وأخيرا ورد المكتوب المضمون، فتجمهر الناس على تلك البشارة، فإذا بتلك الرسالة الحبلى تلد قصاصات من صحف المهجر كالمناظر والمنارة وأبي الهول، كلها تثني على المعلم ثناء عاطرا، وتعظم إقدامه على إنشاء مدرسة لأبناء الجالية بعدما كادوا أن يتأمركوا، فعلمهم لغتهم التي تربطهم بوطنهم، وفيها أيضا مختارات من شعره ونثره وصورته بين أكابر الجالية، فاستقامت قناة أبيه بعدما حناها الهرم، وكاد يسمن بعد أن اخترم جسمه الهم، فاقعنسس بين القوم متعزيا متغذيا، «الصيت الجيد خير من المال المجموع.» هكذا كان يقول إذا ذكر المال، ثم يخرج من عبه الكيس المخملي ليقدم إلى كل قارئ أوراق اعتماده، أي قصائد ولده ومقالاته وما قيل عنه، كان أحب شيء إلى قلبه أن يتلى على مسامعه شيء منها، فيترنح ترنح فاهم، ثم يردها إلى مستقرها.
وعند نشوب الحرب الكبرى، ورد من المعلم كتاب على إثر نعي أمه، يعد فيه أباه بمبلغ من المال متى غلا «الرايش»، ولكن الأحلام لم تصح، فالرايش لم يرتفع ... وأطبقت الحرب كماشتها على الشرق والغرب، فقصر أبو طنوس مع من قصروا من القرية عن إدراك المعاش، فباع أول المقتنى وآخر المبيع أي البيت. كان يجول في القرية صامتا كأبي الهول لا يشكو ولا يتذمر، جلس قبالتي يوما مطبقا شفتيه إطباقة صارمة، تأملته مليا فرأيت شفتيه تتحركان وصدره يخر كزمارة؛ علمت أنه يحدث نفسه، أما ماذا كان يفكر ... طبعا لم يكن يفكر باختراع البارود! هو عي يعمل بقول المثل: «خليها في القلب تجرح، ولا تخرج من الفم تفضح.» وبعد فترة رأيته يتهيأ لحركة ثم يعدل عنها ويغرق في أحلامه، وأخيرا دنا مني وابتسم ابتسامة مخيفة وقال: يا ترى، ابن خالتك نسينا بالمرة، أم بعث لنا شيئا وضاع؟ اقرأ تفرح، جرب تحزن، هذا الذي صار فينا.
فقلت له: أنت محتاج اليوم؟
قال: لا، معي بقوي من ثمن البيت ... ثم تنهد وقال: راحوا من خلف البقر واغتنوا، قبروا الفقر ونحن نشتهي العضة بالرغيف، أنا صرت على حفة قبري ولكن البنت! رطل الطحين بنصف عسملي، أكلنا خبزا «حاف»، ويا ليته قمح.
وفي غد ذلك اليوم استيقظنا على عويل البنية، مضى جدها لسبيله ولم يترك لها إلا ذاك الكيس المخملي، وجاءنا الجدري، فمن لم يمت بالجوع مات بغيره، فألحقت البنت بجدها، وانقطعت عنا أخبار المعلم حتى نعته إلينا صحف المهجر منذ أربعة أعوام، مات كأبيه ميتة كريم مضطر، فأجمعت صحف المهجر على تقديس جهاده القومي في تعليم مواطنيه لغتهم فما نسوا أمتهم، وشكرت جريدة أبي الهول رجلا - لا أتذكر اسمه - واساه في مرضه الأخير، وجهزه للرحلة الكبرى تجهيزا لائقا به.
لم يكن هذا الجندي المجهول كسلانا، ولكنه كان يعتقد أن الدينار شر جار، واعتقاله جريمة لا تغتفر، وبالاختصار لم يكن من أصحاب الجمع والمنع، فمات ميتة جاحظية، وهذا معنى قولنا: «أدركته حرفة الأدب.»
جبور بك
1
كان جبور ينتظر ويفتكر، فتداعت أسراب الذكريات حتى أمست كما قال النابغة: «عصائب طير تهتدي بعصائب.»
أصغى إلى أحاديث حوائج بيته البليغة، فذكرته السجادة النادرة بتلك الحصيرة المقطعة الموروثة عن جده ... وذكرته المرآة الكبرى يوم كان ينحني فوق أجران «الصفوة» ليفتل شاربيه فتلا مغارا، ولمس طوق معطفه المجلل بفرو السمور، فتذكر العباءة البلدية القصيرة الكمين ولقب «دحدوح».
Unknown page