القاعة حيث يسبحون في سماوات «باخ» الإلهية، وأصرخ فيهم،
أصرخ بملء حنجرتي:
Unknown page
في فيتنام يتصاعد الدخان من الأدغال،
في فيتنام تحترق غصون الأشجار،
والجلد الناعم والشفاه.
ومن الواضح أن هذه القصيدة تحرض غير المكترثين على أن يكترثوا بما يدور حولهم، وتدعو البرجوازي الصغير - الذي اعتاد في كل مكان ألا يبالي بشيء يخرج عن حدود جسده ومصالحه - تدعوه لأن يهتم بما يرتكب في العالم من مظالم، لن ينجيه الجمود واللامبالاة من الاحتراق بنارها بعد أجل قريب أو بعيد. والعجيب والجدير أيضا بالذكر أن هذه القصيدة تحولت في ذلك الحين إلى شعار رفعه المحتجون على حرب فيتنام في مظاهراتهم الحاشدة، بل برزت أبياتها على لافتة علقت داخل المحطة الرئيسية للسكة الحديدية في مدينة ليبزيج، كما قام بتلحينها أحد كبار الموسيقيين (يواخيم فير تسلاو)، وظهرت نوتتها الموسيقية في كتاب صدر في نفس المدينة سنة 1968م. ومع أن الاتجاه لإدماج الأحداث السياسية الهامة وتضمينها في نسيج الشعر كان اتجاها شبه عام بين الشعراء عندنا وعندهم في تلك الفترة، فلا بد من القول بأن ذلك كان أمرا طبيعيا بالنسبة للشاعر الذي اشتعل كيانه بالمبادئ الاشتراكية، والذي ذاق مرارة تجربة المنفى والجوع والاضطهاد، ولم يقف أبدا لا في شعره، ولا في نثره، موقف المتفرج من القضايا والأحداث والمحن التي ألمت ببلاده العربية، مثل: مجزرة صابرا وشاتيلا، وحرب الخليج، وانتفاضة أطفال الحجارة. (ب) مع ذلك، فبالرغم من كل الدعايات والمزاعم العالية الصوت باسم التضامن الإنساني والأخوة البشرية، ومساندة الشعوب النامية في مساعيها للتحرر والاستقلال، كانت تتحرك تحت هذا السطح الرسمي البراق - كالدود في العسل - ألوان مختلفة من اضطهاد الأجانب في ألمانيا الديمقراطية السابقة. يروي لنا الشاعر كيف شارك في مظاهرة كبرى باسم الشعب وصرخ مع الجموع: «نحن الشعب»، ومع ذلك اضطر أن يقول لنفسه أو أن يجد من يقول له: نحن؟ كيف تقول نحن؟ أنت بالذات مستبعد. فالأجنبي يبقى أجنبيا، حتى لو حاول بكل كيانه أن يحيا حياة المواطن في البلد الغريب، وما قيمة أن أقول للشاب الذي يصيح حتى يشق حنجرته: «اخرجوا أيها الأجانب»؟! ما قيمة أن أقول له: لقد عشت يا بني في هذه المدينة عمرا أطول من عمرك، وربما كنت أعرف أجدادك الألمان، مثل جوته، وهيني وكلايست، وهيجل، وباخ وغيرهم، خيرا من معرفتك بهم؟! سوف يظل يصرخ مصوبا نحوي رصاص كلماته: «اخرجوا أيها الأجانب!» وأحاول من جانبي أن ألتمس له الأعذار والمعاذير حتى لا أجن؛ لجهله، وصغر سنه، وقلة خبرته، ونزعته الإقليمية، ومعاناته من البطالة، وتعرضه للبث الإعلامي الذي ينفث سوء الظن بالآخرين. آه! وكم وصفوني، ونادوا علي بأسماء مختلفة: أنت يا حادي الجمال، يا تركي، يا ياباني، أو أنت أيها الأسود!
