ولإيجاد العلم بين المسلمين طريقتان؛ الأولى: ترجمة العلم بين المسلمين بلغاتهم المختلفة، كما نقل العرب المسلمون علوم السريان والكلدان وغيرها، وكما فعل الإفرنج أنفسهم في نقل علوم المسلمين أيام سلطان العرب. والثانية: تعليم طائفة من المتنورين من المسلمين اللغات المختلفة من إنجليزية وفرنسية، وهؤلاء يتعلمون ثم يرشدون أممهم. والطريقة الأولى أقرب وأوسع وأعم، وفي ذلك يقول المصلح الهندي الكبير السيد أحمد خان - وقد كان يطالب بنقل العلوم الأوروبية إلى اللغة الوطنية: «لو استطعت لكتبت بحروف من نور على أعالي جبال الهملايا وجوب نقل العلوم الغربية إلى اللغة الوطنية، ويجب تعميم هذا التعليم للمبتدئين في المدارس الابتدائية، ثم التدرج إلى التعليم العالي.» كل ما في الأمر أنه يجب أن يكون تعليم العلوم بجانبه التعليم الديني الذي يبث روح الإسلام في النفوس، وهذا ما نقصر الآن عنه، وليس هناك تنافر بين الإسلام والعلم؛ فالعلم جسم والدين روحه، وبذلك يحيا العلم ويحيا الإسلام، أما الذين ينذرون بفناء الإسلام في المستقبل؛ فلا تسمع لهم، وهو لا يكون - إن شاء الله - إلا إذا سادت الشيوعية بما فيها من إلحاد.
وعيب المسلمين هذه النزعة الروحانية من غير علم، كما أن عيب الأوروبيين النزعة العلمية من غير الروحانية، ولا بد من الجمع بينهما - كما قدمنا - والمصلحون من المسلمين يعتقدون أن لهم نزعة روحانية يتسامى معها التقدم المادي، بل إن العلم نفسه إذا أمد بالنظرة الروحانية كان أقوم وأنفع للبشرية؛ فلو كان عند الأمم الغربية روحانية مع اكتشاف الذرة لكانت النتيجة التي يصل إليها استخدام الذرة في تقدم الصناعة والزراعة لا في عمل القنبلة الذرية، فلما فقدوا الروحانية سلكوا مسلك القنبلة الذرية، فإن وجدت الروحانية سلكوا مسلك التقدمات الصناعية والزراعية.
وهذا هو ما أوجد الهوة السحيقة بين الشرق والغرب، هنا دين بلا علم، وهناك علم بلا دين، ولا بد منهما معا مع الزمان فهل يتدين العلم فتسرع أوروبا إلى مد يدها إلى الشرق، أو يتعلم الدين فيسرع الشرق إلى الغرب؟
سؤال صعب، ولكن الظنون والدلائل تدل على أن العلم سيتدين؛ فانقسام الذرة وتكوينها والبحث فيها والوصول إلى أن المادة عبارة عن كهربائية سالبة وموجبة ونحو ذلك قاربت بين العلم والدين، وسيزيد هذا التقارب ولأن أوروبا إذا فشلت كانت أقرب إلى تحوير نفسها بما يتلاءم معها، وقد فشلت في حروبها فلجأت إلى الدين، وموجة الدين اليوم أشد مما كانت عليه في الأعوام الماضية، حتى موجة الدين هذه أصابت الشرق أيضا فالمساجد عمرت بالمصلين والمصليات، وفي موسم الحج يحج عدد كبير من النساء الأرستقراطيات. بقي أن نتساءل: هل سيلجأ أهل أوروبا وأمريكا إلى الإسلام، أو إلى دين منتخب بالعقل من سائر الأديان، كاختيار الوحدانية من الإسلام، وحب الله والتضحية من النصرانية؟ هذا سؤال من الصعب التكهن بالجواب عليه، وإنما كل الذي نستطيع أن نقوله: إن ذلك يحتاج إلى أجيال كثيرة؛ لأن الأمم لا تنقلب من عداوة حادة إلى حب بين طرفة عين وانتباهتها، فلا بد من زمن تقل فيه هذه العداوة، ثم من زمن تنقلب فيه العداوة إلى حياد، ثم من زمن ينقلب فيه الحياد إلى محبة، وعلى كل حال فسواء انقلب الأوروبيون من النصرانية إلى الإسلام، أو إلى دين منتخب فموقفهم نحو الإسلام سيتغير لا محالة.
وهناك رأي يرى أن لا أمل في الإسلام والمسلمين بحكم بيئتهم الحارة التي تدعو إلى الخمول والكسل، وهو قول سخيف؛ لأن البيئة هي البيئة، والإسلام نشأ فيها ونهض وارتقى ثم انحط المسلمون مع أن البيئة واحدة، والأوروبيون في بيئتهم كانوا في القرون الوسطي أقل حالا من المسلمين ثم ارتقوا ، والبيئة هي البيئة، ولو كانت البيئة لها كل هذا العمل ما تخلفت النتائج لأن ما بالطبع لا يتخلف، فهو قول وإن ارتآه المقريزي وابن سعيد المغربي وابن خلدون وأحزابهم لايستقيم مع البرهان الصحيح.
أي مانع يمنع المسلمين من انتشار دينهم وقد دعا إلى المساواة؟! فعنده لا فرق بين أسود وأبيض، ولا بين عربي وعجمي. وقد كان هذا سببا من أسباب انتشار الإسلام. كل ما يعوز المسلمين هو الحاجة الشديدة إلى الاجتهاد حتى يواجهوا المشاكل الحديثة بنظر جديد، وهذا عيب المسلمين لا عيب الإسلام؛ فالإسلام لم يحرم الاجتهاد بل حث عليه، وليس بصحيح ما يرمي به الأوروبيون الإسلام بالجمود، وكل عصر له مشاكله ومسائله الجديدة التي تتطلب حلا جديدا، وقد كان من ضمن وسائل التشريع الإسلامي قول الفقهاء: «العرف قاض والعادة محكمة، والأحكام تتبدل بتبدل الأزمان، والضرورات تبيح المحظورات، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن إلخ ...» •••
ومن قديم تحير المفكرون في مظهر العالم من امتزاج خيره بشره امتزاجا غريبا، وماديته بروحانيته امتزاجا عجيبا. فأما الإسلام والأديان الكبيرة، فقد حلت هذه المشكلة بالجمع بين الحياتين المادية والروحانية، وتقويم كل منهما، واعتبار الحياة الدنيا حياة لها قيمتها من غير غلو فيها، والحياة الروحية حياة لها قيمتها من غير إفراط أيضا.
إن أهم الفروق بين الإسلام والنصرانية، أن الإسلام رعا الدنيا حق رعايتها وجعل من الممكن الاحتفاظ بالحياة الروحية مع الاستمتاع بالدنيا، بينما النصرانية رأت ألا ينفتح باب السماء إلا إذا انغلق باب الأرض. ولعل سبب ذلك أن الإسلام جعل الإنسان مسئولا فقط عن عمله:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
و
Unknown page