Ya Ikhwati
يا إخوتي: قصائد مختارة من شعر أنجاريتي
Genres
كما في الخريف
على الأشجار
ورقة وورقة.
وجاءت بعد المجموعة الشعرية السابقة الذكر مجموعة قصائد أخرى ظهرت سنة 1919م، وحملت هذا العنوان «فرحة الغارقين»، أو «السفن الغرقى» الذي اختصره الشاعر في الطبعات التالية منذ سنة 1931م، في كلمة واحدة يتعذر ترجمتها وهي «الفرح»؛ الفرح الذي يمكن أن نؤديه بكلمات أخرى كالمرح والبهجة والسرور أو السعادة الباطنة التي تدفعنا لأن نعيش الحاضر بكل عمقه وحدته، ونأمل في غد نستبشر به ونثق فيه، ونمشي على الأرض بخطوات ثابتة، وكأننا نطلق من داخلنا كرة السعادة ونسارع لالتقاطها في لعب حر يفرحنا، ويمكن أن يعود بالخير والنفع على أهلنا ومجتمعنا ووطننا والبشرية جمعاء. ألم أقل: إن كلمة «الفرح» يتعذر ترجمتها والإحساس بمدلولها الخالص في لغتنا؛ لسبب بسيط هو: أن هذا الفرح الحقيقي غريب عنا، وغير معروف لنا ولا لمن نعيش وسطهم ويعيشون معنا وحولنا، هل قلت لسبب بسيط؟ لا؛ بل لأسباب تاريخية وواقعية تجعل ما تصفه عادة بالفرح معبرا في صميمه عن البكاء، وأنينا يتخذ شكل القهقهة المريضة والسخرية المرة، والنكتة الهروبية المتشفية، أو المنتقمة من الذات ومن الآخرين.
مهما يكن من عجزنا أو من قدرتنا في لحظات نادرة على الإحساس بهذا الفرح (الذي لم ينفصل منذ البداية في العنوان الذي وضعه الشاعر نفسه عن غرق السفن، وخيبة الآمال وتكسرها على صخور الواقع العنيد)؛ فقد رأى بعض النقاد - وإن لم يكن هذا بالضرورة هو رأيي! - أن أنجاريتي قد احتضن في قصائد «الفرح» أسمى ذرى إبداعه قبل أن تبدأ أجنحته في التهاوي بعد ذلك بالتدريج، بحيث تكفي المقارنة بينها وبين مجموعة أخرى متأخرة وهي «صرخة ومشاهد ريفية» (1952م)؛ للتأكد من ذلك بصورة تتجلى في انتباهه إلى التأمل المجرد من نبضات الشوق المحموم ورفيف فراش الحس الدافئ نحو شفافية الروح، وأفق اللامتناهي واللامحدود. (4) استطاعت قصائد «الفرح» أن تنشر اسم صاحبها وتدعم شهرته، سواء بين الذين سخطوا عليه أشد السخط، أو الذين وجدوا فيه أملا جديدا لإنقاذ الشعر الإيطالي من أوزانه التقليدية وأساليبه الكلاسيكية أو الرومانسية التي ملتها الأسماع ومجتها الأنفس المتطلعة - بعد كوارث حرب فظيعة حطمت الأنظمة المستقرة في الفكر والدين والفن والسياسة والاجتماع ... إلخ - إلى شعر يكون بدوره «حطاما» و«شظايا» متناثرة تسجل - بلغة الشعر المتعالية على الواقع الطبيعي وعلى لغة التواصل الطبيعية على السواء - ذلك الواقع المادي والنفسي الذي تحول فيه الزمان والمكان والبشر إلى بقايا خرساء، وشذرات متناثرة وأطلال منهارة تنطق بالصمت، وتوحي بالإشارة والإيماءة أكثر ما تحرك شفاهها بالكلمات المعقولة والمفهومة ...
هكذا بدت قصائد هذه المجموعة (أي: فرحة الغارقين) التي زادت على السبعين قصيدة (وتجد منها في هذه المختارات ما يربو على الأربعين!) على هيئة أبيات أو سطور شديدة الإيجاز والدقة إلى حد الصرامة. وكأني بها محسوبة حسابا رياضيا متناهي القسوة في تجريد لغته المشحونة مع ذلك بإمكانات وطاقات سرية، وتثير دوامات متوترة من الصور المجازية والاستعارية التي تختزنها، وتشع دلالاتها السحرية لغة الشعر الحقيقي أو الجوهري على الدوام (راجع إن شئت كتابي رائد الحداثة النقدية عندنا - وهو أستاذنا لطفي عبد البديع رحمة الله عليه - وهما: اللغة والشعر، والتركيب اللغوي للأدب).
هل كان من الممكن أن تكون هذه القصائد على غير ما هي عليه؟ ألا تعكس «دراما» إنسان وجد نفسه بغتة - كما سبق القول - على درب الحرب الذي تخترقه الجراح والدماء والقتل البشع، ويمزقه التدمير المستمر للوجود الفردي المعرض في كل لحظة من لحظاته للترويع والقلق والاغتراب والضياع وفقد الأعزاء؟ مع ذلك فإن القصائد المنتزعة من هذه المواقف الحدية واللحظات الوجودية القصوى تسجل إرادة الشاعر العنيدة للحياة، وتحثه على التعلق بكل لحظة يجد نفسه فيها حيا لا يزال.
انظر معي إلى هذه القصيدة الفريدة التي اضطر فيها الشاعر للسهر في حراسة صديق صرعته الحرب فيمن صرعتهم، وتأمل الأضواء التي تنبعث منها، رغم كل التمزق في الوجه والأعضاء:
ليلة بطولها،
ملقى بجوار
Unknown page