شربت مريم كأسا من يد الليل فزادتها أرقا وغما، نظرت من شباكها في وجه هذا الليل الأسود، وفي عيونه المتعددة البيضاء الصفراء، فهالها جموده وسكوته وأرقها منه تلك اليد الممدودة تحمل كأسا أخرى؛ كأس الذكرى والأسى، وكأنها سمعت تنهداته وهو واقف أمامها حزينا مثلها يقول: تعالي أحملك إلى بلاد النسيان، تعالي أسقيك في بيتي غير هذه الكأس، في بيتي عند باب الشمس.
أحست مريم بشيء يشتعل في فؤادها، بل كادت تسمع فيه تأجج النيران، فهتفت صارخة: ليت شعلة من الجحيم تحرق جسدي، جسدي هذا الذي تضن به نفسي علي.
وراحت إلى الباب فأقفلته، ثم عادت تفكر بما جرى لها في فترة من الزمن قصيرة، وبما صادفته من أسباب السعادة التي تسعد أية فتاة في غير حالها. - لقيت ابني بعد أن ظننته ميتا، لقيت أبي فإذا هو أب محب حنون رقيق الشعور كريم السجايا عظيم الخلق، وعاد من قطف زهرة حبي يستر حملي مستغفرا فاعتنق ذنبي وتزوج عاري، أرى حولي أيادي لا تتحرك في غير خدمتي، أسمع حولي أصواتا لا تردد غير كلمات الحب والمعروف والعطف والحنان، القس جبرائيل يغمرني بإحسانه، والدي يدهشني بعطفه وحنانه، عارف يحزنني بمروءته وشهامته ووفائه، وولدي ولدي! آه من نغمات صوته وأزاهر ابتسامه وضياء نظراته، لولاها لكنت سعيدة، لسلمت نفسي إلى الليل يحملني إلى عالم النسيان يدفنني في قلب ظلماته، نعم نعم، بنوا لي هيكلا من أزاهر السعادة فدخلته فإذا هو خربة تصفر فيها الرياح، آه ثم أواه، ما أجملك، أيام الصبوة! أيام السذاجة، ما أبهاك! يوم كنا نقطف زهرة الأقحوان فنعد بتلاتها مؤمنين بما تقول واثقين بما تحكم كأنها صوت من السماء، واليوم اليوم؟ إن أصوات السماء المتجسدة حبا وإحسانا لتقع على آذان منا صماء وقلوب مستحجرة، ربي ما أجمل جسد الحب، وما أقبح نفسه! ما أبهجه في عيني، وما أكرهه في فؤادي! ما أجمل الفضيلة بعيدة وما أقبحها قريبة! تنادينا من العلاء فننصت إليها ونجيبها ونسعى إليها طاقتنا، ثم تلمسنا بيدها المحناة بعناء الجميل فننفر منها هاربين.
وسمعت إذ ذاك بومة تنعق فاستنكرت صوتها ونهضت عن الكرسي مذعورة، فجلست على الديوان قرب السرير تمسح العرق المتصبب من جبينها ووجنتيها وصدرها، فعثرت بالذخيرة المعلقة في عنقها، فجعلت تقبلها مناجية أمها، وذكرت الليلة التي حلمت ذاك الحلم، فسمعت أمها تقول لها: اخرجي من القاهرة. - خرجت من القاهرة التي فزت فيها وسقطت فيها، وها أنا في محيط من السعادة أسمع أصوات الحياة ؛ حياة الفن، حياة الجهاد، حياة المجد، حياة الشقاء، فأود أن ألبيها، أمي، أمي! أنت الوحيدة التي لا يغير البعد ولا القرب حبها ولا الموت ولا الحياة، ليتك الآن إلى جانبي أشعر بلمس يدك وأسمع صوت حنانك اللذيذ.
وقفت أمام الشباك كأنها تنادي أمها، فسمعت زوجها يطرق الباب فلم تفتح، فظنها عارف نائمة وعاد إلى غرفته، ولكن مريم حاولت أن تنام فحال الحر دون رغبتها فخرجت من غرفتها إلى الفناء تمشي حافية على البلاط، فسرت في رجليها إلى قلبها نفحات باردة أنعشتها، ثم تحرك الليل فهب نسيمه فبرد جسمها المحترق وجفف العرق المتصبب منه، ولامست نفحات السحر جفنيها فأخذها النعاس.
دخلت غرفتها ونامت ساعة فأيقظتها نوبة من السعال شديدة أقامتها فجأة من سريرها، فسمعها عارف تسعل فنهض من فراشه مسرعا وجاء يحمل شمعة مضيئة، فتح الباب ودنا من مريم يسند رأسها وهي تسعل، فأحس برعشة غريبة مضنكة إذ لامست يده شعرها المبلل بالعرق البارد، وجمد الدم في عروقه حين رأى الدم في الطشت أمامه، فمرت في مخيلته كالبرق صورة عمه القسيس وسمع صدى لعنات رددها في قلبه.
عادت مريم إلى سريرها فجلس عارف على كرسي إلى جانبها يربت يديها ويواسيها. - اتركني يا عارف، لا بأس علي وحدي، رح نم يا أخي، رح نم، أعطني الإبريق قبل أن تتركني، وملعقة من تلك القنينة، سلمت يداك، اتركني الآن، وأقفل الباب.
الفصل الرابع والعشرون
كان القس جبرائيل منشغلا بفحص أوراق له قديمة حينما دخل عليه القس بولس والقلق باد في وجهه، فحياه يسأله عن حاله: وما لي أراك مضطرب البال؟ - هل أخطأت في ما فعلت؟ - لم أفهم ما تريد؟ - هل أخطأت في جهري أن مريم بنتي؟
فعمد القس جبرائيل إلى أوراقه يقلبها وهو يقول دون أن ينظر إلى أخيه الراهب: وهل أنت مرتاب بما تظنه حقا؟
Unknown page