خطْبَة الْكتاب
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله على مَا منح من الْهدى وَجعل السّنة المطهرة قدوة لمن يقْتَدى الَّذِي خلق فأحيا وَحكم على خلقه بِالْمَوْتِ والفنا والبعث إِلَى دَار الْجَزَاء والفصل والقضا لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى كَمَا قَالَ فى كِتَابه جلّ وَعلا ﴿إِنَّه من يَأْتِ ربه مجرما فَإِن لَهُ جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى﴾ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على خير من أفيضت عَلَيْهِ بحار المكارم والندى ولاحت عَلَيْهِ لوائح الصدْق والصفا واهتدى بِمَا أنزل عَلَيْهِ من ربه وَإِلَيْهِ أمته هدى وأنقذها من شرك الردى وَلم يَتْرُكهَا سدى فَمن أطاعه ووالاه فقد رشد وَنَجَا وَمن عَصا وناوأه فقد ضل وغوى وعَلى آله وَصَحبه وَحزبه صَلَاة وَسلَامًا دائمين على طول المدى
وَبعد فَهَذَا كتاب فى أَحْوَال النَّار وأصحابها وأهوال الْجَحِيم وأربابها نسجته على منوال كتابى فى أَحْوَال الْجنَّة وأهاليها وحقائق نعمها ومواليها والباعث على جمعه أَن الْحَافِظ الإِمَام نَاصِر السّنة وَالْإِسْلَام مُحَمَّد بن أَبى بكر بن الْقيم بوأه الله فى دَار السَّلَام ألف كتابا جَامعا لم يسْبق إِلَيْهِ فى مَا جَاءَ فى نعيم الْجنان ومدارج الرضْوَان والغفران وَهُوَ بَاب من أَبْوَاب التَّرْغِيب وَقد سبقت رَحْمَة الله ﷾ على غَضَبه كَمَا ورد ذَلِك فى صِحَاح الْأَحَادِيث وَلم أَقف لَهُ وَلَا لغيره على كتاب مُسْتَقل فى ذكر النَّار وأهوال الْجَحِيم وَمَا يُقَابل الرَّاحَة والعيش الآخر فى دَار النَّعيم وَهَذَا بَاب من أَبْوَاب التَّرْهِيب وحاجة الْمُسلم إِلَيْهِ أَشد من الْحَاجة إِلَى الأول لِأَن الْإِيمَان بَين الْخَوْف والرجا والمرء بَين الشدَّة والرخا وَالْخَوْف يفعل فى الْخَائِف مَالا يفعل الرجا فى الراجى
1 / 19
والخشية تميز تمييزا كَافِيا وافيا بَين الْهَالِك والناجى وَأَن دين الاسلام ورد بالمهلكات كَمَا جَاءَ بالمنجيات وَأَن النَّبِي ﷺ رغب وحذر وَبشر وأنذر فَهُوَ الْمخبر الصَّادِق بكلا الْأَمريْنِ إِخْبَارًا لَا يخفى على ذى عينين وَلَكِن الشَّيْطَان الرَّجِيم غرهم بالغفران والاحسان وكادتهم النَّفس الأمارة بالسوء ووعدتهم بالرضوان والجنان وَدخل عَلَيْهِم إِبْلِيس من بَاب الرجا حَتَّى أضلهم عَن طَرِيق الْهدى فَقَالُوا سيغفر لنا كَمَا قَالَ من قبلهم من الْأُمَم وَلم يعلمُوا أَن بَطش رَبهم لشديد الْأَلَم وَأَن الدَّار الْآخِرَة منقسمة إِلَى قسمَيْنِ رياض الْجنَّة وحفر النَّار وَالْعَبْد بَين مخافتين إِمَّا أَن يصير إِلَى النَّعيم بفضله سُبْحَانَهُ وَإِمَّا أَن يُصَار بِهِ عدلا مِنْهُ إِلَى دَار الْبَوَار وكل من قنع بالرجا وَلم يلم بالخوف لم يعلم بعاقبة أمره وَلم يعرف نَفعه من ضره وَإِنَّمَا الْمُؤمن الناجى من آمن بِاللَّه وَرَسُوله وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا وأقلع نَفسه فى هَذِه الدَّار عَمَّا يوبقه ويهلكه عذبا كَانَ أَو مالحا
