ليه مالك يا زينب؟. إحنا حا نفضل صغار كده نعيط من كلمه ونعيط من مفيش.. علشان إيه بس بتعيطي يا أختي.. الحق علي أنا يا زينب، وإن كان كلامي زعلك ما بقتش أعيده أبدا. انت مش عارفه إن الواحد يقلق لما بتغيبي بيخاف تكوني رحتي الغيط والا هنا والا هنا والأيام دي الدنيا بتبقى سقعة في الليل.. ما تعيطيش أمال.
هيه!.. إنه يخشى عليها برد الليل، ويؤلمه أن يراها تبكي.. لم يارب حين أردت أن تهبها حسن لم تهيء قلبها لحبه؟ ولم تضعه في طريقها حين بدأت تجد في كل إنسان محبوبها، لعله كانت تجد فيه من يملأ وجودها ويكون معها سعيدا في هذه اللحظات، فبدل أن تذرف الدمع ويبقى هو بين يدي الألم يكونان في هناء ورغد؟. وهل بعد جهادها العنيف الذي عملت لتعطي ما تستطيع أن تتصرف فيه من وجودها إلى الشخص الذي يعد نفسه وتعده هي ويعده الناس صاحبها الشرعي، هل بقي عليها من لوم، أو هل لأحد أن يتهمها بشيء، أو أن يسدي إليها غير كلمات الإعجاب بثباتها؟! وإذا كانت قد جاهدت طاقتها لتعطي زوجها قلبها، فإذا هذا القلب في ملك غيرها من قبل، هل ينبغي إلا أن نعذرها أكبر العذر ونلقي التبعة على الزمان القاسي؟!
لو أن إنسانا رأى في هذه الساعة من الليل وجه هذه المحزونة البائسة، أو سمع تنهداتها تشق السكون والصمت المحيطين بها، لأخذته الرحمة بها وبكى معها. ولو أنه دخل إلى قلبها ورأى فيه مبلغ ما يتشاجر الإحساس والواجب لعدها من كبار المجاهدات إزاء قوى الطبيعة العاتية. لذلك لم يستطع حسن البقاء إلى جانبها من غير أن تنهل من عينيه دمعة ليست أقل حرارة من دموع زوجته.
بقي الزوجان كذلك: أحدهما يبكي في صمت جزعا على صاحبه، وصاحبه تتجاذبه العوامل فلا يجد في طريق الحياة رشدا، ويذرف الدمع على حيرته وضيعته.
ثم مد حسن يده إلى كتفي زينب فأجلسها، وطوقها من بعد ذلك بذراعه، وضمها إليه ضمة كلها الحنان والعطف، وجعل يلاطفها ويداعبها كما تلاطف الأم المحزونة ولدها المريض، ويتودد إليها بكلامه الرقيق: برضه تزعلي مني أنا يا زينب؟! دا مش كان عشمي.. ولو كنت عارف إنك حاتخدي على خاطرك من كلمة والا اتنين كنت عملت زي الناس اللي يفضلوا يخزنوا لما تيجي عبارة كده ولا كده يطلعوا خلقهم على نسوانهم. ولكن أنا قلت علشان عارف إنك عاقله وتفهمي أن كلامي ده خايف عليكي وبدي لما تروحي هنا والا هنا في الليل تبقي تقولي لي.
وصل هذا الكلام إلى أعماق نفس زينب، وأحست بموقفها أمام زوجها، وأنها وحدها الأثيمة الخاطئة. غير أن ما ركب في الإنسان من حب تبرير عمله والدفاع عنه وخوفها السكوت الذي يزيد حسن ألما دفعها إلى أن تجيب: وإذا كنت قاعده في القاعة من ساعة العشا لساعة ما طلعت.
فنظر إليها حسن، وهي لا تزال تبكي، وقد علاه لجوابها الدهش والاستغراب!.. في القاعة؟! ولم لم تقل؟ وماذا كانت تعمل هناك؟ ولكن ثقته المتناهية بزوجته جعلته يغضي عن كل هذه الأسئلة وكثير مما ورد إلى خاطره، وبقي يعاتبها على سكوتها المطلق الذي لزمته أولا، ثم يضمها إليه ضمة كلها الاقتناع والارتياح.
وبقي إلى جانبها يحادثها ويلاطفها حتى عاد إليها سكونها، ثم أطفأ النور من جديد، واضطجع في مرقده قريبا منها، وجعل يسألها في أمور بسيطة لا قيمة لها، وكل أمله أن يذهب بها النوم إلى هدوئها. ولكن لم تكن إلا لحظة حتى غلبه التعب من عمل النهار وانقطع حديثه ونام. أما هي فلم تغمض عينا، بل باتت بحال أشد من حالها من ثلاثة أيام، وهي تلوم نفسها آونة على إيلام زوجها ببكائها، وأخرى تريد أن تهب له قلبها. وتجاهد لتقطع بكلمة أخيرة من إرادة ثابتة كل صلة بينها وبين إبراهيم، فتسمع كأن صوتا داخليا يسألها: «وهل تستطيعين؟»، وتتصور حبيبها واقفا إلى جانبها يبسم لها عن قلب طيب، ويرسل يده حول خصرها النحيل، ويقول لها: «أنا أحبك».
ما أكبر سلطان خيال المحبوب على النفس! يجعلنا ننسى كل شيء سواه، وننسى همومنا وأحزاننا، وننسى العالم وما فيه فلا يبقى إلا هو وابتساماته وكلماته، وإذا كان وجود من نحب إلى جانبنا، يعانقنا ونعانقه ويرشف ثغرنا ونقبله في درر وجناته، سعادة ليس بعدها سعادة، فإن خياله وذكراه، وذكر ما عمل وما قال، حلم هو ألذ الأحلام.
ارتفعت زينب من مضجعها متكئة على رسغيها كأنما تريد أن تأخذ إلى صدرها هذا الخيال العزيز إلى جانبها، وتجيء به معها تحت غطاء واحد تعانقه وتقبله. وبقيت كذلك حتى لم تعد رسغاها قادرتين على حملها، فوضعت رأسها من جديد على وسادتها، وهامت روحها في عالم غير محدود، وداخل جسمها همود، وراحت بكلها في نوم هادئ عميق.
Unknown page