29

Zawji Tharwat Abaza

زوجي ثروت أباظة

Genres

ولا يسعني إلا أن أقول: إن العلاقة بينهما كانت مبنية على الحب والتقدير المتبادل على مدى خمسين عاما.

وأما علاقته مع الكاتب العظيم توفيق الحكيم فقد بدأت منذ طفولته عندما كان يقرأ كل الكتب التي تصدر في تلك الآونة من تأليف «عبد القادر المازني» و«طه حسين» و«توفيق الحكيم» وكان هذا الأخير له مكان معروف في شارع قصر النيل يجلس فيه في الصباح، وكان «ثروت» يمر به ويكتفي بالنظر إليه من بعيد، إلى أن جاء يوم وكان توفيق الحكيم خارجا من مبنى الإذاعة فتعارفا، وكان مما قاله توفيق الحكيم لزوجي: «إنني أستمع إلى تمثيلياتك عن أقاصيص العرب، ولا أخرج إذا عرفت أنها ستذاع.» ولم يصدق «ثروت» كما كان يقول لي.

وكانت هذه هي بداية الكاتب «ثروت أباظة»، وبعد ذلك بسنوات اتصل الود بينهما وأصبح توفيق الحكيم يعتبر «ثروت» ابنا له يأتمنه على أسراره المالية ويكل إليه رعاية صحته أيضا، حتى إنه عندما كان يمرض كانت السيدة التي ترعاه وتقيم في المنزل تتصل بثروت في الهاتف حتى يسرع إلى نجدتها ويأتي بالطبيب، ورشح له الدكتور «أحمد عبد العزيز إسماعيل» الطبيب المشهور وأصبح المعالج له على مدى سنوات طويلة.

وجاء الصيف وتوفيق بك يحب أن يذهب إلى الإسكندرية، ولكن الأحوال المالية لم تكن على ما يرام؛ فعليه التزامات كثيرة جدا لا يعرفها إلا المقربون إليه، وتصادف أن طلبت ممثلة معروفة من «ثروت» أن تشتري منه رواية لتمثلها في السينما وكانت تتصل به تليفونيا، وكنت أتلقى أحيانا المكالمة ولكن لم ترحني طريقتها، فقلت لزوجي: «لا أريدك أن تتعامل معها.» وهذا بدافع إحساس داخلي لا أكثر ولا أقل، ولما ضيقت عليه الخناق رضخ لإرادتي وزارته هذه الممثلة في اليوم التالي في جريدة الأهرام وكررت الطلب فقال لها: «إن عند توفيق الحكيم بك رواية يريد أن يبيعها؛ فتعالي معي نذهب إلى مكتبه فهو مجاور لمكتبي.» فقالت له: «أنا لا أستطيع أن أدفع له ما سيطلبه مني.» فقال لها: «ضعي ما معك على مكتبه وسنرى ما يقول.» وعندما دخلا طلبت منه الرواية ووضعت نقودها أمامه؛ فتردد قليلا ثم تمت الصفقة. وهكذا ارتاح توفيق بك وارتحت أنا.

وفي الإسكندرية كان ثروت يخصص لتوفيق بك يومين في الأسبوع من الصباح وحتى المساء، يتناولان طعام الغداء في مطعم في وسط البلد، ثم يذهبان إلى السينما من 3 إلى 6، ثم يكملان السهرة في نادى السيارات. وحدث أن كان لي طلب سريع لا يحتمل التأجيل ولكنه على الرغم من ذلك طلب مني تأجيله على رغم أهميته؛ لأن هذا اليوم هو يوم توفيق بك. ولا أخفي أنني ثرت وغضبت وأعلنت غيرتي من توفيق الحكيم. رن جرس الباب عندنا فردت أمينة، وسمعت خادمة توفيق الحكيم تبكي وتطلب أن ينجدها «ثروت» بطبيب، وكان في جلسة بمجلس الشورى بعيدا عن أي تليفون؛ فأسرعت أمينة إلى سيارتها وقررت أن تذهب إلى أبيها، ولكنها لم تكن تعرف الطريق، ولأن في داخلها إصرارا فقد انطلقت وسألت المارة وعساكر المرور حتى وصلت في النهاية، وما إن رآها أبوها حتى تملكه القلق وسألها في لهفة عن سبب مجيئها فقالت: «إن توفيق بك مريض ويريد طبيبا.» فطلب فورا الدكتور «أحمد إسماعيل» وتقابلا بعد دقائق في منزل توفيق بك الحكيم، وظل يعوده يوميا إلى أن تماثل للشفاء.

