وكذلك كان. جددت الوثيقة، وقضت غصن البان بعض أشهر الصيف في الرمل بالإسكندرية وبعضها في حلوان، وسافر الحاج محيي الدين إلى سوريا ولبنان وعرج في عودته على حيفا فزار الناصرة وتوصل بعد البحث إلى مقابلة الست هند قرينة صاحب الفضيلة يوسف أفندي مبارك، وعاد إلى مصر مسرورا بما علم من سيرة مريم الخادمة سابقا، الراقصة الشهيرة الآن.
وفي ذات يوم بعد أن فتحت الكازينو أبوابها لتستأنف غصن البان العمل فيها، جاء الحاج محيي الدين يخاطبها فقال: قد نوه بك في حضرة أفندينا، وقد علمت من صديق لي في المعية أن سموه يرغب بإكرامك، وسنسعى جهدنا في ذا السبيل؛ لأنك يا غصن البان أهل لكل إكرام. - أشكرك يا سيدي محيي الدين، وأرجوك أن تعذرني، أن ترحمني، أن ... - وما معناك؟
فشرقت غصن البان بريقها، وقالت: أيحتاج مثلك إلى الشرح والإيضاح؟ ثم وقفت كأنها تطارد أفكارها المتشردة، ثم قالت: اعذرني، اعذرني، لا تبال بما قلت، لا تؤاخذني. - ليس ما يستوجب الاعتذار والمؤاخذة، أنت حرة، وأنا من أبناء العصر القائلين بحرية النساء، وليطمئن بالك.
وبعد أسبوع جاءها يقول: البشرى! لقد أمر أفندينا أن تمثلي أمامه في قصر القبة، وهذا شرف لم تنله راقصة قبلك، لا تشكريني، فلست الساعي بذلك، ولا الفضل لي، إنما نحن نسر لسرورك، ونشاركك أيضا في ذا الشرف وذا الإكرام.
رقصت غصن البان في قصر القبة أمام سمو الخديوي فأعجبه جدا رقصها وأثنى عليها، وجعل أعضاء الأسرة الخديوية وأعيان القاهرة يعزمونها بعد ذلك لترقص في بيوتهم، فغرها الفوز وطمحت نفسها إلى المزيد فيه، ومع أنها أدركت أن هؤلاء الأعيان يعزمونها كراقصة لا كسيدة من أتراب نسائهم، فظلت طامحة شافنة ثابتة في ظنها؛ بل في وهمها أنها لا بد أن تنال منزلة سامية في الهيئة الاجتماعية، وكانت غصن البان تسر لنفسها أن رغبتها الشريفة إنما هي شريعة ينبغي أن يحترمها الناس.
ولما جاءها ذات يوم دعوة إلى البالو الخديوية من السر تشريفات، لم يخطر في بالها أن هذه أيضا من مكارم الحاج محيي الدين؛ بل من دسائسه، بل ظنت أن آمالها بدأت تحقق وأن ذلك من طلائع ما تستوجبه منزلتها.
حضرت غصن البان البالو تستصحب صديقها الشاعر مصباح أفندي، فالتقت هناك بصاحب الكازينو، فجاء يسلم عليها ويهنئها ويلاطفها. - نورت القصر يا غصن البان، يا محجة أنظار الناس يا ... - حسبك من هذا يا سيدي محيي الدين. - كلمة أقولها لك! فمشت وإياه إلى ردهة النخيل وجلسا على ديوان محفوف بأنواع الأزاهر والنباتات، ونجوم السماء تبدو من سقف الزجاج كالعصفر والأقحوان في سهول لبنان. - فضلك يا غصن البان على الكازينو عميم، وقد أصبحت ذات منزلة عالية - لا تقاطعيني ولا تعتذري وتتعللي حسب عادتك - البيت الذي أنت فيه لا يليق بك، فالإدارة تعد لك بيتا مفروشا في شارع قصر النيل، ونرجوك أن تقبلي هديتها فتقيمين فيه ما زلت في القاهرة.
فدهشت غصن البان واغتمت جدا ولم تفه بكلمة جوابا. - ما بالك؟ أترفضين هدية الكازينو؟
فرفعت يدها إلى جبينها كأن صداعا أصابها، وقالت: أدركت يا سيدي محيي الدين دقائق صنعك، قتلي والله تروم بفضلك، إنك لأظلم الناس، لأظلم الناس، تكرمني وأنت تذلني، تكرهني وتحسن إلي، وأنت تعلم أنني لا أحبك، لا أحبك. ارحمني ورق لحالي! ووالله إن ملكتني فلا تملكني حية، اعذر مني حرية قولي وحرية فعلي، هذه شيمتي. - أكرمك فتشتميني، ولا بأس، ولكنك مخطئة في ظنك، لقد أدركت من زمان ما جهرت به الآن فمنعت قلبي عنك، وإن ما نلته من الإكرام في هذه الأيام هو بعض حقك ولا فضل لي في شيء منه، تأكدي ذلك، وليس البيت هدية مني، قلت لك. - حسن حسن، أقبله على شرط أن أحاسب الإدارة به، أدفع الأجرة من كيسي. - لا فرق، لا فرق.
نقلت غصن البان إلى بيتها الجديد فأقامت فيه محفوفة بالخدم ممتعة بنعيم الدنيا؛ نعيم الاجتماع، وبذلت في فرشه وزينته فوق ما كانت تحصله من المال، وأمسى بهوها مجتمع الشعراء والكتاب والباكوات من الطبقة التي قلما تراعي اصطلاحات الاجتماع، ولا يهمهم أن يقال فيهم: إنهم من أتباع راقصة أو مغنية، وكانت تعد لهم المآدب الفاخرة وتدهشهم كل مرة بتحفة جديدة ابتاعتها أو بأثر نادر عجيب، وبكلمة أصبحت غصن البان ربة بيت وصاحبة منزلة، لا تعترض كلمتها في المجالس ولا يرد في مخازن البلد طلبها.
Unknown page