وتقول لي زينات شقيقة ثروت إنها فعلت نفس الشيء مع خادمة أخرى وهي طفلة فقال لها أبوها: هل لأن الله حكمك عليها تتصرفين بهذه الطريقة؟! ولو كنت أنت في مكانها هل ترضين بهذه المعاملة؟ ويحكي لي زوجي أن أباه كان يأخذه معه إلى مطعم الأمريكين وصالة «جروبي» ويقول لي: إنه لم يذق حتى الآن أحلى مما كان يأكله في هذين المكانين أيام الطفولة. وكيف كان يجلسه مع كبار الشعراء والأدباء، وكيف كان يطلب منه الجلوس مع كبار زواره من الوزراء حتى ينزل هو من الدور العلوي ويستقبلهم، أظن أن كل هذا كون شخصية الابن، وكون اتجاهاته في الحياة وكون حتى طريقة كتاباته بعد ذلك، وكانت مزيجا من الأدب والسياسة.
وأما بالنسبة لوالدته فكان الأثير عندها؛ لأنه جاء بعد ثلاث سنوات من الانتظار والقلق، وأضفت عليه من حنوها وحبها ما يجعله يملك الدنيا وما فيها. شكا لها يوما من ضائقة مالية ألمت به؛ فلم تتردد عن أن تقول له: «أنا وما أملك فداء لك.»
وما من مرة ألمت به ضائقة مالية إلا وفتحت له أبواب السماء تحيطه برحمة الله وستره. وللأسف ليس من حقي أن أسترسل في التفاصيل.
وكانت فخورة به إلى أبعد الحدود، ولا يفوتها عمل من أعماله الإذاعية أو التليفزيونية. ولما اختارها الله إلى جواره كان ثروت في الثالثة والأربعين من عمره، وبدا متماسكا أول الأمر، وفي يوم استيقظ في الصباح وأخذ يجهش بالبكاء من أعماق قلبه، فأخذت أهدئ من روعه ولكني قلت له: للأسف لا أستطيع ان أعوضك عنها؛ فالأم لا تعوض. ولكن يعلم الله أنني حاولت.
ترعرع «ثروت» و«شامل» في بيت كله محافظة على القيم والشرف والنزاهة، فشربا من هذا النبع الصافي، وكانا في شبابهما من شباب الأحرار الدستوريين ثم جاءت الثورة وحلت الأحزاب إلى أن حكم أنور السادات فأعاد الحياة السياسية، واختار «شامل» حزب الوفد واختلفت آراؤهما السياسية في الشئون الداخلية والخارجية ف «ثروت» من المؤيدين و«شامل» من المعارضين، وكانت تقوم بينهما مناقشات حادة إلى أن قال «شامل» لا داعي للمناقشات في السياسة؛ فكل منا له رأيه الذي لن يحيد عنه؛ وتجنبا المناقشة في السياسة بقدر الإمكان.
و«شامل» دخل مجلس الشعب سنة 1976م، وبقي فيه حتى سنة 1979م، وكان من المعترضين على «معاهدة كامب ديفيد»، ثم عمل رئيسا لمجلس إدارة شركة المساهمة للأقطان وبقي بها إلى سنة 1990م، وكون علاقات مع العملاء اليابانيين والسويسريين، وأصبح مرجعا للعاملين في قطاع القطن على مستوى مصر كلها.
و«صفية النقراشي» هي زوجة «شامل» التي تساعده دائما وتقف إلى جانبه، وأصبحت أباظية بالأقدمية وبحبها لأهل زوجها، وهي كريمة «محمود فهمي النقراشي» باشا رئيس الوزراء ما قبل الثورة، والذي قال للإنجليز في أوج مجدهم: «اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة!» وهي ذات خلق رفيع وثقافة متشعبة.
وأنجبا «هدى» و«إبراهيم» أما هدى فهي على خلق عظيم، حصلت على الدكتوراه في الأدب الفرنسي وأصبحت أستاذة في كلية الآداب جامعة عين شمس.
وأما إبراهيم فهو الطيبة بعينها، ويتمثل بالقيم والأخلاق القويمة، يعمل الآن في «تورنتو بكندا» ولا أستطيع أن أذكر أولاد الدسوقي باشا دون أن أذكر أخاهم الخامس «سامح أباظة» فهو ابن بنت شقيقة الدسوقي باشا، توفيت والدته بعد ولادته بقليل؛ فضمه دسوقي باشا إلى أولاده فصاروا جميعا إخوة، ولا أقول كالإخوة، بل إخوة فعلا، لم يفرق الوالدان بينهم في المعاملة ولا في الحب، وسمعت من «زينات» و«كوثر» شقيقتي ثروت عندما تتكلمان عن طفولتهما تقولان «نحن الخمسة ...» وكان سامح من شباب الأحرار الدستوريين، وشرب السياسة من منبعها، وله ذاكرة قوية، يعرف تواريخ تأليف الوزارات وأسماء الوزارات، ونعتبره الآن مرجعا في تاريخ مصر.
أما شقيقتاه فهما عنده المثل الذي يجب أن تكون عليه المرأة الفاضلة وهما «زينات» و«كوثر» وقد تحلتا بالقيم والأخلاق، وترعرعتا في بيت كله ود وإخلاص؛ فاكتسبتا طهارة النفس والعلو عن الصغائر، والتزمتا بما تعلمتاه من طيبة الأم وترفعها، ومن جلال الأب وتمسكه بكل ما هو سام ونبيل. وتزوجت زينات من طوسون أباظة، ووقفت إلى جانبه وشرفت أهلها بكل معنى هذه الكلمة، وقادت سفينتها بعقل وحكمة، وأنجبت «أبا بكر» و«دلبار» وهو اسم تركي على اسم والدة شوقي باشا، ونشأتهما على الصراحة والصدق.
Unknown page