وفى حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت وَالْعَاجِز من أتبع نَفسه هَواهَا وَتمنى على الله قَالَ فى مجَالِس الْأَبْرَار هَذَا الحَدِيث من حسان المصابيح انْتهى وَمَا أحسن مَا قَالَ بعض العارفين
عجبت من شيخى وَمن زهده ... وَذكره النَّار وأهوالها
يكره أَن يشرب فى فضَّة ... وَيسْرق الْفضة إِن نالها
ووعد الْمَغْفِرَة فى كتاب الله مَنُوط بالايمان وَالْعَمَل الصَّالح جَمِيعًا فَمن أقرّ بِلِسَانِهِ أَن الْآخِرَة خير وَأبقى ثمَّ ترك الْعَمَل واشتغل بالمعاصى فَهُوَ من المغرورين بالدنيا والمسرورين بهَا والمحبين لَهَا والكارهين للْمَوْت خيفة فَوَات لذتها لَا خيفة فَوَات لذات الْآخِرَة وحول عقابها فَهَؤُلَاءِ هم الَّذين غرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون
1 / 20
وَأما الَّذين غرهم بِاللَّه الْغرُور فهم الَّذين يعْملُونَ الْأَعْمَال ويشتغلون بالمنكرات وَيَقُولُونَ أَن الله رَحِيم نرجو رَحمته وكريم نتمنى مغفرته وَهَذَا التمنى هُوَ الْغرُور الذى غير الشَّيْطَان اسْمه وَسَماهُ رَجَاء حَتَّى خدع بِهِ كثيرا من النَّاس وَقد شرح الله الرَّجَاء بقوله الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فى سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله وَقيل لِلْحسنِ قوم يَقُولُونَ نرجوا الله ويضيعون الْعَمَل فَقَالَ هَيْهَات هَيْهَات هَلَكت أمانيهم يتردون فِيهَا من رجا شَيْئا طلبه وَمن خَافَ شَيْئا هرب مِنْهُ وكما لَا ينْبت فى الدُّنْيَا زرع إِلَّا بالحرث كَذَلِك لَا يحصل فى الْآخِرَة أجر وثواب إِلَّا بِالْإِيمَان الْخَالِص وَالْعَمَل الصَّالح وَالنِّيَّة الصادقة وان الله تَعَالَى كَمَا كَانَ غَافِر الذُّنُوب وقابل التَّوْبَة فَهُوَ شَدِيد الْعقَاب أَيْضا وَأَنه مَعَ كَونه كَرِيمًا رحِيما خلد الْكفَّار فى النَّار أَبَد الآباد مَعَ أَن كفرهم لَا يضرّهُ بل سلط الْعَذَاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على عباده فِي الدُّنْيَا مَعَ كَونه رحِيما كَرِيمًا قَادِرًا على إِزَالَتهَا
فَمن كَانَت سنته فى عباده كَذَلِك كَيفَ يغتر بِهِ العَبْد وَلَا يخافه وَقد خوف عباده
ورجاء أَكثر الْخلق فى هَذَا الزَّمَان هُوَ سَبَب فتورهم عَن الْعَمَل وإقبالهم على الدُّنْيَا وإعراضهم عَن طَاعَة الله تَعَالَى وإهمالهم للسعى للآخرة وهم لَا يعلمُونَ أَنه غرور وَلَيْسَ برجاء وَقد غلب الْغرُور على آخر هَذِه الْأمة كَمَا غلب الطَّاعَة على أَولهَا
قَالَ الغزالى قد كَانَ النَّاس فى الزَّمَان الأول يواظبون على الطَّاعَات والعبادات ويبالغون فى الِاحْتِرَاز عَن الشُّبُهَات والشهوات وَمَعَ ذَلِك كَانُوا يخَافُونَ على أنفسهم ويبكون فى الخلوات وَأما الْآن فنرى الْخلق آمِنين فرحين غير خَائِفين مَعَ إصرارهم على المعاصى وانهماكهم فى الدُّنْيَا وإعراضهم عَن
1 / 21
