وحكى لي رحمه الله «5» في غمار ما كان يذكره من مواقفه ومقاماته، وآثاره في العدو ونكاياته: إني واقعتهم في بعض وقائعهم بهؤلاء الرفقاء، ونحن في العدد اليسير، وهم في الجم الغفير، وطالت بنا وبهم ممارسة الحروب حتى أقوى «6» الناس من الزاد، وعجزوا «7» عن الامتيار «8» والاستمداد. ولم يكن أمامنا إلا السيوف القواضب، ووراءنا إلا المهامه «9» والسباسب «10»، فصرخوا إلي بما دهاهم، وسألوني حيلة الثبات على ما عراهم، فعرفتهم أني كنت استصحبت لخاصتي [11 ب] على سبيل الاستظهار «11» صدرا من السويق «12»، وهو الآن قسمة بيني وبينكم عدلا سواء، بالغا ما بلغ بقدر «13» الكفاية، إلى أن يمن الله بالفرج، وكشف هذا الضيق والحرج. فكنت «14» أجدح لهم أياما عدة، لكل منهم أولا، ولنفسي من بعدهم آخرا قعبا «1» صغيرا، فنجتزى ء «2» به طول النهار والليل، ونحن على ذلك بين معالجة المكروه، ومكابدة المحذور، وملاقاة السيوف والسهام، بحر الوجوه والصدور، إلى أن وهب الله النصر وأهب الظفر، وأحاق «3» سوء العذاب بمن كفر، فولوا الأدبار بين قتيل مزمل، وجريح مرمل «4»، وعقير مرهق، وأسير بالقد «5» موثق.
وسمعته يذكر ما كان من حسن تدبيره وتقديره عند إفضاء الأمر إليه، واقتصار الإمارة عليه، ورزاحة «6» حاله عن التوسع في الإنفاق، والتخوف «7» في البذل والإطلاق، وأنه كان كأحد رفقائه في الحال والمال. واحتاج مع ذلك إلى أن يأخذ لمؤونة الزعامة عليهم من نفقاته الراتبة «8»، فكان «9» يدخر منها ما يفي بضيافتهم في الأسبوع دفعة أو دفعتين .
ولم يزل على هذه الجملة إلى أن اتسعت حاله، فزادهم بحسب الزيادة، [12 أ] إلى أن استكمل أسباب السيادة، فكان كما قيل:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما «10»
ولم يلبث أن اتسعت رقعة ولايته، وعظم حجم جريدته «11»، وعمرت أرض خزانته، وأشفقت النفوس من هيبته، وتعلقت الأطماع بمعونته «12».
Page 23