وأما الأستاذ الكبير «عباس محمود العقاد» فقد كان صديقا لوالده «دسوقي باشا أباظة» وكان مثلا أعلى «لثروت» من حيث الجرأة والشجاعة والخصومة الشريفة، وكان يحضر ندواته مع الشاعر الأستاذ «العوضي الوكيل». وحدث يوما أنه حدد لناشر ميعادا في بيته، ولكن الناشر تأخر خمس دقائق، فما كان من العقاد إلا أن أمر خادمه بأن يصرفه ويقول له إنه تأخر عن الموعد خمس دقائق وكاد الناشر أن يعود أدراجه لولا أن الخادم أخبر العقاد أن «ثروت أباظة» مع الناشر؛ فعاد إلى حجرة الاستقبال وأمرهم بالدخول، وقال: «لولا أن «ثروت» معك ما قابلتك.» والمعروف عنه الصراحة والاعتزاز بالنفس المبالغ فيه. وله قصة طريفة ومشهورة جدا، وهي أنه عندما كان مقررا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب في الستينيات عرض عليه شعر حديث فنظر إلى الورقة وبسرعة قال: يحول إلى لجنة النثر.

وكان الصحفيان اللامعان «حسين وأحمد أبو الفتح» صديقين لأبي، واستمرت علاقتنا بهما حتى اضطرا إلى مغادرة مصر نهائيا بعد الثورة؛ لأن كتابات «أحمد أبو الفتح» كانت تحرج السلطة. فقد كان «أحمد أبو الفتح» يشارك الضباط الأحرار اجتماعاتهم وكان مثلهم ثائرا على حكم الملك فاروق ومتفقا مع مبادئهم تماما، ولكن بعد وصولهم للسلطة لم ينفذوا الديمقراطية التي كانوا ينادون بها؛ فبدأ «أحمد أبو الفتح» يكتب في جريدته المصري ويهاجم الدكتاتورية، وانتهى الأمر بمغادرته وطنه ليقيم هو وشقيقه حسين في جنيف لسنوات طويلة.

وكنا حينما نزور «جنيف» نتصل بهما ويدعواننا دائما إلى منزلهما ويكرماننا ما وسعهما ذلك، وكانا يحتفلان بنا ليلا ويتجنباننا نهارا ؛ خوفا علينا من غضب الضباط في مصر، وخصوصا أن سيدة من أصدقائهما اعتقلت في مطار القاهرة لأنها كانت في ضيافتهما في جنيف. ومنذ ذلك اليوم تجنبا المصريين حتى لا يسببا لهم إحراجا.

وكان لأحمد أبو الفتح آراؤه الخاصة؛ فهو معارض عنيد، وكان «ثروت» يدخل معه في مناقشات سياسية ملتهبة، وكان «أحمد أبو الفتح» يتمسك برأيه، ولكن يناقش بهدوء في حين يتحمس ثروت، ويعلو صوته مجلجلا، وأتوقع أنا أن تنتهي هذه الصداقة التي أعتز بها وخصوصا أن زوجة «أحمد أبو الفتح» «ثريا عكاشة» شقيقة العظيمين «ثروت عكاشة» و«أحمد عكاشة» صديقة قريبة إلى قلبي، وكنت أخشى على هذه الصداقة أن تدمر من حدة المناقشات، ولكن في اليوم التالي تعود المكالمات التليفونية كما كانت وكأن شيئا لم يكن، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

وكان له صلة قوية جدا بأستاذه الدكتور «عثمان خليل عثمان» وكان الدكتور عثمان يدرس له القانون الدستوري في كلية الحقوق، وكان يستضيفه في بيته ويشرح له ما استعصى عليه فهمه، وكان يتناول عنده كل ليلة طعام العشاء؛ فزوجة أستاذه «هدى أباظة» كريمة «عبد العظيم بك أباظة». ويستمر الحال على هذا المنوال إلى أن تقترب مواعيد امتحانات آخر العام، فيطلب الأستاذ من تلميذه أن ينقطع عن زيارته لأنه هو الذي سيضع الامتحانات، وقال له: «إذا أخفيت عنك أسئلة مما سيجيء في الامتحان أكون قد ظلمتك، وإن أطلعتك على هذه الأسئلة أكون قد خالفت ضميري.» وانقطع التلميذ عن زيارة أستاذه العظيم حتى انتهت الامتحانات.

Unknown page