وأخيرا استعادت بعض قوتها ثم قالت: يا امه أنا رايحه أموت.
ما هذه الفكرة الملازمة تكررها زينب من حين لحين؟ لم تذكر الموت كل يوم وكل ساعة؟.. ألا تني عن إيلام أمها لحظة من الزمان؟.. وأي سلطان تخضع لحكمه يجعلها دائمة الترداد لذكر الموت؟. لكنها في كل مرة كانت تقول ذلك، كانت تحس بشيء يوقفها عن الاستمرار دون ما تريد أن تخبر به أمها، وتأخذها رعشة تخاف أمها عليها عاقبتها. فكم رأتها بعد أمثال هذه الرعشات فريسة حمى شديدة تهز كل وجودها وتكاد تجيء على حياتها..
ولم يكن تخوفها ليكذب إلا قليلا ... لذلك استعجلت بزينب بعد هذا الإنذار بالموت الذي سمعته أن تقوما، فقامتا تريدان الدار خشية أن تجد في المزرعة ما يزيد حمى ابنتها فظاعة وقسوة. لكن زينب لا تحملها رجلاها ولا تستطيع أن تسير.. هنالك ساءلت أمها نفسها: هل تحملها على كتفها كما كانت تحملها طفلة؟ أو هل تنتظر أن يمر من معه مطية يعطيها إياها.. ولم لا تحملها؟ وهل هي بعد هذا النحول الذي أصابها وهذا الموت المسرع نحوها بأثقل وزنا منها أيام الطفولة؟.. ولكن ماذا عساه يقول من يراها كذلك!.. وهل في هذه الحال حال الفناء الأخير يتساءل الناس أن حملت أم ابنتها؟! وفيما هي في هذا التفكير وما يشبهه مر بها راجع معه حمارته فلما رأته نادت به ورجعت إلى جانبه حتى دخلتا بزينب الدار.
ولم تصل إلى غرفتها حتى عاودها السعال محملا صديدا ودما، ثم انتابتها حمى ذهلت فيها عن نفسها، وجعلت من حين لآخر تهذي بكلام متقطع. ثم ارتعدت أمها أن سمعتها تصيح بكل قواها تنادي: يا إبراهيم! وعلاها بعد ذلك سكون أخرس لم تسمع فيه أمها حتى ولا تردد أنفاسها. وأمسكت بيدها فإذا هي باردة، وإذا عيناها مقفلتان، ووجها ناحل، وعليها كل علامات الموت الذي رددت زينب اسمه في يوميها الأخيرين مرات. وأمام هذا المنظر المريع أبرقت عينا الأم ولمعتا بشيء من اليأس، ثم انقضت ممسكة بيدي ابنتها صارخة: زينب.. يا زينب؟.. ثم خرت إلى جانبها كالجبل المنهد!.. وفي وحدتها إلى جانب الغارقة في لجج الفناء همست: خلاص!
دخلت في تلك الساعة ابنتها الثانية راجعة من عمل النهار، فلما رأت ما فيه أمها من اليأس جلست إلى جانب الحائط خائفة ترتعش، وفي لحظة انسلت من مكانها، ولم تخرج إلى الفضاء حتى علا صوتها بالبكاء. وفي وسط السلم قابلتها أم جازية فعلمت أن في الأمر شيئا، وأسرعت إلى الغرفة، وعند الباب قابلها حسن راجعا مع أبيه من الجامع، فأمسكها بيده، ولكنها تخلصت منه وسارت حتى بلغت دارهم، فلما رآها أبوها سألها عما أصابها فأجابت في بكائها: أمي بتعيط عند زينب.
ولم يكد الرجل يسمع ذلك حتى خر صريعا كأنما أرسل عليه الموت صاعقته. ثم قام إلى دار خليل فوجد العجوز وحده فنظر إليه نظرة المفجوع في ولده ثم سأله: هي ماتت يا خليل؟!
ولكن خليل لا يدري..
وفي غرفة الموت جلس العجوزان إلى جانبي الفانية التي قلبت طرفها، فردت على أمها أن ستبقي ابنتها لحظة على الأرض بعد. وعلى الباب جلس حسن ممسكا بيديه رأسه تنهمل دمعة اليأس من عينيه، وما عرفت إليها قبل اليوم سبيلا.
ثم طلبت زينب إلى أمها أن تأتيها بمنديل محلاوي موضوع في صندوقها، وأخذته بيدها فوضعته على فمها، ثم على قلبها. وكانت آخر كلمة لها أن يوضع المنديل معها في قبرها. وفي وسط الليل أقفلت عينيها وراحت إلى أعماق سكونها، وارتفع صراخ العجوزين يعلن في الفضاء موتها.
Unknown page