لم يكن يدرك قبل الآن مدى حاجته الماسة إلى هذا اللون من الحرية، كان يشعر بأن قوته تضاعفت ضعفين، وطوله ازداد ثلاثة أضعاف، وأخيرا عرف زيتون سر أحمد، سر رغبته في أن يصبح بحارا، ولماذا خاطر بالكثير حتى يصبح ربانا، وعندما كانا يتقابلان مصادفة على ظهر السفينة أو الطريق إلى مقر كل منهما، كان زيتون وأحمد يتبادلان نظرات ذات معنى، وبسمات يعروها الخجل. لم يكن زيتون يدرك قبل الآن معنى التحرر؛ كانت الحرية تعني كل شيء له، وكان أحمد يدرك أن أخاه الأصغر لن يعود إلى جبلة في وقت قريب.
كانا يعيشان في البحر، معا أو كلا على حدة، وهما ينتقلان من العشرينيات إلى أوائل الثلاثينيات، وعملا في سفن لنقل البضائع، وسفن للركاب، وسفن تجمع بين البضائع والركاب، كانا ينقلان القمح من ولاية نبراسكا الأمريكية إلى طوكيو، والموز البرازيلي إلى لندن، والحديد الخردة الأمريكي إلى الهند ، والأسمنت الروماني إلى نيجيريا، وعند الرحيل من نيجيريا كان دائما ما يتسلل إلى الباخرة ركاب دون دفع الأجرة، وفي كل مرة يغادران لاجوس كانا يعثران على رجلين أو ثلاثة مختبئين، وكانا دائما يتبعان الترتيبات نفسها، اعمل على ظهر السفينة عملا تسدد به أجرة الرحلة، وعندما نصل إلى الميناء التالي سوف نطلق سراحك وتتمتع بالاستقلال.
كان العمل الذي يحظى بأكبر تقدير هو العمل على متن سفن البضائع؛ إذ كانت هذه السفن تقضي في العادة أسبوعا أو أسبوعين في الميناء، وهو ما كان يتيح للطاقم الوقت الكافي لاستكشاف المنطقة. واستكشف زيتون عشرات المدن، وكان دائما يرسو وجيبه عامر بالنقود ولا يتحمل التزامات لأحد، وكان يستأجر سيارة، وينطلق بها فيلتهم المدن المجاورة للميناء، ويستكشف الساحل، ويزور المساجد الشهيرة، ويقابل نساء يطلبن منه أن يبقى.
ولكنه كان رجلا جادا، وربما أشد جدا مما ينبغي في بعض الأحيان، لم يكن سرا أن البحارة يحبون لعب الورق ويستمتعون بشراب عارض، ولكن زيتون لم يلعب الميسر ولم يذق قطرة من الكحول طول حياته. وهكذا، فعندما تنتهي ورديته كان يعود للعمل؛ كي يساعد كل من يطلب المساعدة، فإذا لم يتوافر أي عمل، يبدأ زملاؤه في طاقم السفينة شرب الخمر، ويأخذ بعضهم نقود البعض بلعب الورق. كان يجد تسرية مختلفة؛ كان يذهب إلى حمام السباحة الصغير على ظهر السفينة، ويربط حبلا حول وسطه، ويربط الطرف الآخر في الحائط، ثم يبدأ السباحة، ثلاث ساعات متواصلة، حتى يقوي ذراعيه وظهره، ويختبر مدى قوته، كان دائما يختبر نفسه؛ حتى يتبين ما يستطيعه جسده.
وفي النهاية، كان زيتون قد قضى عشر سنوات في العمل بحارا، وشاهد وهو يعمل على متن سفينة تدعى «ستار كاستور» الخليج العربي، واليابان، وأستراليا، وبلتيمور، وعلى متن سفينة تدعى «كابيتان إلياس» شاهد هولندا والنرويج. شاهد قطعانا من الحيتان الحدباء، والحيتان الرمادية، وأسراب الدولفين وهي ترشد السفن إلى الموانئ. شاهد الشفق القطبي، والنيازك المنهمرة على الأمواج السوداء التي يتهاوى بعضها فوق بعض، وسماء الليل الصافية حيث تكاد النجوم تبدو لصفائها في متناول الأيدي، كأنها تتدلى من السقف في خيط شص لصيد السمك، عمل فوق متن السفينة «نيتسا»، والسفينة «أندروميدا»، وظل يبحر في السفن حتى عام 1988، العام الذي رست فيه سفينته في هيوستن، فقرر استكشاف الداخل، وكان ذلك ما أتى به إلى باتون روج، وجاءت به باتون روج إلى كاثي، وجاءته كاثي بزخاري، ونديمة، وصفية، وعائشة. •••
أدى زيتون الصلاة على أرضية منزله ثم رقد في فراش نديمة، وأخذ يتساءل في نفسه عن المكان الذي أوت إليه زوجته وبناته هذه الليلة، وما إذا كن وصلن إلى فينيكس أم لا، وحمد الله على سلامتهن، وعلى سلامته، وعلى أن الجميع سوف يلتقون عما قريب.
السبت 3 من سبتمبر
استيقظ زيتون في الصباح مع الشمس، فصلى ثم ذهب يستطلع حال الفريزر، لم يكن قد تبقى فيه الكثير، وما كان مجمدا أصبح يوشك أن ينصهر، فإذا بقي إلى اليوم التالي فسد، وقرر أنه لا بد أن يؤكل ذلك اليوم، فأخرج بعض الهامبورجر للكلاب وقرر شواء الباقي في المساء، وقال في نفسه إنه سيدعو تود وناصرا وأي شخص آخر يعثر عليه، فيطهون كل ما بقي من اللحم ويقيمون ما يشبه الحفل - على كآبته - فوق السطح.
وسار بقاربه عبر الشارع لإطعام الكلاب.
وسأل الكلبين الأولين: «كيف أنتما يا أولاد اليوم؟»
Unknown page