وكتاب اليهود إذا لم يكونوا مؤرخين صادقين كانوا وصافين أوفياء، ومن الوثائق التي لا يعدل قيمتها شيء ما أتوا به من الأوصاف الساخطة حول وثنية بني إسرائيل المتأصلة، والأوصاف الساذجة للطبائع الرعائية، وسلاسل الأنساب التي لا حد لها، وسمات الأخلاق الهائجة .
ومن الناحية الأدبية عرضوا علينا صفحات جميلة إلى الغاية، وتعد فصول سفر التكوين الأولى أثرا ممتازا للعظمة والبساطة، وعلى هذا الوجه وبمثل هذا العرض وهذه اللغة، يمكن المرء أن يتمثل بدء الرواية البشرية الكبرى.
وإذا كان الأساس كلدانيا فإن الشكل عبري، وكان لا بد من قناعة السامي لوصف تلك المبادئ الهائلة في بضع كلمات، ومنحها حتى بالوسائل الساذجة مظهرا غريبا من ظاهر الحق والحياة.
وبجانب أسفار العبريين التاريخية والخرافية تجد القصة الصرفة التي لا يزعم صدقها، والتي لا يبالى فيها بالغلط التاريخي، والتي لا غاية لها سوى افتتان القارئ وثقافته الخلقية في بعض الأحيان.
وحذق كتاب اليهود ذلك النوع، فأشربوه حياة وطبيعة وفتنة في الجزئيات على وجه خاص.
وإذا عدوت ما قد تشعر به من اللذة في قراءة تلك الأقاصيص المؤثرة أو الفاجعة، كقصة يهوديت وراعوت وطوبيا وأستير ... إلخ، وجدتها تشتمل على تفصيلات مهمة عن الطبائع، وذلك كالوسواس الذي يساور يهوديت مع استعداد لاقتراف جرم القتل، حول أكل لحوم الحيوانات التي لم تذبح وفق الطقوس، وذلك كالوجه الذي دعت به راعوت بوعز، أقرب إنسان إلى زوجها، فوجب من حيث النتيجة أن يتزوجها بوعز ذلك وفق شريعة إسرائيل، على الرغم من الفرق العظيم في مقاميهما الذي يجعل تلك الفتاة كثيرة الخجل.
وقصة راعوت هذه من أطرف الأقاصيص الرعائية التي كتبت.
وإن خلق تلك الباسلة الناعم الخلي المحتشم، وإن خلق بوعز النبيل المستقيم الصادق، وإن غم نعمي الممزوج بالتسليم، مما صور بسلامة ذوق ورقة صنعة، فيلوح أنه آخر كلمة للفن، وإن السهول المثقلة بالسنابل الذهبية مع نشاط الحاصدين الجافي وراحتهم بعدئذ تحت السماء ذات الكواكب، وفي جلال ليالي الشرق مما عرض كدائرة للقصة.
ومن الطرافة أن ينتج اليهود آدابا خفيفة عاطفية ذات عفاف على الرغم من تحللهم، وما عندهم من أخبار الدعارة تجده في تاريخهم الخاص، لا في كتبهم التي هي وليدة الخيال الخالص.
وتجد سفر نشيد الأناشيد، الذي هو أكثر أسفارهم شهوانية، يصف أشد الغرام بعبارات شعرية أكثر منها شبقية، وليست لذة الحواس وحدها هي موضع هذا الشعر الفتان، وهذا الشعر يأخذ بمجامع القلوب على حسب التعبير المألوف، وفي هذا الشعر ترى سلامية عاشقة رقيقة متوقدة معا، وترى التعبير عن نار الرغبة فيها مقيدا بصور تنقذ بها وعورة بعض الميول.
Unknown page