قال: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان»؛ لأن الإسلام يريد أن تكون جزيرة العرب حصن المسلمين ومنبتهم، وتربية الدعاة للإسلام فيها، وعدم اختلاطهم باليهود والنصارى. والدين غض طري. فأمر بإجلاء أهل نجران.
ومع ذلك فإنه لما أجلاهم عوضهم عن بلادهم بخير منها، وخيرهم في الجهات التي يريدونها؛ لم يشأ رسول الله أن يكرههم على الإسلام فتركهم وشأنهم؛ عملا بقوله - تعالى:
لا إكراه في الدين ، وصالحهم على مال معلوم يؤدونه كل سنة. وشرط عليهم ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. ولما توفي رسول الله أقرهم أبو بكر على الشروط التي اشترطها عليهم الرسول. ولما حضرت أبا بكر الوفاة أوصى عمر بإجلائهم؛ لنقضهم العهد بتعاملهم بالربا، فكان أول عمل عمله أن يجليهم عن أرضهم، وأمر العامل الذي أرسله أن يعاملهم بالرفق ويشتري أموالهم، ويخيرهم عن أرضهم بأي أرض شاءوا من بلاد الإسلام. وكان مما أوصى به عامله: «ائتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجلهم من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من تجلي منهم، ثم خيرهم البلدان. وأعلمهم أننا نجليهم بأمر الله ورسوله»، وكتب لهم كتابا قال فيه: «أما بعد، فمن وقعوا به من أهل الشام والعراق، فليوسعهم من حرف الأرض، وما احتملوا من شيء فهو لهم، وكان أرضهم باليمن، فنزل بعضهم الشام، وبعضهم بناحية الكوفة.» وشكوا لعثمان لما استخلف ضيق أرضهم، ومزاحمة الدهاقين لهم، فكتب عثمان إلى عامله بالكوفة يوصيه بهم، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم. وكان قد فرض عليهم تقديم الحلل كجزية، ولما ولي معاوية شكوا إليه تفرقهم وموت من مات منهم، وإسلام من أسلم. فوضع عنهم مائتي حلة أيضا. فلما أتى الحجاج أعادهم إلى ما كانوا عليه، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم، فأمر بإحصائهم، فبلغوا العشر، فألزمهم مائتي حلة فقط. فلما ولي هارون الرشيد أعادوا الشكوى إليه من العمال فأمر أن يعفوا من معاملة العمال لهم، وأمر أن تكون معاملتهم مع بيت المال في العاصمة الإسلامية مباشرة.
فنرى من هذا أن خلفاء المسلمين لم يكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، بل تركوا كلا ودينه. ثم التزامهم نحو هؤلاء النصارى بالوفاء بالعهود، ثم حرص الخلفاء على التوالي على حمايتهم وإرضائهم ورفع الظلم عنهم. أرأيت معاملة للمخالفين خيرا من هذه المعاملة؟!
وقد رأينا أنه لما غزا التتار بلاد الإسلام ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثم عادت الغلبة للمسلمين ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام أمير التتار بإطلاق الأسرى، فسمح له الأمير التتاري بفك الأسرى المسلمين، وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام لا بد من فك الأسرى من اليهود والنصارى لأنهم أهل ذمتنا، فأطلقهم له.
ومما كتبه عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عامله على مصر: «إن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله بهم، وأوصى بالقبط فقال: «استوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما» وقال
صلى الله عليه وسلم «من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة» فاحذر ياعمرو أن يكون رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لك خصما، فإنه من خاصمه خصمه.» وكان آخر وصايا عمر ما كتبه لمن يخلفه من بعده: «أوصيه بأهل ذمة الله، وذمة محمد
صلى الله عليه وسلم
Unknown page