لا غرو إن قُتلوا صبرًا وإن جزعوا ... والقتلُ للصبر في حكم الفَتَى جَزعُ
وقالت الخنساء ترثي أخاها صخرًا:
ألا ما لعينكِ أم ما لها ... لقد أخضلَ الدمعُ سِرْبالَها
فأقسمتُ أأسى علَى هالك ... وأسأل باكيةً ما لها
وخَيْل تكدّسُ مشى الوعو ... ل نازلت بالسيف أبطالها
بمُعْتَركٍ بينهم ضيّقٍ ... تجرُّ المنيَّةُ أذيالها
تُقابلُها فإذا أدْبَرتْ ... بَلَلْتَ من الطعن أكفالَها
ومُحْصنَةٍ من بنات الملو ... كِ قَعْقَعْت بالرمح خلخالها
فإن تك مُرَّةَ أوْدَتْ به ... فقد كان يكثرُ تقتالها
أنشدنا أحمد بن أبي طاهر لأبي تمام قالت الخنساء:
اذهب فلا يُبْعدنكَ الله من رجلٍ ... تَرّاك ضَيْم وطَلاّبٍ بأوتارِ
قد كنتَ تحمل قلبًا ليس مؤتسيًا ... مُركبًا من نصاب غير خَوّارِ
مثلَ السنان كضوءِ البدر صورتُه ... جَلْدُ المريرة حُرُّ وابن أحرارِ
فسوف أبكيكَ ما ناحت مُطوّقةً ... وما أضاء نجومُ اللَّيل للساري
أبلغْ خفافًا وعوفًا غيرَ مُقصرةٍ ... عميمة من نداء غير أسرارِ
شُدّوا المآزرَ حتَّى تستقاد لكم ... وشمّروا إنَّها أيامَ تشمارِ
وأبكى فتى البأس لاقتهُ منِّيَّته ... وكلُّ نفسٍ إلى وقتِ ومقدارِ
كأنهم يوم راموهُ بجمعهمُ ... راموا الشكيمة من ذي لبدة ضارِ
مَتَى تفرَّجت الآلاف عن رجلٍ ... ماضٍ علَى الهول هادٍ غير مختارِ
تجيش منه فويق الثدي من يده ... معايد من نجيع الجوف فوّارِ
لو منكمُ كان فينا لم ينل أبدًا ... حتَّى تلاقوا أمورًا ذات آثارِ
أعني الذين إليهم كان منزلةً ... هل تعلمون ذِمامَ الضيف والجارِ
خفاف بن ندبة وعوف هذان اللذان عاتبتهما من الفرسان المعدودين وكانا مع صخر فهربا عنه، وقد أدرك خفافًا الإسلام فأسلم، وشعر الخنساء هذا من أجود الشعر لفظًا وأحسنه معنى، ألا ترى إلى اعتذارها من قتله أنَّه لم يقتله رجلٌ مثله، وإنَّما تفرجت الألف عنه وحده، ثمَّ أبى معاينتها من فزعته واستنهاضها الشجعان لاستغاثة النسوان، وقد كانت الخنساء من أحسن أهل زمانها، ثمَّ رُزئت أخاها معاوية ثمَّ عمرو، فلم تزل تبكيه وتُحسن القولَ في مراثيه حتَّى رُزئت أخاها صخرًا بعده، قد رزئتها المصايب، وهذَّبت شعرها النوائب، وقلَّ من ناله من الجزع مثل ما نالها، لقد بلغني أن أخوتها أن استعدَوا عليها عمر بن الخطاب ﵁: لا تبكي عليه فإنَّه من أهل النار. قالت ذلك أعظم لحزني عليه، وبلغني عن عمر ﵁، أنَّه قال: دعوها فكلُّ ذي شجو تبكي شجوه وهذا الَّذي اعتذرت به لأخيها من قبله هو من أحسن ما تهيأ الاعتذار به اعتذرت بالمقدار الَّذي لا شيء يجاوز مثله، ولا أحد يخرج عن قبضته ثمَّ لم تقتصر عليه وحده حتَّى وضعت كثرة المؤازرين علَى قبله.
وما قصَّر أبو تمام فيما ذكرناه، وما نذكره إن شاء الله من اعتذاره لمن يرثيه...... للقتل...... للصبر على الفرار من اللقاء، والجزع عند معاينة الأكفاء، وأحسبُ أن أبا تمام كان معجبًا بهذا المعنى الَّذي قد وقع له فلذلك كان كثيرًا ما يردده. وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
إن ينتخِل حدثان الموت أنفسكم ... ويسلم الناسُ بين السرّ والعَطَنِ
فالماء ليس عجيبًا أن أعذبهُ ... يفنى ويمتدّ عُمرُ الآجن الآسنِ
رُزءٌ علَى طيء ألقى كلاكِلَه ... لا بل علَى أزد لا بل علَى اليمنِ
لم يُثكلوا ليث حرْبٍ مثل محطبةٍ ... من بعد قحطبةٍ في سالف الزمنِ
إلاَّ تكن صَهرت عن منظر حَسَنٍ ... منه فقد صدرت عن مسمعٍ حسنِ
رأى المنايا خيالات النفوس ولم ... تسكن سوى المنية العليا إلى سكنِ
لو لم يمُتْ بين أطراف الرماح إذًا ... لمات لو لم يمُت من شدة الحَزنِ
1 / 159