وقد نقبته بيننا بالأصابع
تسلم باليمنى علي إشارة
وتمسح باليسرى مجاري المدامع
كان ميعاد قيام الباخرة الخديوية يوم السبت فعزمت على السفر من الرمل يوم الخميس، ثم أرسلت كتابا إلى صديقي في المدرسة، الذي أرسل إلي تلغرافا يعزيني في والدي وكتابا يسألني فيه عما إذا كنت عازما على الرجوع إلى المدرسة، وكتبت له أن ينتظرني يوم الخميس بمصر حيث إنني عزمت على المبيت فيها ليلة الجمعة ومبارحتها إلى السويس في الصباح. فلما كان يوم الأربعاء صباحا جاءني منه كتاب يسألني في السفر إلى مصر يوم الأربعاء ليمضي معي يومين بدل يوم واحد، فشاورت سكينة في ذلك - ولعمري ولقد رأيتها بعيني وهي تذبل كالوردة المقطوعة من فرعها - فقالت: أتفضل إخوانك علينا؟ ألم يكفني سفرك القريب حتى تحرمني من يوم أتمتع فيه برؤيتك؟ فيا حبيبي، إننا أحوج إلى دقيقة بل ثانية نتمتع فيها بمرأى بعضنا، ولا تعجل الفراق.
والهم يأتي لا تعجل قربه
فلنشرب المعسول قبل الصاب
فأجبتها: «يا سكينة، بالرغم عني أن أبعد عنك لحظة واحدة، ولكن ما قدر لا بد من وقوعه، فإن لم أسافر اليوم فسأسافر غدا»، وما انتهيت من عبارتي حتى أخرجت صندوقا صغيرا وأعطتني منه صورة حسناء، قائلة: «خذ هذه ولا تنس صاحبتها»، فتأملت الصورة، فرأيت محاسنها تكاد تتكلم عن جمالها الفتان، ثم أعطتني منديلا مطرزا بيدها منقوشا عليه اسمي واسمها، فطويت الصورة فيه ووضعتها في جيبي، ثم أخذت بيدها وسرنا إلى الحديقة نمر على محال جلوسنا ومرتع أنسنا التي قضينا فيها ساعات طوالا، نتناشد أحاديث الغرام، وندير كئوس الهوى، وكلما مررنا على محل تتناثر الدموع وتخفق القلوب وتلتهب نار الصدور، وعلى مثل تلك الحال ذهب النهار بنوره وجاء الليل بظلامه وخيالاته، ولقد قضينا ردحا من الليل ونحن جلوس في الحديقة، لا رقيب سوى القمر الساطع ولا نمام سوى النسيم العليل، نتذاكر الماضي بأسف زائد، وننظر إلى المستقبل بفؤاد واجف، حتى شعرنا بالبرد فتركنا الحديقة وذهبنا إلى المنزل وذهب كل منا إلى حجرة نومه، فلم يكن من نصيبي إلا السهاد وأنا أفكر في السفر، وطال الليل حتى خلت الصباح ليس بآت، ولسان حالي يقول:
يا ليل طل أو لا تطل
لا بد لي أن أسهرك
ثم غفلت عيني قرب الصباح ولم أستيقظ إلا وسكينة بجانبي، فسألتني عن نومي فقلت لها: «إني لم أنم إلا قرب الصباح»، فقالت: «أنا لم أنم أبدا». وبعد أن لبست ملابس السفر أمرت الخادم بالذهاب إلى المحطة قبل الميعاد، ثم جاء والد سكينة وقدم لي كيسا مملوءا من النقود الذهبية وحزمني بالحزام المملوء من الذهب، وبعد ذلك قال لي: أنا ذاهب إلى المحطة، فلا تتأخر بعد أن تودع من في المنزل.
Unknown page