طَاعَة الله ويزعمون أَنهم واثقون بكرم الله تَعَالَى وفضله وراجون لعفوه ومغفرته وَيَقُولُونَ نعْمَته وَاسِعَة وَرَحمته شَامِلَة وأى شىء من معاصى الْعباد فى بحار مغفرته ويسمون تمنيهم واغترارهم رَجَاء وَيَقُولُونَ أَن الرجا مَحْمُود فى الدّين فكأنهم يَزْعمُونَ أَنهم عرفُوا من كرم الله وفضله مَا لم يعرفهُ الْأَنْبِيَاء وَالسَّلَف الصَّالح انْتهى
هَذَا وَكَانَ يخْطر فى خلدى قَدِيما مُنْذُ ألفت كتاب مثير سَاكن الغرام إِلَى روضات دَار السَّلَام أَن أؤلف كتابا فى أهوال النَّار وَأَهْلهَا وَصفَة الْجَحِيم حزنها وسهلها مُقْتَصرا فى ذَلِك على مَا ورد فى آيَات الْكتاب الْعَزِيز وأدلة السّنة المطهرة الْبَيْضَاء فَلم يتَّفق لى هَذَا المُرَاد لعوائق عاقتنى وَضَاقَتْ بهَا على الغبراء إِلَى أَن حصل الْآن فرْصَة نذرة فانتدبت لتحرير هَذَا المرام ظنا منى أَنه لم يسْبق إِلَى مثل هَذَا التَّأْلِيف قبلى أحد من الْأَعْلَام وَلَو كنت وقفت على مثل هَذَا الْجمع لأحد مِنْهُم لم أكلف نفسى لجمع هَذَا الْكتاب الْمَوْعُود وَلم أدخلها فى هَذِه الْعقبَة الكئود وَلَكِن الله يوفق بِمَا شَاءَ من عباده وَله فى أَيَّام دهرهم نفحات أَلا فليتعرضوا لَهَا فى بِلَاده وَسميت هَذَا يقظة أولى الِاعْتِبَار مِمَّا ورد فى ذكر النَّار وَأَصْحَاب النَّار ورتبته على مُقَدّمَة وأبواب وخاتمة أجارنا الله تَعَالَى عَن النَّار الحاطمة
1 / 22
الْمُقدمَة فى بَيَان أَن الشَّرَائِع متفقة على إِثْبَات الدَّار الْآخِرَة الَّتِى فِيهَا الْجنَّة وَالنَّار
أعلم أَن الله سُبْحَانَهُ صرح باسم الْجنَّة فى أول التَّوْرَاة عِنْد الْكَلَام على ابْتِدَاء خلق الْعَالم ولفظها وغرس الْإِلَه جنَّة فى عدن شرقا وَوضع هُنَاكَ آدم الذى خلقه
ثمَّ ذكر أَن مِنْهَا خرج نهر وتفرع عَنهُ فيشون وحداقل وجيحون والفرات
فَهَذِهِ هى الْجنَّة الَّتِى ورد ذكرهَا فى الْقُرْآن الْكَرِيم وَصَحَّ عَن النَّبِي ﷺ أَن هَذِه الْأَرْبَعَة الْأَنْهَار خَارِجَة مِنْهَا كَمَا فى دواوين الْإِسْلَام وَغَيرهَا واعترف بهَا رَأس زنادقة الْيَهُود مُوسَى بن مَيْمُون القرطبى الأندلسى فى تأليفه الْمُسَمّى المشنا فى الْفِقْه وفى كتاب اللُّغَات
1 / 23
فى حرف الْعين قَالَ وَمعنى اسْم عدن التَّلَذُّذ والتنعم ثمَّ قَالَ إِن تِلْكَ هى جنَّات النَّعيم وفردوس السَّعَادَة والصالحون باقون فِيهَا ليستلذوا من نور الله قَالَ النبى أشعياء فى حَقِيقَة ذَلِك التَّلَذُّذ هُوَ مَالا عين تقدر أَن ترَاهُ أه
1 / 24
والتوراة أَيْضا صرحت باسم النَّار ولفظها سَوَّلَ واش قَالَ عُلَمَاء الْيَهُود وَمعنى اللَّفْظَيْنِ جَهَنَّم وفيهَا غير ذَلِك من الْآيَات كثير كَمَا فى الأصحاح الثَّامِن عشر من سفر اللاويين الْأَحْبَار وَلَفظه أحكامى تعلمُونَ وفرائضى تحفظون لتسلكوا فِيهَا أَنا الرب إِلَهكُم فتحفظون فرائضى وأحكامى الَّتِى إِذا فعلهَا الْإِنْسَان يحيا بهَا أَنا الرب أه وَلَا حَيَاة دائمة فى الدُّنْيَا بل فى الْآخِرَة وفى الإصحاح الْفَصْل الْخَامِس من سفر الْأَمْثَال لِسُلَيْمَان ﵇ ويجعلهم بعد الْمَوْت إِلَى الْجَحِيم أه وفى الاصحاح السَّادِس وَالْعِشْرين من نبوة أشعياء مَا لَفظه تحيا أمواتك تقوم
