ثم لم تستطع الاستمرار في القول، إذ خنقتها العبرة، وامتلأت بالدمع عيناها، وأمها إلى جانبها ترى وتسمع فينفذ إلى قلبها من الألم سهم تتقد له ضلوعها ولا تطيق أن تنطق بكلمة أو أن تحير جوابا. وهكذا سكتت المرأتان، وظل المكان حولهما تتمشى فيه آيات الحزن الصامته فتزيده عبوسا وحزنا.
ارتعدت زينب، وعاودها السعال الذي أصبح يشق صدرها فتخر مما يأتيها به الألم كأنها فاقدة الصواب، وبذلك انتبهت أمها مما كانت فيه من تيهاء الأحزان، وأسندت ابنتها بيدها. وهاته الأخيرة لم تعد تفقه شيئا مما أمامها، قد وضعت يدها الناحلة على صدرها، وعلا وجهها الشاحب ما رد إليه بعض قديم لونه. ثم ارتمت بعد سعالها منهوكة خائرة.
جاءت الظهيرة وأرادت زينب أن تخرج رغما عما بها من الضعف، فصحبتها أمها وسارتا. وزينب تتخذ غير الطرق التي تصل إلى مزرعة عمي خليل، فتندهش أمها وتعلوها الغرابة ، لكنها لا تستطيع أن تعارضها في شيء. والضعف الذي يعتاد الآباء أمام أبنائهم المصابين عاودها، فلو أن ابنتها طلبت إليها المحال لسعت إليه. والربيع يعلن نفسه في كل النواحي، ويمد رواقه على كل الأشياء، وشمسه تتلألأ أشعتها فوق أوراق الشجر الناضرة، والترع انتهت من فصل التطهير وابتدأ الماء يتخذ سبيله إليها، والقبرات والعصافير والطيور الصغيرة تنط على الجسور وتطير على مقربة من الأرض. ومن حين لآخر يمر سرب الحمام مرتفعا في الجو فرحا بالشمس وبالربيع.
سارتا تتبع الأم ابنتها حتى وصلتا قريبا من الموردة، ثم وقفت زينب مرة واحدة وعلاها شيء من التردد رأته أمها على وجهها، فوقفت هي الأخرى، ولم تقل شيئا. ثم مشت لما مشت ابنتها حتى الموردة، ثم انعطفتا إلى اليسار، فلما صارتا عند الشجرة ارتمت تحتها زينب تائهة مغمي عليها.
والشجرة قد أخذت هي الأخرى حظها من زخرف الربيع، وازينت، ومدت ظلها إلى ما يجاورها. وكل شيء قد جاءته جدة الزمان بلباس جديد إلا البرسيم المتروك للربة قد بدأ يذبل وينتظر موته القريب.
بقيت أم زينب تعالج أن تفيقها. فطورا تهزها كأنها تحسبها نائمة، فهي تريد أن توقظها، وتارة ترش على وجهها الماء. والبنت مطروحة فوق الحصى لا تعي شيئا مما تفعله أمها بها. وأخيرا بعد أن تمشى اليأس إلى نفس الأم، وجعلت تذرف في تنهدها دمعات تجود بها مآقيها الناشفة، ارتمت فوق ابنتها تطوقها بيديها وتبكي كأنها الطفل، وقد نسيت سنها من أجل هاته العزيزة عليها تودع عالمنا الأرضي في نضارة العمر وريعان الشباب.
ثم جاءت إلى نفسها كلمات زينب حين لامتهم على تزويجها، وجعلت تندب حظ هذه الفتاة البائسة وتضرع إلى السماء ألا كانت على شيء من الرحمة فلا تفجع العائلتين في محبوبتهما! وبقيت كذلك زمنا لم تعرف مقداره حتى ذهب بكل أفكارها أن أحست بزينب تتحرك تحت يديها، فجعلت تلاطفها كأيام كانت صغيرة في مهدها، وتسألها تريد أن تسمع منها كلمة لتطمئن على أنها حية ترزق.
تنهدت زينب كأنما خف عنها حمل كان يثقلها ، ثم فتحت عينيها وجاهدت أن تقوم، فساعدتها أمها حتى أسندتها إلى الشجرة. فلما استقرت نفسها بعد ذلك الإغماء لم تعلم إن كان نوما هادئا أو حلما فظيعا مرت بنظرتها على الموجودات أمامها ثم تنهدت وألقت برأسها إلى الأرض.
أما أمها فلم تجد ما تقول، وكلما أرادت أن تسأل عن شيء أحست بمانع يصدها عن الكلام. وأخيرا سألت: عايزاش حاجة يا زينب؟
فلم تجب زينب بحلوة ولا بمرة، وبقيت مطرقة كأنما تفكر. ولكن الذي أصابها تركها مهدودة القوى ضعيفة لا تستطيع شيئا حتى الكلام، فوجدت في هذا السكوت المطلق من اللذة ما يجده الخادر الذاهل قد عمل فيه الألم، وأنهكه ثم لم يعد يحس به ولا بشيء مما حوله.
Unknown page