أود في هذا السياق أن أبين وجهة نظر حول التعدد القائم في المذاهب التشريعية والعقائدية. لا يقلل أحد من أهمية وإيجابية وجود التعدد الفكري الذي يعكس التنوع الموجود بين أفراد المجتمع وظروفهم. يذهب البعض إلى أن تعدد المذاهب الإسلامية الفقهية والعقائدية كما هو اليوم يعكس حالة من تلك التعددية الفكرية الإيجابية بين المسلمين. وعليه فإن بقاء هذه الحالة أمر مرغوب ومحمود، وغاية الطموح والأمل هو التعايش السلمي بين أبناء تلك المذاهب، وتجاوز مظاهر التكفير والتفسيق والتضليل التي شتت المسلمين قرونا من الزمان مع الإبقاء على وجود المذاهب من حيث اسمها، ومن حيث مضمونها. فيبقى المنهج الفقهي الشافعي بإزاء الحنفي، ويبقى المنهج العقائدي الإثنا عشري بإزاء الأشعري، وتبقى التسميات المتعددة أيضا. إزاء هؤلاء هناك من يرى أن الوضع القائم اليوم يخالف المشروع، لأن الأصل الذي كان عليه السلف هو عدم وجود مدارس فكرية، ذات مناهج متميزة في فهم النصوص، واستنباط الأحكام، وبالتالي فلا بد من تجاوز هذه المذاهب جميعا، والعودة إلى الينابيع الصافية من الكتاب والسنة. ما أذهب إليه يؤيد المذهبية فكرة، ولكنه ينقدها ممارسة. إن التنوع المذهبي كما هو اليوم قد يعكس تعددية فكرية، ولكنه قطعا لا يعكس تعددية فكرية تنطلق من واقع العصر وقضاياه، بقدر ما يعكس التعدد الذي نشأ قبل ما يقرب من 12 قرنا من الزمان. وبهذا الاعتبار، فإنها ليست حالة إيجابية، بقدر ما هي تأطير لتفكير المسلمين بأطر ثابتة وقارة صنعت لتعالج ظروفا غير ظروفنا، وواقعا غير واقعنا. إن التعددية الإيجابية إنما تكون انعكاسا للتنوع الموجود في الفهم ووجهات النظر بين الناس، وأيضا في الظروف التاريخية القائمة. أما ما هو موجود اليوم فتجميد للتنوع الذي وجد في مرحلة زمنية محددة هي مرحلة التأسيس للمذهب، وفي فهم ووجهة نظر محددتين، هي تلك التي للمؤسسين للمذهب، ثم فرض ذلك القالب الزمني على جميع الأزمنة التي تلت، وقسر وجهة النظر تلك على كل العقول الذي أتت. إن استقرار المذاهب على ما هي عليه طوال 12 قرنا بالرغم من التغيرات الجذرية التي مرت بها المجتمعات الإسلامية، وبالرغم من ظهور عباقرة فاق بعضهم مؤسسي المذاهب في قدراتهم العلمية، وفي أدواتهم البحثية، لأمر جدير بالنظر. إن التعدد الفكري له عوامل متعددة، بعضها يعود إلى عوامل فردية تتمثل في تميز عبقرية فكرية وتفرد جاذبية شخصية لدى عالم من العلماء. وأخرى إلى عوامل سياسية حيث يسعى أطراف في صراع سياسي إلى تسويغ مواقفهم المتنوعة بالاستناد إلى رؤى فكرية. وأخرى إلى عوامل اجتماعية حيث يكون اختلافها مدعاة لاختلاف الأوليات التي تبحث، أو الإجابات التي تقدم. وجميع هذه العوامل، وغيرها، تتسم بسمة أساسية وهي أنها متغيرة دوما. وعليه فما كان منها سببا للتنوع في مرحلة ما، قد زال، وتغير بحيث إن المفترض أن تكون قد ظهرت مدارس ومذاهب أخرى تعكس التنوع الجديد القائم. والحالة الطبيعية والصحية هو أن يستمر لذلك التغير في نشوء المذاهب بحيث لا يستقر الحال لأكثر من ثلاثة أجيال أو أربعة على الأكثر. ولا يعني هذا إلغاء الأفكار السابقة، وإنما النظر إليها لا بوصفها أفكارا ننتمي إليها، وإنما بوصفها أفكارا نستفيد منها في تأسيس الحالة الفكرية الملائمة مع تفكيرنا، ومع واقعنا. ومع أن الغاية هي تجاوز المذهبية، إلا أن هذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال التعرف عليها. وذلك لأنه لا يمكن لنا الانطلاق الصحيح إلى واقع جديد إلا من خلال فهم واقعنا الحالي. فالمستقبل يبدأ "الآن"، وما لم يكن لنا حاضر راسخ، وماض عريق، فلا مستقبل لنا. ففهم أطروحات المذاهب الإسلامية القائمة، والاطلاع على تاريخها، لا بد منه حتى في مرحلة مذاهب إسلامية حديثة باعتبار أنها تمثل اجتهادات وتجارب لا بد من الاستفادة منها. فالفكر عندما يتطور فإنه يستند إلى الأفكار التي سبقته، ولكنه يتجاوزها، أو يعيد صياغتها بما يلائم ظروفه التي يعيش بينها. وأي مدرسة فكرية ناشئة ستضع أمامها الاتجاهات السابقة لها، وسوف تختار منها ما يحقق شرطين أساسين:
* أن تكون تلك القضايا مما يعالج الواقع القائم إيجابيا.
* وثانيهما أن تكون أسسها الاستدلالية قوية. على ضوء ما سبق، فإنني أرى أن أي مشروع يعمل على إبقاء الحالة المذهبية كما هي عليه يعمل في اتجاه غير صحيح. سواء كان من حيث التركيز على أحقية مذهب واحد، أم من حيث التشديد على حق الاختلاف في المذاهب.
المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية
يقدم الزيدية رؤية دينية للحياة تنطلق من مسلمات العقل وثوابت القرآن الكريم، تبين موقعنا في هذه الحياة، وترسم لنا المسار العام الذي يجب علينا أن نسير فيه. بحيث تشكل تلك الرؤية منطلقا وإطارا للحركة والتقدم. منطلقا من حيث إنها تدفعنا للحركة، وإطارا من حيث إنها تحدد وجهة تلك الحركة، وتشير إلى مقوماتها. وأي حركة واعية في هذه الحياة، سواء أكانت حركة فردية، أم جماعية، أم حركة حضارة برمتها، لا بد من أن تستند إلى رؤية للحياة، وخلاف ذلك دلالة على تدن في الوعي من جهة، وعلى الارتكاز على النزعات الغرائزية، والانفعالات الظرفية التلقائية في توجيه دفة الحياة من جهة أخرى. مقدمة لاستعراض موجز لتلك الرؤية، سأقوم أولا بإشارة مجملة إلى أثر الثقافة على الواقع الحضاري بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ثم بيان بعض مظاهر ثقافة الشلل التي سادت وحكمت المجتمعات المسلمة عبر قرون من الزمان. قطعا، ليس الغرض مجرد سرد لرؤية فكرية وسياسية لمذهب من المذاهب، بل الطموح هو إلى أن ينظر في ما يمكن أن تقدمه هذه الرؤية لحركة الأمة نحو الأمام، ولذلك كانت هذه المقدمة لازمة.
Page 18