فجلست مريم إلى المائدة تلقم ابنها وتحاول إشحاذ شهيتها بشيء من عسل بلادها وقريشه، ولم تأكل إلا قليلا.
ثم نهضت مستسلمة إلى فريد وقد خرج من البيت يجر لطيفة بذيلها.
فحملته على ظهرها ومشت قدام مريم إلى الكرم، فاعترتها في الطريق نوبة سعال شديدة وردت منها الوجنتين وأخفت هنيهة حدقة عينها.
وبينا هي وولدها ولطيفة في الكرم كان القس جبرائيل والقس بولس يتحدثان بشأنها. - لا يجوز أن تقيم هنا. - سننقلها إلى لبنان بعد أن يتم ما حدثتك به وعليك أن تساعدني، فإن في الزواج خلاصها وسعادتها. - وهل ابن أخيك راغب؟ - بل مصر وملح في ذلك، وقد أنبأته برجوعنا وسيجيء من حيفا اليوم أو غدا. - وإذا كانت لا تريد ما نريده لها. - لا أشك في أنها ترضى بما فيه خيرها، وفي كل حال كنت ناصحا لها مرشدا مثلي، حبب إليها الزواج، فإنه نافع لها ولابنها ولوالده، بل لازم متحتم، هو الحق الذي ليس غير الخير فيه، زواجها بابن أخي عارف يرفع عن الولد ذنبا ليس ذنبه؛ يزيل من حياته ظلمات الغش ولطخة العار، وعارف في هذا العمل يكفر عن إثمه، ومريم تصادف فيه ولا شك زوجا فاضلا محبا كريما عطوفا حنونا، لقد هذبه الدهر وعلمته تجارب الأيام، لقد أصلح الشاب شأنه. - ولكن مريم ... - هب أني مخطئ في ظني فلست متحولا عن عزمي، زواجهما لازم ضروري، متحتم عليهما، ينبغي أن يكون للولد أب معروف فلا يلعنه في مستقبل حياته، ينبغي أن يتزوج عارف بمريم ليغفر الله ذنبه، ولا يهمني عاشت وإياه بعدئذ أم لم تعش، الحق يا قس بولس؛ حق الله يعلو ولا يعلى عليه، والعدل قبل السعادة، العدل فوق السعادة ...
جلست مريم تحت الدالية تنظر إلى السهل المنبسط أمامها وإلى البحيرة الزرقاء الراكدة، وقد ظللتها شمس الصباح بظلال الجبال القائمة حولها شرقا وغربا، لقد لقيت أباها، ولقيت ابنها، ولم تكن تتوقع بعد هاته الدهشات المحزنة المبهجة دهشة أخرى، لم تكن تحلم بما يضمره لها القس جبرائيل وبما تكشفه لها مخبآت الزمان. - وماذا يهمني أبي؟ إذا جهرت به إذا ادعيته أفضحه، فينبغي أن أنساه. أما القس جبرائيل فقد صنع صنعا جميلا ليس في إمكان بشر أن يكافئه عليه، صحيح، صحيح، ولكني مع ذلك أكرهه، خدعني مرتين، عذبني ليخلصني مما يظنه إثما فرماني بما هو أشد عذابا وويلا. ومرضي من يخلصني منه؟ جاء بي إلى هذه الديار القاصية، إلى هذا الغور المهلك ليجمعني بابني، وكان في إمكانه أن يستصحبه إلى مصر، إن في كل ما يصنعه شيئا غامضا خفيا، سريا يدل على حب الذات والكبرياء والاعتداد بالنفس، يكسر قلوب الناس ليقيم رأيه، يزدري أشياء الغير ليعزز أشياءه، يجر على الناس الويل والبلاء باسم «الحق السماوي» وباسم الله، فينبغي أن أنساه أيضا، سأشكره في الآخرة يوم أقف أمام الرب إلهي.
آه ما أمر الحياة! لقيت ولدي فلذة كبدي ولا أستطيع أن أفرح بلقائه، لقيت والدي وكأنني لقيت عدوي، ألم يكن عدو أمي؟ أكنت شقيت يا ترى لولاه؟ أكنت لقيت من الحياة أمرها لو أنه أحب أمي وأكرمها فاحتضنتني ورعتني بالتربية، قذف بي إلى هذا العالم وفر هاربا، جبان رعديد! لئيم أثيم! يستحق الذبح. وأين أبوك أنت يا مهجتي، يا حياتي! أتجتمع به يا ترى بعد موتي كما اجتمعت أمك بك فازدادت حزنا وغما؟ معلمي عارف أفندي! ابن الأكابر! الأديب السري! ويل الشبان أمثالك! ولكني أحببته فجنى علي، أحببته حبا ضحك مني عليه، كنت ساذجة في تلك الأيام، وخطيئتي الكبرى أنني إذا أحببت أحب حبا لا يدرك حدودا ولا يعرف خداعا، لو علمت اليوم مقره لذهبت إليه وولدي بيد والخنجر باليد الأخرى، شقيت الأم فلا يجوز أن يشقى ابنها، لا، وحياة الله!
بمثل هذه الأفكار كانت تزيد نفسها اضطرابا وغمها غما، ولا ريب أن اشتداد وطأة المرض عليها أظلم فؤادها وحرمها لذة العطف والحنان، «الحياة لعنة في الأرض!» هذا أحسن ما قاله القس جبرائيل، فالجميل في الحياة إنما هو الطعم في شبكة الصائد، اللذات حبائل وأشراك مهلكة، والبعد عن اللذات عذاب لا يطاق، ما العمل إذن، ما العمل؟ الحياة لعنة في الأرض!
ولما وصلت إلى البيت عائدة من الكرم وولدها سألها أبوها: لما أنت مضطربة كئيبة؟
فلم تجبه، دخلت إلى البيت ورمت بنفسها على الديوان وقد أعياها المشي، وأظلم وجهها وقلبها ونفسها من التأملات المحزنة، فاقترب منها القص بولس يطايبها ويطمئنها ويمسح بمنديله العرق المتصبب من جبينها. - لا تخافي يا بنتي.
فقالت على الفور كأنها تضربه بما تقول: لست بنتك، لو كنت أبي لما تركتني أشقى. - أخطأت يا بنتي وندمت على خطيئتي. - وما نفع الندم وقد جوزيت أنا على فعلتك، عشرون سنة من البؤس والعذاب والذل تقاضاها الدهر من دمي ولحمي ونفسي وفؤادي لقاء خطيئتك، ثمن إثمك، ما أجمل هذا الدين دينكم! تقترفون المآثم وتجرون البلاء على العباد وتملأون الأرض فسادا ثم تلبسون المسح وتذرون الرماد على رءوسكم، ثم ... - مريم، مريم، بنتي!
Unknown page