1 / 25
الجثت أه وفى سفر دانيال مَا لَفظه وكثيرون من الراقدين فى تُرَاب الأَرْض يستيقظون هَؤُلَاءِ إِلَى الْحَيَاة الأبدية وَهَؤُلَاء إِلَى الْعَار والازدراء الأبديأه
وَأما الزبُور فَفِيهِ نُصُوص كَثِيرَة فى التَّصْرِيح بِذكر النَّار جَاءَ فى المزمور التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ مَا لَفظه مثل الْغنم للهاوية يساقون الْمَوْت يرعاهم ويسودهم المستقيمون غَدَاة وصورتهم تبلى الهاوية مسكن لَهُم إِنَّمَا الله يفْدي نفسى من يَد الهاوية لِأَنَّهُ يأخذني أه وفى المزمور الْخَامِس وَالْخمسين ليبغتهم الْمَوْت لينحدروا إِلَى الهاوية أَحيَاء لِأَن فى مساكنهم فى وَسطهمْ شروراأه
وفى المزمور السَّادِس مَا لَفظه وَأَنت يَا رب فحتى مَتى عد يَا رب نج نفسى خلصنى من أجل رحمتك لِأَنَّهُ لَيْسَ فى الْمَوْت ذكرك فى الهاوية
1 / 26
من يحمدك أه وفى المزمور التَّاسِع الشرير يعلق بِعَمَل يَدَيْهِ الأشرار يرجعُونَ إِلَى الهاوية أه وفى المزمور السَّادِس عشر
جسدى أَيْضا يسكن مطمئنا لِأَنَّك لن تتْرك نفسى فى الهاوية لن تدع تقيك يرى فَسَادًا أه
وفى الْإِنْجِيل ذكر الْجنَّة وَالنَّار فى مَوَاضِع كَثِيرَة ففى الاصحاح الْخَامِس من الْإِنْجِيل الأول إنجيل مَتى وَمن قَالَ يَا أَحمَق يكون مستوجب نَار جَهَنَّم إِلَى قَوْله وَلَا يلقى جسدك كُله فى جَهَنَّم وفى الاصحاح الْعَاشِر من مَتى بل خَافُوا بالحرى من الذى يقدر أَن يهْلك النَّفس والجسد كليهمَا فى جَهَنَّم أه
وفى ذَلِك تَصْرِيح بحشر الأجساد وفى الاصحاح الثَّالِث عشر من مَتى يُرْسل ابْن الْإِنْسَان مَلَائكَته فَيجْمَعُونَ من ملكوته جَمِيع المعاثر وفاعلي الْإِثْم
1 / 27
ويطرحونهم فى أتون النَّار هُنَاكَ يكون الْبكاء وصرير الْأَسْنَان وفى الاصحاح التَّاسِع من إنجيل مرقس مَا لَفظه وتمضى إِلَى جَهَنَّم إِلَى النَّار الَّتِى لَا تطفأ حَيْثُ دُورهمْ لَا يَمُوت وَالنَّار لَا تطفأ وفى الاصحاح السَّادِس عشر من إنجيل لوقا مَا لَفظه وَمَات الْغنى وَدفن فَرفع عَيْنَيْهِ فى الهاوية وَهُوَ فى العذابأه
وفى الاصحاح الثَّامِن عشر من مَتى صرح بِذكر دُخُول النَّار المؤبدة وبذكر دُخُول جَهَنَّم وفى الاصحاح للثَّانِي وَالْعِشْرين من مَتى مَا لَفظه فى ذَلِك الْيَوْم جَاءَ اليه صدوقيون الَّذين يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَة أه
فَانْظُر إِلَى هَذَا النَّص الصَّرِيح بالقيامة وَإِلَى التَّصْرِيح بِأَن الَّذين يَقُولُونَ لَا قِيَامَة هم الصدوقيون وَكفى بِهَذَا دافعا فى وَجه من زعم أَن إِثْبَات
1 / 28
ذَلِك زنادقة فِي الشَّرِيعَة السَّابِقَة كَمَا ذكره زنادقة فى هَذِه الشَّرِيعَة المحمديه
وفى الاصحاح الْخَامِس وَالْعِشْرين من مَتى مَا لَفظه ثمَّ يَقُول أَيْضا للَّذين عَن الْيَسَار اذْهَبُوا عَنى يَا ملاعين إِلَى النَّار الأبدية الْمعدة لإبليس وَمَلَائِكَته
