وبين كانت مرة ترعى المواشي، رآها القسيس جالسة على عادتها في ظل شجرة تردد الأدوار المحزنة وتنتحب، فاقترب منها على حين غفلة وخاطبها قائلا: لماذا تبكين؟ فذعرت سارة وسارعت تمسح دمعها فأعاد سؤاله، ما بالك يا سارة تبكين؟ فأطلعته على بعض سرها، أخبرته أنها في ليلة عيد الصليب منذ أربع عشرة سنة ألقت عند باب دير من أديرة الأيتام ابنتها، وكانت طفلا رضيعا، وأنها لم تزل تذكر أن الدير الذي جاءت إليه هو في آخر البلد في وسط الجبل، وأنها تعرفت هناك بفتاة اسمها مريم وحنت إليها حنو الأم إلى ولدها، وسألته أن يساعدها في البحث عن أصل تلك الفتاة وقصتها، وأن يسعى في نقلها إلى ديره، فامتقع وجه القسيس لهذا الخبر لظنه أن الفتاة ثمرة فعلته، ولكنه طيب نفس سارة ووعدها خيرا.
وبينا كانت الراعية ترعى مواشيها في مكان قصي من البلد بعد هذه المقابلة ببضعة أيام، نامت في أصيل النهار برهة، فلذعتها في رجلها حية سامة، ولم يكن أحد هنالك تستغيث به، وقد حاولت أن تعالج نفسها بيدها؛ فربطت رجلها فوق الجرح بخيط من الشعر وعادت إلى الدير، ولكنها لم تصل إليه إلا بعد أن سرى السم في جسمها، فبعثت تدعو القس جبرائيل إليها فلبى مسرعا، ثم استدعى لها طبيب الدير فأبطأ في مجيئه، ولما وصل وجد أن السم سبق الدواء وأن لا مرد للقضاء، ولما أحست سارة بدنو أجلها أخذت يد القسيس وقبلتها، واستحلفته بالمسيح وبالعذراء أن يقضي حاجتها ويعرفها ويتمم وصيتها: «أرجوك أن تبعث إلى الدير ... تستدعي مريم، أحب أن أراها قبل أن أموت، وهي إذا عرفت بحالتي تحضر حالا.»
فبعث الراهب رسولا إلى الدير يستدعي الفتاة، وبدأ يعرف، سارة أخبرته أثناء الاعتراف قصتها كلها، فاغرورقت عيناه واضطرب فؤاده، وبعد أن جعلها في حل من ذنوبها ركع عند فراشها، فخاطبها قائلا: «وأنا أعترف قدامك يا سارة وقدام الله وأستغفرك قبل موتك، أنا جرجي - جرجي مبارك - دخلت الدير بعد أن جنيت عليك، اصفحي عني اغفري لي.» وأخذ يدها يقبلها فأحست بدموع تتساقط عليها، وأجابته وهي شاخصة بعينها: «ما حقدت عليك مرة ولا شكوتك مرة إلى الله، فلا تنس وصيتي أستحلفك بالمسيح ولا تبح لمريم بالسر، وإذا التقيت بابن البلان قل له: إنني سامحت وصفحت، دخيلك، أنت ابن بلدي، أنت أبي، أنت سيدي، أنت أخي فكن لمريم أبا وأخا أيضا، وخذ هذه الذخيرة أعطها إياها لتحفظها ذكرا مني.» فصعد القسيس الزفرات ثم صلى عند رأسها، وقال وهو يسألها أن تردد كلماته: قولي معي يا بنتي: «من غور الحياة أرفع اللهم صوتي، من وادي الأردن أحمل إليك يا رب وزري، من أعماق الأرض أنظر ضارعا إلى جبال قدسك، وإلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.»
وفي تلك الآونة دخلت مريم البيت، فمدت سارة يدها وجذبت الفتاة إليها فقبلتها، ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها كأنها تريد أن تطلعها على ما في قلبها، كأنها تريد أن تسمعها همس الأسرار في نفس الموت، فشهقت شهقتها الأخيرة وشخصت بعينها ووقعت في أنفاسها الخمدة الأبدية.
فردد القسيس: «من أعماق الأرض يا رب أنظر ضارعا إلى شمس رحمتك وإلى سماء حبك.» وجثت مريم عند جثة سارة تبكيها بكاء شديدا، والقس جبرائيل وقد أحس من نفسه وهنا يتأمل الفتاة مضطربا حائرا.
الفصل الثاني
ليس أفضل من معقول يقرن إلى بداهة، ولا أجمل من ورع يقرن إلى هوى، ولكن هذا نادر، والنادر قياس الشعراء الحكماء، أما جمهور الناس، وبينهم اليوم عدد من المتثقفين كبير، فالمعقول عندهم يعجز عن مرافقة أهوائهم، فيضلون السبيل ويظنون الأوهام والسمادير حقائق رائعة. وإن أصحاب الأخلاق الكبيرة والإدراك المحدود من هذه الطبقة لينزعون غالبا إلى تحقير في أعمالهم وأعمال الناس قلما يفيد، بل إلى تزييف فيه تضليل وتغرير، فتلعب إذ ذاك يد التفريق في نزعاتهم وأهوائهم بل في طباعهم وغرائزهم.