وكم تعرض أيضا لضغوط نفسية حادة كالتهديد بسحب إقامته، أو منعه من الدراسة والحصول على عمل، بحيث لم يشعر أبدا قبل إتمام الوحدة بين الشطرين السابقين، لا بالأمان ولا بضمان إقامته بصورة دائمة. أضف إلى ذلك أن الأجانب لم يكن يسمح لهم بتكوين تنظيمات أو اتحادات خاصة بهم، وأن البحث العلمي في الأدب المكتوب بأقلام الأجانب لم يكن قد بدأ بصورة جدية، ولا خصصت له جوائز معينة. وإذا كان قد حصل في فترة متأخرة نسبيا (في سنة 1986م) على جائزة الفن التي تمنحها مدينة ليبزيج لأديب أجنبي يكتب بالألمانية؛ فإن ذلك دليل ناصع على تفرد إنتاجه وتميزه، واستحالة تجاهله إلى الأبد.
1 (ج) «كابية يا صاحبي، هي كل النظريات،
لكن شجرة الحياة الذهبية خضراء.»
ربما لم يشعر أحد بصدق هذه العبارة، التي جاءت على لسان الشيطان في فاوست الأولى، مثلما شعر بها شاعرنا المغترب الشاب، ولكي تخضر شجرة حياته وشعره الذهبية الخضراء في الأرض الغريبة، ويدخل في حوار مع الوجوه الثلجية العابسة، ويتعايش مع ملل الحياة اليومية وكآبتها، ويكظم في نفسه ذكريات طفولته الحلوة في الوطن البعيد الذي اضطهده واضطره للهرب منه، ويدخل متاهة اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، ويتعرف على سراديبها المعتمة وأنفاقها العميقة، ويصمد في صراعه مع وحوشها الضارية، ويداري السلطة الغبية الغاشمة التي تنهمر من عليائها الأوامر والتعليمات، ولا ترضى بغير الخضوع والخنوع والطاعة العمياء، كان عليه أن يصبر ويصبر، ويقاوم ويتعلم، ويخطو كل يوم خطوة إلى الأمام، ثم ينتظر وينتظر؛ حتى تخضر شجرته الذهبية، وتمد ظلال الجسور بينه وبين الآخرين.
وحدثت معجزة الحب، فتحققت معها معجزة الشعر، وبدأت الشجرة تخضر، وما زالت تزدهر وتثمر. (د) لنصحب الشاعر الشاب خطوات على درب حياته اليومية الجديدة ونستمع - من خلال بعض قصائده - إلى نبض لحظاتها الأولى كما يسجلها في مناجاته لذاته. إنه يحس في هذه المرحلة بأنه بلا جذور ولا بيت. هو أنى ذهب غريب لا بيت له، وحيثما سار لا يجد الأرض التي يغرس فيها جذوره. سيقول بعد ذلك بوقت طويل في آخر دواوينه (هكذا تكلم عبد الله): «إن من لا يغرس جذرا لا يؤسس لنفسه وطنا، ومن لا وطن له في وطن ما لا جذر له، ومن فقد الجذر فقد الثمرة، ومن فقد الثمرة فقد الجذر.» لكنه الآن وحيد، من خلفه البحر ومن أمامه الهاوية، لا عجب إذن أن يقول لنفسه: أرقص على حبل بين جحيم وجحيم. والجحيم تصنعه لحظات حياته اليومية ومفرداتها المتكررة؛ الريح الثلجية للبسمات التي تستقر كالسكاكين في عظامه، عريه المعروض على الأنظار في الواجهات الزجاجية لأولئك الذين يطعمونه، عواصف القلق التي تنفذ في مسامه، فيرتجف ويتجمد حتى الموت، ويصرخ في طلب الدفء وفي انتظار مطر الحوار الذي يدق نوافذ الآمال الذابلة ويمد - بقوته الناعمة - الجسور التي تصل بين الشفاه والآذان.
2
Unknown page