وفى هَذَا التَّصْرِيح بِمَا لَا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة وَهَذِه النقول من الانجيل الذى جمعه مَتى وَنَحْوه أَيْضا فى الأناجيل الْأُخْرَى الَّتِى جمعهَا يوحنا ومرقس وَغَيرهمَا وفى إنجيل لوقا فى الاصحاح الْعشْرين مِنْهُ وَأما أَن الْمَوْتَى يقومُونَ فقد دلّ عَلَيْهِ مُوسَى وفى الاصحاح الثَّالِث وَالْعِشْرين أَن الْمَسِيح قَالَ للمصلوب مَا لَفظه قَالَ لَهُ يسوع الْحق أَقُول لَك إِنَّك الْيَوْم تكون معى فى الفردوس انْتهى وفى الانجيل الذى جمعه يوحنا فى الاصحاح الْخَامِس مَا لَفظه فَإِن تأتى سَاعَة فِيهَا يسمع جَمِيع الَّذين فى الْقُبُور صَوته فَيخرج الَّذين فعلوا الصَّالِحَات إِلَى قِيَامَة الْحَيَاة وَالَّذين عمِلُوا السيآت إِلَى قِيَامَة الدينونة وفى الاصحاح السَّادِس من يوحنا أَن كل من يرى الابْن ويؤمن بِهِ تكون لَهُ حَيَاة أبدية وَأَنا أقيمه فِي الْيَوْم الْأَخير
1 / 29
وفى الإصحاح الثَّامِن من يوحنا مَا لَفظه الْحق الْحق أَقُول لكم إِن كَانَ أحد يحفظ كلامى فَلَنْ يرى الْمَوْت إِلَى الْأَبَد انْتهى
وَإِذا عرفت هَذَا الْمُصَرّح بِهِ الْإِنْجِيل هَكَذَا صرح الحواريون من أَصْحَاب الْمَسِيح ﵇ فى رسائلهم الْمَعْرُوفَة وَهَذِه النُّصُوص ترد على ابْن أَبى الْحَدِيد المعتزلى شَارِح نهج البلاغة قَوْله وَهُوَ أَن كل مَا فى التَّوْرَاة من الْوَعْد والوعيد فَهُوَ مَنَافِع الدُّنْيَا ومضارها وَلم يَأْتِ فِيهَا مَا يتَعَلَّق بِمَا بعد الْمَوْت وَأما الْمَسِيح فَإِنَّهُ صرح بالقيامة وَبعث الْأَبدَان وَلَكِن جعل الْعقَاب روحانيا وَكَذَلِكَ الثَّوَاب انْتهى وَكَذَلِكَ ترد على رَئِيس
1 / 30
الْمَلَاحِدَة ابْن سينا حَيْثُ قَالَ ان النَّصَارَى أثبتوا بعث الْأَبدَان وخلوها عَن الْمطعم والملبس وَالْمشْرَب والمنكح انْتهى
قَالَ شَيخنَا الْعَلامَة الْمُجْتَهد الْمُطلق مُحَمَّد بن على الشوكانى فى الْمقَالة الفاخرة فى اتِّفَاق الشَّرَائِع على اثبات الدَّار الْآخِرَة إِن أصل هَذِه الْمقَالة الملعونة
1 / 31
وَالرِّوَايَة عَن التَّوْرَاة والانجيل المكذوبة مقالات قَالَهَا جمَاعَة من متزندقة الْيَهُود النَّصَارَى كَابْن مَيْمُون وَأَضْرَابه
وَأَنَّهُمْ أَي الْيَهُود كفروه ولعنوه بِسَبَب هَذِه الْمقَالة وَقد وَقع من هَذَا الملعون التحريف لما فى التَّوْرَاة وتلقى ذَلِك عَنْهُم زنادقة الْملَّة الاسلامية استرواحا مِنْهُم لما يتَضَمَّن من الْقدح فى شرائع الله سُبْحَانَهُ انْتهى
ثمَّ نقل مَا فى التَّوْرَاة وَالزَّبُور والانجيل نَحْو مَا ذكرنَا وَزَاد فى النقول فى رسَالَته الَّتِى سَمَّاهَا ارشاد الثِّقَات إِلَى اتِّفَاق الشَّرَائِع على التَّوْحِيد والمعاد والنبوات وَهَذِه للكتب الثَّلَاثَة الالهية مَوْجُودَة عندنَا بِاللِّسَانِ العربى فاستفاد من ذَلِك أَن الْأَمر خلاف مَا قَالَه زنادقة الْملَّة الْيَهُودِيَّة وَالْملَّة النَّصْرَانِيَّة ثمَّ تعقب الشوكانى ﵀ ابْن مَيْمُون وَابْن أَبى الْحَدِيد