وقد يشك في شدة وطأة الماضي علينا ما يرى أقل مفكرينا سذاجة، كمسيو رينان، يكتبون مثل الأسطر الآتية في أمر اليهود، قال رينان: «لا يجد صاحب الروح الفلسفية، أي الذي يبالي بالأصول، غير ثلاثة تواريخ ذات نفع من الطراز الأول في ماضي البشرية، وهي: تاريخ اليونان، وتاريخ بني إسرائيل، وتاريخ الرومان، فمن هذه التواريخ الثلاثة يتألف ما يمكن تسميته بتاريخ الحضارة، ما دامت الحضارة نتيجة تعاون متعاقب بين بلاد اليونان واليهودية وروما.»
ولما تحن الساعة التي تعد فيها تلك الأسطر دليلا على التأثير القاطع لماضي الإنسان وتربيته في حالته الروحية. أجل، يتخلص المؤلف المشار إليه من ذلك التأثير في بعض الأحيان لا ريب، ولكن لا لطويل زمن، وهو يتخلص من ذلك عندما يبين أن النظام اليهودي بأسره ليس إلا وجها بسيطا للنظام الكلداني، وأن أساطير البابليين المعقدة لم ينتحلها عالم الغرب المتمدن إلا بعد أن تحولت بمرورها من خلال روح الساميين البسيطة، وهو لا يتخلص من ذلك عندما يعزو إلى اليهود شأنا عظيما ويطوي كشحا عن أمم المصريين والكلدانيين كانت ذات أثر عظيم في تاريخ تقدم الحضارة، على حين ترى أثر اليهود فيه تافها إلى الغاية.
لم يجاوز قدماء اليهود أطوار الحضارة السفلى التي لا تكاد تميز من طور الوحشية، وعندما خرج هؤلاء البدويون، الذين لا أثر للثقافة فيهم، من باديتهم ليستقروا بفلسطين، وجدوا أنفسهم أمام أمم قوية متمدنة منذ زمن طويل، فكان أمرهم كأمر جميع العروق الدنيا التي تكون في أحوال مماثلة، فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها، فقربوا لجميع آلهة آسيا، قربوا لعشتروت ولبعل ولمولك، من القرابين ما هو أكثر جدا مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلا لطويل زمن، على الرغم من كل إنذار جاء به أنبياؤهم، وكانوا يعبدون عجولا معدنية، وكانوا يضعون أبناءهم في ذرعان محمرة من نار مولك، وكانوا يحملون نساءهم على البغاء المقدس في المشارف.
وأثبت اليهود عجزهم التام عن الإتيان بأدنى تقدم في الحضارة التي اقتبسوا أحط عناصرها، واليهود بعد أن جمعوا ثروات وفق غرائزهم التجارية القوية، لم يجدوا بينهم بنائين ومتفننين قادرين على شيد مبان وقصور، فاضطروا إلى الاستعانة على ذلك بجيرانهم الفنيقيين على الخصوص كما تدل عليه التوراة، واليهود قد اقتصرت معارفهم على تربية السوائم وعلى فلح الأرض، وعلى التجارة بوجه خاص.
وما كان فلاح اليهود ليدوم غير هنيهة مع ذلك؛ فقد أسفرت غرائزهم في النهب والسلب، وقد أسفر تعصبهم، عن عدم احتمال جميع جيرانهم لهم، فلم يشق على هؤلاء الجيران أن يستعبدوهم، ثم إن اليهود عاشوا عيش الفوضى الهائلة على الدوام تقريبا، ولم يكن تاريخهم الكئيب غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا يوشرون بالمنشار أحياء، أو الذين كانوا يشوون في الأفران، فإلى حديث الملكات اللائي كن يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى حديث سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والشيب والولدان، فما كان الآشوريون ليبدوا ضراء أشد من ذلك.