العلوم النفسية «بسكولوجي» شغل مفكر الغرب اليوم، فيحلل العواطف ويشرح الأهواء توصلا إلى الحقيقة الكامنة في النشوء، بل إلى السر الكامن في تلك الحقيقة، وهذه الطريقة في العلوم النفسية نشأت عن العلوم المادية وسلكت مسلكها، وقد كان الدين في الشرق سابقا إليها فدعاها الحكماء والمتورعون «محاسبة النفس»، على أن الفرق بين الشرقي والغربي هو أن الأول يحاسب نفسه «الأمارة بالسوء» ليؤدبها فيذلها ويسترقها، والثاني يحلل نزعات النفس ليدرك خيرها فيعززها، ولا مشاحة أن كلتا الطريقتين تولد التردد والتذبذب وتؤدي إلى تشويش فيه ضعف لا إلى معرفة فيها قوة، ولعمري إن من يقتلع شجيرة النفس كل يوم ليراقب نموها لا يفوز بشيء كبير من آمال النفس العالية، والشرقي من هذا القبيل أبلغ حكمة من الغربي؛ لأنه أقرب إلى التوحيد في الحياة، لا وسط عنده في أمياله ولا ظل بين النور والظلمة في نفسه، الناسك عندنا ناسك، والخليع خليع.
والقس جبرائيل من هذا القبيل شرقي صميم، شرعته التوحيد في نزعاته وأمياله وتشوقاته وآماله، وقد كان قصده الأكبر الاهتداء إلى طريق واحدة مستقيمة، تؤدي به إلى محجة واحدة معلومة، فوجد هذه الرهبانية وسلكها عشر سنوات معتصما بمبدأ التوحيد، على أن المنعرجات الزاهرة العاطرة في تلك الطريق، ونار القرى التي تضرمها الحياة في تلك المنعرجات استوقفته مرارا، فمال بوجهه إليها عاطفا شيقا، مال بوجهه فقط ولم يعرج مرة عليها، ولا غرو إذا استوقفته طيبات الأرض؛ فإن الغريزة البشرية لم تزل حية فيه عاملة، وللوراثة حق على الإنسان لا ينكر، ولا يقهر، ولا يحتقر.
ولقد طالما غلت في صدر الراهب مراجل أهواء سكنتها الإرادة ولم تطفئ النار تحتها، نار الحياة من يطفئها غير الله؟ فقد خيل إلى القس جبرائيل مرة أن تلك النار أمست رمادا، ولكنه أدرك الحقيقة حين عادت سارة إلى الدير، فنفخ إذ ذاك الشيطان في الرماد فشعشعت خلالها بقية نار قديمة، فسارع الراهب إلى إطفائها فلم يظفر ببغيته، فاستعاذ منها بالله صابرا متجلدا، ولم يكلم سارة مدة إقامتها في الدير إلا عند اللزوم، وقلما اجتمع بها. ساقتها إليه الأقدار بعد أن طوفت بها في أغوار الشقاء عشر سنوات، فترحب بها وفتح لها باب الدير عملا بواجب مقدس، قربها منه تأديبا لنفسه، أحسن إليها طاقته سرا ليغفر الله ذنبه، ولم يكن في إمكانه أن يعمل عكس ذلك، من العار أن يطردها من الدير، ومن الجبن أن يطردها من نفسه، لذلك كان يقف في طريقه عاطفا شيقا عند تلك المنعرجات الزاهرة العاطرة، فيسكره أريجها ويعبث بنفسه سحر جمالها، فيتأكد إذ ذاك أن لم يزل خلال الرماد وميض نار، تسمل عينيه إذا نظر إليها وتحرق فؤاده إذا اقترب منها، ولما كانت سارة على فراش الموت أحس من نفسه بارتياح استغفر الله عليه مرارا، على أنه بعد أن عرفها وسمع وصيتها واطلع على سر شقائها جاشت في صدره تلك النزعات، فضاعفت الشجون فيه والعذابات. مثل لنفسه امرأة وحيدة تئن في كهف قصي من ألم الولادة وتدفن بعدئذ طفلها هنالك، فترقرقت في عينيه الدموع. فكر بالفتاة الغريبة وبذاك الراهب الأثيم والدها، فراعته أسرار هي في يد الزمان كالعواصف في أيدي الآلهة، كأن الموت أشعل في قارعة الطريق طريقه نارا لا تضاهيها نيران الحياة بشيء، كيف لا وقد ماتت سارة تاركة بين يديه وديعة عزيزة؛ صبية جميلة، واستحلفته أن يحتفظ بها ويبذل الجهد في سبيلها، أن يكون لها أخا شفيقا وأبا حنونا؟ فسمع كلماتها متبرما متألما كأنه يقول: وهل من نهاية لمغبة إثمي؟! آه من تلك الشعلة البشرية التي يضرمها الشباب فترة من الزمن فتملأ الحياة نارا يسد دخانها آفاق النفس إلى الأبد.
Unknown page