وأوضح فَسَاده ثمَّ قَالَ أما نُصُوص الْقُرْآن فَهُوَ من فاتحته إِلَى خاتمته مصرحة بِالْجنَّةِ وَالنَّار وَبَعثه الْأَجْسَام وتنعمها أَو تعذيبها بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْقُرْآن من أَنْوَاع ذَلِك وَمن تتبع مَا فى كتاب الله سُبْحَانَهُ من حِكَايَة نعيم أهل الْجنَّة وَعَذَاب أهل النَّار عَن الْملَل السالفة وَعَن كتب الله الْمنزلَة عَلَيْهَا وجده كثيرا جدا لَا يَتَّسِع الْمقَام لبسطه وَقد بعث النبى ﷺ وَأهل الْملَّة الْيَهُودِيَّة وَالْملَّة النَّصْرَانِيَّة فى أَكثر بقاع الأَرْض وَلم يسمع عَن أحد مِنْهُم أَنه أنكر ذَلِك أَو قَالَ هُوَ خلاف مَا فى التَّوْرَاة والانجيل وَقد سكن النَّبِي ﷺ فى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَنزل عَلَيْهِ أَكثر الْقُرْآن
1 / 32
بهَا وَكَانَ الْيَهُود متوافرين فِيهَا وَفِيمَا حولهَا من الْقرى الْمُتَّصِلَة بهَا وَكَانُوا يسمعُونَ مَا ينزل الله على رَسُوله ﷺ من الْقُرْآن وَيُنْكِرُونَ مَا ورد مُخَالفا لما فى التَّوْرَاة ويجادلون أبلغ مجادلة كَمَا حكى ذَلِك الْقُرْآن الْكَرِيم وتضمنته كتب السّير والتاريخ وَلم يسمع أَن قَائِلا قَالَ إِنَّك تحكى عَن التَّوْرَاة مَا لم يكن فِيهَا من الْبَعْث ونعيم الْجنَّة وَعَذَاب النَّار وَقد كَانُوا يتهالكون على ذَلِك ويبالغون فى تتبعه بل كَانُوا فى بعض الْحَالَات يُنكرُونَ وجود مَا هُوَ مَوْجُود فى التَّوْرَاة كالرجم
فَكيف يسكتون عَن هَذَا الْأَمر الْعَظِيم مَعَ سماعهم لحكاية الْقُرْآن لَهُ عَنْهُم وَعَن التَّوْرَاة وَهل كَانُوا يعجزون عِنْد أَن يسمعوا مَا حَكَاهُ الله عَنْهُم من قَوْلهم ﴿وَقَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة﴾ أَن يَقُولُوا مَا قُلْنَا هَذَا وَلَا نعتقده وَلَا جَاءَت بِهِ شَرِيعَة مُوسَى وَهَكَذَا عِنْد سماعهم قَوْله تَعَالَى ﴿إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى﴾
وَبِهَذَا تبين أَن هَذِه الْمقَالة لم يسمع بهَا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى إِلَّا فى عصر رَأس الزَّنَادِقَة ابْن مَيْمُون عَلَيْهِ لعائن الله تَعَالَى انْتهى كَلَامه
وَكَلَام ابْن مَيْمُون هَذَا كَمَا هُوَ مُخَالف للملة الْيَهُودِيَّة وَلما جَاءَت بِهِ التَّوْرَاة وَلما قَالَه عُلَمَاء الْيَهُود هُوَ أَيْضا مُخَالف للملة النَّصْرَانِيَّة وَلما جَاءَ بِهِ الانجيل
1 / 33
وَقَالَهُ عُلَمَاء النَّصَارَى ومخالف أَيْضا لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة الداؤدية وَمَا صرح بِهِ الزبُور ومخالف أَيْضا لما جَاءَت بِهِ الْملَّة الاسلامية وَمَا صرح بِهِ الْقُرْآن الْكَرِيم وَأجْمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الاسلام بل مُخَالف لشرائع الْأَنْبِيَاء جَمِيعًا كَمَا حكى ذَلِك عَنْهُم الْقُرْآن فَنحْن وَإِن لم نقف على غير التَّوْرَاة وَالزَّبُور والانجيل من شرائع الانبياء السَّابِقَة فقد حَكَاهَا لنا الْقُرْآن