وأخت زوجها لا تفهم شيئا من كل ما يفهمانه.
وقطعوا القسم الأكبر من الطريق، ثم مروا بمزرعة من مزارع السيد محمود، هنالك قال إبراهيم: وبكره نشتغل هنا..
واستمر الثلاثة في طريقهم، وأخذوا بأهداب الحديث، والمتحابان يتذاكران خلسة ماضي حياتهما، ويتمنيان خلسة كذلك وقتا آخر مثله. فلما اقتربوا من البلد افترقوا، واتخذ إبراهيم طريقه لداره وهو أسعد ما يكون يهنئ نفسه برجوع زينب إليه، وينتظر أن يراها غدا عند هاته المزرعة التي سيشتغل فيها، وتكون وحدها، ويبثها شوقه، ويرجع لها وترجع له بالرغم من حسن الذي خان صداقته.
أما هي فرجعت إلى الدار حيرى تنظر لكل ما حولها ولا تدري أي لون يتخذ أمام عينها. أهو ذلك اللون الضاحك البديع الذي عرفت أيام أحلامها الأولى حين كان الوجود يعشقها وكانت تعشق الوجود؟ أم أنه اللون الكالح الذي أقذى عيونها أيام آلامها؟ ولم يحل لها من بعد أن تبقى مع أهلها تحدثهم عما رأت في السوق وما عملت، بل فضلت أن تنفرد في غرفتها علها تجد في الوحدة ملجأ من حيرتها. لكن الوحدة في أغلب الأحيان تزيدنا حيرة وتبعث إلى نفوسنا قلقا ووجلا. لذلك لم يكد يجيء العصر حتى نزلت تفتش عن جرتها لتتخذها حجة تخرج بها لتذهب فتفتش عن إبراهيم حيث يكون، ولتستعيد معه سعادة حرمتها من قبل على نفسها، ثم أذكى الربيع نارها في صدرها ودفعها إلى طلبها من جديد. .. نعم، تجده وتعطيه نفسها، وتذوق وإياه تلك اللذة التي ذاقت من قبل. ولذة الهوى والاستسلام للمحب ما أحلاها! .. نعم، زينب ما أحلاها لخلي لا زوج له. لمن يملك بيده كل نفسه يعطيها لمن يشاء. ولا جنة تحوي اللذة التي يحويها الحب والاستسلام للمحب. ولكنها خيانة وغدر من زوجة يثق بها زوجها.
نزلت وهذه الأفكار تردد نفسها في صدرها. ومرت بالجامع يعمره مصلو العصر، ثم بوسط البلد، ثم اختطت بعد ذلك سكة الترعة قد ابتدأ يعمرها النساء كما زادها حركة الراجعون من السوق فرادى وجماعات من بلدها ومن البلاد المجاورة، وهم ما بين شاب من شبان الفلاحين فارغ اليد، وآخر محمل حماره من عزاله ولوازم غيطه، وثالث من تجار السوق وقد وضع خرجه فوق بغله وأمسك عمود الخيمة بيده واعتلى الدابة وحملها.. وقلائل من النساء اضطرهن كساد سلعهن للبقاء طويلا حتى يبعنها، وملأت زينب أدوارها والوقت لا يزال نيرا، ثم رجعت إلى الدار ولم تتم شيئا مما دار بأحلامها، وبدأت ترتب للعشاء وتنتظر مجيء خليل من الجامع، وحسن من الغيط حيث كان ينكش مع «التملي».
أما خليل فلم يبطئ في رجوعه إذ ما لبث الإمام أن سلم حتى قام إلى باب الجامع وارتكن قليلا ليرتاح ثم خرج ولا يزال الضوء بين الأثر، والأشجار تلعب الريح بأوراقها لم يجلل رأسها السواد بعد، والآفاق البعيدة كأنما تموج بسكان الأرض، والسماء قد تدثرت بغطاء الليل النازل وإن لم تخف عن النظر في تلك البقية من رسم النهار اختط العجوز طريقه جادا في التسبيح حتى لقي صاحبا من أمثاله عجنوا الدهر وخبزوه، والآخر آت من الغيط يريد أن يقضي ركعات المغرب في المسجد قبل عشائه. لم يستطع الرفيقان إطالة الكلام في أمر الدودة وما يسمعانه من ظهور آثارها في بلاد المركز، والاستعاذة بالله من شرها وأذاها، لذلك كان خليل في داره قبل عادته، وحسن قد وجد ساعة غطست الشمس، أنه لم يبق أمامه إلا ستة خطوط فلم يرض أن يتركها ليرجع مرة أخرى في الغد، وبالرغم من ضجر «التملي» معه لم يستطع هذا الأخير أن يترك صاحبه وحده، فاضطر للجد معه حتى انتهيا منها وآية الليل تكاد تكون محت كل أثر للنهار. فلما فرغا أدلجا ما بين المزارع السوداء التي تنتظر القمر المختبئ وراء الستار لم يجيء دوره بعد، وقد سبقته النجوم واحدا بعد الآخر يأخذ كل مكانه، وهما يتحدثان بصوت خافت وقد ذكراهما الآخران ما سمعا عن أخبار الدودة، وجعلا يأسفان على من أصابتهم بشرها. فقال حسن: ومتى انتشرت لا تنفع فيها نقاوة ولا شيء أبدا. كل يوم يزيد عن يوم. إياك يا شيخ ربنا يبعث يومين حر يهلكوها ويريحوا الناس من أذيتها.
