فقال يوسف أفندي واضعا يده على كتف أخيه ومحدقا به نظره: طمئني، أرح بالي، أنت تعلم أنني كذبت كل ما سمعت. - لا أحد غير الله يعرف ما في قلبي، ولا أبرئ نفسي أمام بشر غيرك؛ لأنني أحبك واعتبرك وأعزك، أقسم بالله وجروحات المسيح.
كفى كفى، صدقتك. - يوسف! أنت الوحيد، الوحيد في هذه الديار، لا يصدقني أحد غيرك.
فعانق أخوه وقد اغرورقت عيناه وراح القس جبرائيل وهو يوصيه بمريم.
ومضت على هذه الحال ستة أشهر ومريم تنتظر قرب خلاصها، والحرب بين القس جبرائيل والرهبان يتراوح أمرها بين المناوشات والهدن، إلا أنه لم ينته كما شاء الأخوان؛ الراهب والقاضي، ولا كما يشاء الله.
ففي صيف تلك السنة عاد عارف من المدرسة ببيروت، فهام بمريم لأول نظرة وكان نصيرها الثاني في البيت على سيدتها، فازداد الحال ارتباكا واضطرابا. - أنت يا أمي لا تطيقي الخادمات البارعات الذكيات، وكل مرة نتوفق إلى خادمة مثل مريم تطردينها من البيت. - وأنت مثل أبيك ومثل عمك «المفقوع»، لتخدمكم هذه الملعونة الوالدين، وخرجت الست هند من الدار تحتدم غيظا. - وقد أخطأت في وصف ابنها؛ لأن عارفا وقد علق الفتاة عاملها على طريقته الخصوصية لا مثل أبيه ولا مثل عمه، ولا هي أحست بشيء من القرف الذي كان يعتريها من قبلات أبيه، ولا بشيء من الجزع الذي يصيبها من وجود عمه قربها، بل شعرت مريم بروح ترف في البيت جديدة، نفحاتها تنعش النفس وتهيج العواطف. قلنا: إنها شعرت بذلك، فأضلتها حواسها؛ لأن الخيال في نفس الشاب أو الصبية يتحول بلحظة عين إلى حقيقة تلمس وتقاس، فكانت إذا جاءت إلى عارف بشيء تقف أمامه غاضة الطرف محنية الرأس، وإذا حانت منها التفاتة ترسل عينها - على غير علم منها - نظرة من نظراتها النواعم النوافذ؛ فيختلج فؤادها لابتسامة منه، ويخب الدم في عروقها مستبقا إلى خديها.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف الحارة بعد أن أطفئت الأنوار في البيت وساد السكون، نهض عارف من سريره يتلمس إلى غرفة مريم طريقه، وكانت الفتاة تنام وحدها في حجرة صغيرة تفتح على سطح ضيق صفت على حافتيه؛ دفعا للحوادث صناديق من الخشب والتنك وأواني من الفخار، وقد زرع فيها الرياحين والأزهار من حبق ومنثور وفل وياسمين، وكانت الليلة مظلمة فانسل عارف إلى جنب الحائط فوجد الباب مفتوحا فدخل آمنا ولم يكد يخطو خطوتين حتى تعثرت رجلاه برجلي الفتاة النائمة على الأرض قرب الباب، فركع إلى جنبها ومر يده على وجهها وهو يهمس اسمه في أذنها، سمعها تصعد الزفرات، سرت إليه حرارة جسمها، هب هواء الليل ففاحت في الغرفة روائح الفل والحبق والياسمين فأسكرته وسكنته معا، لبث قربها هنيهة يستنشق من شعرها وفي بيتها مزيجا من هواء البحر وشذاء الياسمين وعاد إلى سريره ساكن الجأش هادئ البال.
وظل على عادته هذه يزورها ليلا ويعللها نهارا بالوعود التي يزخرفها الشباب والغرام، فراحت الفتاة تمثل لنفسها بيتا في بيروت تكون فيه سيدة لا خادمة.
ولكن كأس الحب لا تصفو لبشر فكيف بكأس الشهوات؟ وقد شاهد عارف أباه مرة يقبل مريم فوقف مبهوتا يكذب ناظريه، ثم سأل مريم سؤالا أجابته عليه دموعها، فغلت مراجل الغيرة في صدره.
وفي ذات ليلة وهو يتلمس سبيله إلى حجرتها التقى بوالده على السطح، فجمد الدم في عروقه واحتدم النار في عينيه.
فابتدره أبوه قائلا: ما أشد هذه الليلة! لم أستطع النوم داخل البيت.
Unknown page