والبؤس الأسود الذي صب من فوره على بني إسرائيل هو الذي حال، لا ريب، دون انحلالهم التام، وأدى إلى محافظتهم على وحدتهم العجيبة، وما أوحي به إليهم دوما من كره عميق لمختلف الأمم التي اتصلوا بها، صانهم من الزوال بانصهارهم فيها، وما حدث من سحق الدول المجاورة إياهم، ومن استعباد الدول الآسيوية العظمى لهم في كل حين، ومن استرسالهم في الفتن الداخلية الدائمة، ووقوعهم في داء الفوضى العضال عند استردادهم ظلا من الحرية، أوجب ظهور أحوال لا تعرف الروح البشرية معها سوى وساوس القنوط لما لا يكون لديها من عوامل الأمل، فهناك كان يظهر أولئك المتهوسون وأولئك المتعصبون الراجفون ذوو النفوذ العميق في نفوس الجموع على الدوام، فما كان لأمة من العرافين والملهمين والمجاذيب مثل ما كان لبني إسرائيل، وبنو إسرائيل لم يظهر فيهم من النوابغ غير الأنبياء والشعراء.
وكان الأنبياء والشعراء يغترفون إلهاماتهم من مصدر واحد، وهؤلاء وأولئك إذ كانوا يعيشون في جو واحد من المحرضات الدماغية الدائمة، بدت سمات هذا الجو في جميع آثارهم.
وإذا عدوت العهد القديم وجدت بني إسرائيل لم يؤلفوا كتابا، والعهد القديم هذا لم يشتمل على شيء يستحق الذكر، سوى ما جاء فيه من بعض الشعر الغنائي، وأما ما احتواه من أمور أخرى، فيتألف من رؤى أناس متهوسين، ومن أخبار باردة وأقاصيص داعرة ضارية.
وإذا عدوت القرآن، على ما يحتمل، لم تجد كتابا نال من الحظوة في العالم كذلك الكتاب، فالحق أن التوراة والقرآن هما الكتابان اللذان كان لهما في الدنيا من القراء ما لم يتفق لكتاب آخر، والحق أن التوراة والقرآن كانا أكثر الكتب تأثيرا في النفوس، وقد استلهمهما أعاظم الفاتحين، وبفعلهما انقض العرب على الشرق، وباسمهما قامت إمبراطوريات عظيمة وهدمت إمبراطوريات عظيمة أخرى.
وما للتوراة من نفوذ عجيب فيعد من أبرز الأمثلة على شأن الأوهام الكبير في تاريخ الأمم، والواقع أنه كان لهذا الكتاب حظ مدهش لتلاوته من قبل ملايين البشر الذين رأى كل واحد منهم أن ما أراده فيه، لا ما وجد فيه بالحقيقة، ولن يحدث مثل هذا الحادث الناشئ عن الخيال المشوه على ذلك القياس الواسع في تاريخ العالم لا ريب، وما الصفحات التي عرفت أجيال الآدميين المتعاقبة أن تجد فيها أسمى مبادئ الأخلاق، إلا أخبار ما يتألف منه تاريخ اليهود من العهارة والذبح، ومن حيل يعقوب وزناء بنات لوط وسفاح داود والبغاء في المشارف وضروب التقتيل بلا رحمة، وما إلى ذلك من أنباء ذلك الشعب المتوحش التافهة تعلم الشعوب النصرانية منذ ألفي سنة الطبيعة الحقيقية لإلهها القادر على كل شيء، ونحن إذا ما رجعنا إلى ما هو أبعد من ذلك رأينا أن النظام الكلداني الكوني القائل بالخلقة في سبعة أيام، وبآدم وحواء وبالجنة وبالطوفان وسفينة نوح، هو الذي يغذي أذهان أجيال الغرب منذ قرون كثيرة، وكان لا بد من جهد خارق للعادة يأتي به خيال الشعوب الآرية لتعرف هذه الشعوب إلهها الحليم العام، من خلال يهوه الجبار العبوس الذي هو معبود بني إسرائيل الكئيب، هذا الطاغوت الذي ما انفك يطالب بالقرابين والمحرقات واللحم المشوي والدم، وغدت الخرافات الصبيانية أو القبيحة التي وضعها كاتبو التوراة - ليعلموا قوما من الجهال أن إلههم يحكم بينهم رأسا، فيكافئهم ويجازيهم طورا بعد طور على وجه واضح، والتي لم يكن لها غير أثر يسير في كفران اليهود، فرفض أحدهم أيوب مبدأها الأساسي رفض الآمر الناهي - قاعدة للأديان التي ارتضاها الغرب مدة عشرين قرنا، فعدها أناس مثل سان أوغوستان وغليلو ونيوتن وبسكال حقيقة خالصة.
Unknown page