فى غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى وَقَوله يَا بنى إِسْرَائِيل اعبدوا الله ربى وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَقَوله حاكيا عَن مُؤمن آل فِرْعَوْن يَا قوم إنى أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد إِلَى قَوْله وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار إِلَى قَوْله فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب وَقَوله إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ إِلَى قَوْله وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَى آخر الْآيَات بِطُولِهَا
1 / 34
وَالْحَاصِل أَن هَذَا أَمر اتّفقت عَلَيْهِ الشَّرَائِع ونطقت بِهِ كتب الله ﷿ سابقها ولاحقها وتطابقت عَلَيْهِ الرُّسُل أَوَّلهمْ وَآخرهمْ وَلم يُخَالف فِيهِ أحد وَهَكَذَا اتّفق على ذَلِك أَتبَاع جَمِيع الْأَنْبِيَاء من أهل الْملَل والنحل وَلم يسمع عَن أحد مِنْهُم أَنه أنكر ذَلِك إِلَّا مَا تقدم من ابْن مَيْمُون الملعون وأفراخه فانه وَقع مِنْهُ كَلَام فى إِنْكَار الْمعَاد ثمَّ اخْتلف كَلَامه فى ذَلِك فَتَارَة يُثبتهُ وَتارَة يَنْفِيه وَإِنَّمَا أنكر أَن يكون فِيهِ لذات حسية جسمانية بل لذات عقلية روحانية ثمَّ تلقى ذَلِك عَنهُ من هُوَ شَبيه بِهِ من أهل الاسلام كَابْن سينا فقلده وَنقل عَنهُ
1 / 35
مَا يُفِيد أَنه لم يَأْتِ فى الشَّرَائِع السَّابِقَة على الشَّرِيعَة المحمدية إِثْبَات الْمعَاد تقليدا لذَلِك الْيَهُودِيّ الملعون الزنديق مَعَ أَن الْيَهُود قد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذِه الْمقَالة وسموه كَافِرًا وَتبع ابْن سينا ابْن أَبى الْحَدِيد شَارِح نهج البلاغة وهلم جرا
1 / 36
بَاب فِي بَيَان وجود النَّار الْآن
اعْلَم أَنه لم يزل أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ والتابعون وتابعوهم وَأهل السّنة والْحَدِيث قاطبة وفقهاء الاسلام وَأهل التصوف والزهد على اعْتِقَاد ذَلِك وإثباته مستندين فى ذَلِك إِلَى نُصُوص الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة المطهرة وَمَا علم بِالضَّرُورَةِ من أَخْبَار الرُّسُل كلهم من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم كَمَا تقدم فى الْمُقدمَة فانهم دعوا الْأُمَم إِلَيْهَا وأخبروا بهَا إِلَى أَن نبغت نَابِغَة من أهل الْبدع والأهواء فأنكرت أَن تكون الْآن مخلوقة مَوْجُودَة وَقَالَت بل الله ينشئها يَوْم الْمعَاد وَأَن خلق النَّار قبل الْجَزَاء عَبث فانها تصير معطلة مدَدا متطاولة لَيْسَ فِيهَا سكانها فَردُّوا من النُّصُوص الْأُصُول وَالْفُرُوع وضللوا كل من خَالف بدعتهم هَذِه بِمَا لَا يسمن وَلَا يغنى من جوع وَلِهَذَا صَار السّلف الصَّالح وَمن نحا نحوهم تذكرُونَ فى عقائدهم أَن الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان الْآن موجودتان فى الْحَال وَيذكر من صنف فى المقالات أَن هَذِه المقالات أَن هَذِه مقَالَة أهل السّنة والْحَدِيث كَافَّة لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا مِنْهُم أَبُو الْحسن الأشعرى إِمَام الاشاعرة فى كِتَابه مقالات الاسلاميين وَاخْتِلَاف المضلين
