من أبرز ما تميز به الزيدية في فقههم هو الاجتهاد. هذه الميزة جعلت مذهبهم (( أكثر المذاهب الإسلامية نماء وقدرة على مسايرة العصور)) على حد تعبير الشيخ محمد أبو زهرة. الاجتهاد ملكة علمية ونفسية تمكن صاحبها من استنباط الأحكام الشرعية من مظانها، والثقة بنتائج ذلك الاستنباط بقطع النظر عن مخالفة أو موافقة السابقين من العلماء. وعندما نقول: إنها ملكة، نؤكد أنها ليست مجرد تحصيل مجموعة من العلوم، فقد يجمعها واحد، ولكن لا يستطيع أن يستنبط حكما واحدا. وعندما نشير إلى أنها علمية ونفسية، نشير إلى أنه لا يكفي امتلاك الملكة العلمية، إذ أن صاحبها قد يستطيع عندها أن يستنبط أحكاما، ولكن ما لم تكن لديه الجرأة والشجاعة على العمل بما أداه إليه بحثه وتأمله، فإن وجود تلك الملكة لن يفيد كثيرا. والقول بأنها ملكة لا يعني أنها غير مكتسبة بل يمكن اكتسابها بالجهد والمثابرة. والتعريف الشائع للاجتهاد بأنه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي. إنما يشير إلى ما يعمله المجتهد، ولكنه لا يبين جوهر الاجتهاد، أو منطلقه الأساسي التي هي امتلاك الملكة المشار إليها. أصعب ما في الاجتهاد امتلاك الملكة النفسية. فقد يستطيع طالب علم مجد في تحصيله أن يمتلك الملكة العلمية، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للملكة النفسية. والسبب يعود إلى ثلاثة أمور : أولها: إن زيادة العلم تولد التواضع، وغالبا لا يحصل المرء على الملكة العلمية إلا بعد تحصيل علمي معمق، يتولد معه تواضع شديد، وشعور هائل بالجهل. هذا يتنافى مع ما تتطلبه الملكة النفسية من الثقة بالنفس، وبنتيجة البحث العلمي. ثانيها: إن الاجتهاد يعني في نهاية الأمر الافتاء، وكل من يخشى الله يهاب من تحمل نتائج الفتوى، ويفضل أن يتحمل غيره ذلك. ثالثها: إن طبيعة العلاقة بين طالب العلم والرموز العلمية الذين استفاد منهم تولد شعورا بالدونية أمامهم بحيث لايجرو على ممارسة التفكير مستقلا عن رأيهم وتوجههم. يقابل الاجتهاد التقليد، وهو أساسا غياب الملكة النفسية أولا، ثم الملكة العلمية. وعمليا هي العمل وفق قول الغير. وذكر الدليل لا يغير من واقع التقليد، فكل من ليس لديه الملكة مقلد ضرورة، سواء عرف دليل القول أم لم يعرفه. لأنه إن كان فاقدا للملكة العلمية فإن معرفته بالدليل لن تنفعه حيث إنه لا يملك قدرة على تقييم ذلك الدليل. وإن كان لديه الملكة العلمية وفاقدا للملكة النفسية فإنه لن يتبع القول بسبب الدليل، وإنما بسبب المصدر القائل. وقد حرصت المدرسة الزيدية على إبقاء تلك الملكة النفسية بين علمائها، وكانت وسيلة ذلك أن حرمت على من امتلك الملكة العلمية ممارسة التقليد، وأوجبت عليه اتباع رأيه دون رأي غيره. كان هذا لتقديرهم للاستقلال الفكري والعلمي. أما من لم يمتلك تلك الملكة العلمية، فلم تطلب منه أن يمارس الاجتهاد بل أجازت له أن يقلد أهل العلم. فميزت بين تقليد مذموم وممنوع وبين تقليد واجب. فالمذموم الممنوع هو التقليد من قبل أهل الملكات الاجتهادية، وأما الواجب فهو التقليد ممن فقدها. وقد حرصت من هذا أن لا يتوقف أهل الاجتهاد عن ممارسته، كما حرصت أيضا على أن لا تخلق فوضى علمية في الساحة بأن توهم الناس بأنه يكفي للخروج من التقليد معرفة الدليل من كتاب أو سنة، بحيث يصير كل من قرأ كتابا في الحديث ظانا نفسه مجتهدا. وقد نجحت في هذا. من الانجازات الأخرى التي حرص عليها الزيدية، وهي تأتي في موازاة الانجاز السابق هو إيجاد التوازن بين أمرين: أحدهما: الحاجة إلى استقرار المجتمع على رأي فقهي موحد خصوصا في القضايا العامة، يمنع من بلبلة فقهية بين الناس، حيث يكون لكل جماعة رأيها الفقهي الخاص بها. ثانيهما: المحافظة على حق الاجتهاد الذي قد يفضي إلى استنباط آراء تخالف الآراء السائدة قطعا.
Page 73