وبعبارات تشف عن الألم لما يصيب الناس من هاته الآفة اللعينة جعل يذكر مع صاحبه أضرارها ورذائلها. وقطعا الطريق الطويل في هذا الكلام وأمثاله، والليل قد انتشر على الأرض، والسكة ساكتة لا حركة عليها تأخذ راحتها بعد ما حملت ساعة المغرب من الراجعين لدورهم أناسا ودواب وأشياء يحملها هؤلاء وأولئك، والهواء الجميل ينعش صدريهما ويتمتعان بلذته ورقته. فلما وصلا كانا أقرب للعشاء منهما إلى المغرب، وخليل جالس ينتظرهما تائها في أفكاره، قد غاب عن الوقت المسرع في مسيره. فسلما عليه وقصا عليه سبب تأخرهما، ونادوا بالطعام فجيء لهم به، فأكلوا جميعا طعامهم البسيط، ثم أخذوا من بعده بعض ما اشترته زينب من السوق من الفاكهة، فلما فرغوا منه سأل حسن زوجه عما قضت فيه نهارها، فسكتت مبهوتة لهذا السؤال على غير العادة ثم أجابت: أهو زي كل سوق..!
حقا ذلك شيء يستدعي الدهشة والاستغراب! أي جديد يمكن أن يعلم هو بحصوله حتى يسألها اليوم عما لم يسألها عنه من قبل؟ وهل تغير على الأرض من أمر أو حدث من حادث؟ أو أنه يعلم خافية الأنفس واطلع على الغيب فعرف ما دار بينها وبين إبراهم؟ وماذا دار بينهما؟ إن هو إلا بعض معروف القول مما تخاطب به أي إنسان تقابله! وهل حسن يعلم ما في نفسها؟ وإن كان يعلم فلم غدر بإبراهيم في طلب يدها والسعي لزواجها؟ هل تلك عهود الإخوان وما يجمل أن يكون بينهم من الرابطة؟ أما كان الأجمل به أن يسعى جهده في ضمها لإبراهيم حتى تذوق شيئا من السعادة إن كان في الحياة سعادة!
ذلك السؤال لم يقصد حسن به شيئا إلا استفهاما عاديا لا يهمه بم أجيب عليه، حل من نفس زوجه مكانا وأعطته من الأهمية ما لم يقصد هو أقلها. لذلك لم يعبأ بتلك الدهشة التي أجابت بها، وكل ما ظنه أنها متهيجة الأعصاب لبعض أمر المنزل، أو لتأخره في رجوعه، أو سوى ذلك مما لا يقلقه ولا يستدعي منه التفاتا، وجعل يتكلم في أشياء أخرى، ثم يرتب مع تمليهم ما سيعملانه في الغد بعد أن انتهيا من سقية القطن ونكش الجانب الذي لم يشرب منه.
غريب أمر هذا الوجود المملوء بالأسرار والخفايا لا نطلع منه على قليل، ولا نعرف من مكنونه يسيرا، ومع ذلك نحسب أنا نلم بكل ما يدور فيه، ونعتقد أن قد أوتينا من العلم حتى نرى ما يجول بالخواطر ويجيش بالصدور. وبرغم إقرارنا كل يوم بعجزنا أمام خفاياه فلا يمنعنا ذلك من تقدير ظهورها واضحة أمامنا، فنبني على هذا الظن النتائج ونرتب الأعمال ونشكل المستقبل بما يهدينا له حدسنا، فإن أخطأ ما حسبنا قلنا من جديد إن الغيب لا يدلنا عليه، وإن أسعدتنا المصادفة وأصبنا كما تفعل كثيرا مع حسني البخت قلنا هذا عليم بذات الصدور.. ذلك شأن زينب.. حسبت في سكوت حسن بعد جوابها المقتضب وتحويله الكلام إلى شيء آخر دليلا على علمه بكل شيء واطلاعه على ما جل ودق من أجزاء نفسها، وأنه لم يبق إلا مداراته والسلوك معه سلوك السائر في قفر خطر يعمل لكل خطوة تقديرا أن تقع به في مهلكة. وتحول ظنها يقينا في قليل من الزمان، وآمنت أن كل ما تراه حق، وأن غير ما رسمت لنفسها من السبيل مؤد لا محالة إلى ما لا تحمد ولا تحب.
Unknown page