وَقد ذكر الله تَعَالَى النَّار فِي كِتَابه فِي مَوَاضِع كَثِيرَة يتعسر حَدهَا ويفوت عدهَا ووصفها
وَأخْبر بهَا على لِسَان نبيه ﷺ ونعتها فَقَالَ عز من قَالَ فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة أعدت للْكَافِرِينَ ﴿وَقَالَ﴾ وَاتَّقوا النَّار الَّتِي أعدت للْكَافِرِينَ ﴿وَقَالَ﴾ إِنَّا أَعْتَدْنَا للظالمين نَارا أحَاط بهم سرادقها ﴿وَقَالَ﴾ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ نزلا ﴿وَقَالَ﴾ وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا وَقَالَ تَعَالَى أغرقوا فأدخلوا نَارا
1 / 37
﴿وَقَالَ﴾ وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا ﴿وَقَالَ﴾ فانا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سعيرا ﴿وَقَالَ﴾ وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير ﴿وَقَالَ﴾ النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا إِلَى غير ذَلِك من الْأَدِلَّة القطعية الَّتِي كلهَا صِيغ مَوْضُوعَة للمضى حَقِيقَة فَلَا وَجه للعدول عَنْهَا إِلَى المجازات إِلَّا بِصَرِيح آيَة أَو صَحِيح دلَالَة وأنى لَهُم ذَلِك
وفى الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ إِن أحدكُم إِذا مَاتَ عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشى إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فَمن أهل الْجنَّة وَإِن كَانَ من أهل النَّار فَمن أهل النَّار يُقَال هَذَا مَقْعَدك حَتَّى يَبْعَثك الله يَوْم الْقِيَامَة وَفِيهِمَا أَيْضا أَن النَّبِي ﷺ رأى فى صَلَاة الْكُسُوف النَّار فَلم ير منْظرًا أفظع من ذَلِك وفى البخارى عَن عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي ﷺ قَالَ اطَّلَعت فى النَّار فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء وَفِيه دلَالَة على وجودهَا حَال اطِّلَاعه وَرَوَاهُ الترمذى والنسائى أَيْضا
وفى الصَّحِيح بَاب صفة النَّار وَأَنَّهَا مخلوقة الْآن وَعَن أبي ذَر عَن النَّبِي ﷺ أبردوا بِالصَّلَاةِ فان شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم وَعَن أَبى هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا فَقَالَت رب أكل بعضى بَعْضًا فَأذن لَهَا بنفسين نفس فى الشتَاء وَنَفس فى الصَّيف فأشد مَا تَجِدُونَ من الْحر وَأَشد مَا تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِير رَوَاهُ البخارى أى من ذَلِك التنفس
وَعَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رضى الله عَنْهُم قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ الْحمى من فيح جَهَنَّم فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ رَوَاهُ البخارى وفى رِوَايَة من فَور جَهَنَّم رَوَاهُ عَن رَافع بن خديج
1 / 38