فأجابت: «والقائل: من خلف ما مات.»
والتفت فعلق نظري بالمذبح المنصوب فوق رأسها، وهو رف عليه بضع صور وصليب، كسوته من حياكة أم نخول وكشكشه شغل صنارتها، ودخلت بنية في يمينها إبريق فراعني تطرف الدهر في جوره على هذه المرأة النفيسة.
وعقب الشرب سكوت كصمت المعزين في الخطب المدلهم، قالت: «هنيئا.» وتنهدت وأطرقت كأنها تتذكر الماضي، وأجبت: «هناك الله.» ورحت أفتش عن كلمة لا تثير ذكرى، فما حضرتني واحدة، ولكن أم نخول استولت على الكلام فقالت: «تأمل، أين كنا، وكيف صرنا.» وكرجت دمعات من عينيها ما لبثت أن تكسرت في ثلوم وجنتيها، تمرمرت قليلا ثم قالت: «انفخت الدف وتفرق العشاق، راح جمهور البيت الذي سميته ديرا، ما بقي إلا قريد العش - تعني أصغر أولادها - دب الفنا فينا، ما بقي عندنا شيء يدب على الأربع. بلى، عندنا دابة يكاري عليها الصبي لأنه قليل الجلد كثير الحكي، إذا قلت له حس الدابة ضحك واستهزأ، وتمغط ربع ساعة قبل الوقوف.»
فقلت: «وأين بقية العيلة يا أم نخول؟» فأجابت: «الكبار في ديار البلى، والصغار تاهوا في البلاد.» وشرعت تتوله وتبكي، وبعد دقائق قالت: «قصتنا قصة طويلة، راحوا كلهم وبقيت وحدي مثل البومة العميا، آخرة شنيعة، لا تقل خرفت أم نخول، عشنا مدة الحرب بألف خير، الناس باعوا ما فوقهم وما تحتهم ونحن اشترينا، وبعد الحرب دار الدولاب بالمقلوب، بعض الناس قال حسد، وبعضهم قال إصابة عين.» وسكتت، فاغتنمت الفرصة وقلت: «وأنت أيش قلت؟» فقالت: «أمهل يجئك الخبر.» وأخذت منديلا كان عند مخدتها ومسحت به دموعها، ثم أحكمت جلستها وقالت : «انتهيت الحرب وتغير كل شيء، أولادنا كانوا طوع والدهم فصاروا يردون الكلمة كلمتين، أعجبتهم عيشة المدن، كان ابن جارنا يقف على بابنا حتى نطعمه لقمة، فترك الضيعة بعد الحرب ورجع إليها كأنه خواجا، لا يحكي إلا عن المغنيات والرقاصات - حاشا قدرك - فأفسد واحدا من أولادنا وأخذه معه، أما البقية فقضوا الأيام متكرهين ومتذمرين، ذاقوا طعم ركوب السيارات فاستخفوا بالدواب، استنكفوا من رعاية المعزى وكرهوا البقر، صاروا متزنترين، فبعنا الطروش - الحيوانات الداجنة - أنفقوا كل ما جمعته أم نخول، والقلة تورث النقار، فصار بيتنا مثل جهنم الحمراء، حديثهم الدائم: فلان ما عنده رزق وعيشته أحسن من عيشتنا، وفلان أفقر أهل الضيعة وثيابه جوخ وحرير شغل البلاد - تعني أوربا - ونحن نلبس من حياكتك! - الله الله من الأيام، فضلوا الشيت والمقصور على الحرير لأنه حياكتي - ابن فلان مستريح أكثر منا لا يمشي ربع ساعة ونحن نقتل من المشي قبل الوصول إلى طريق البحر، قنطار الحطب عندنا بربع ليرة، وعند غيرنا بليرتين، إجاصنا وتفاحنا وسفرجلنا يسقط تحت أمه، الزبل ينفق عند غيرنا ونحن نختار كيف نصرف حاصلاتنا. راحت الأيام التي عرفوا فيها قيمة الزبل، كان عندنا ولد يحب الأرض، أخذه عزرايل، مات موتة بشعة، أبعدها الله عن كل محب، كان يحطب لوليمة أحد التهنئة فهيأ حمل حطب وحزمه بالحبل، وبدلا من أن يحمله خطر له فكر كان سبب موته، دفر الحمل برجله من فوق صخر علوه عشر قامات، فعلق الحبل برجله وسقط مع الحمل إلى الوادي، وصار أحد التهنئة مناحة، البنت التي سقتك هي بنته.»
وطفقت تنوح وتبكي زهاء ربع ساعة، فحاولت أن أحول مجرى الحديث فصاحت: «لا تقاطعني، أنا ألتذ بالبكاء كما يلتذ غيري بالغناء والرقص. وأبو نخول، يا حزني عليه، عضته حية فحملناه إلى جسر المدفون لنعالجه في بيروت فمات في بعشتا، مات بعد ابنه بتسعة أشهر، ليته مات قبله! كان استراح من مصيبته فيه، آخر ولد ترك الضيعة منذ شهرين، قدمنا وأخرنا فما نفع الحكي، خبروني أنه يخدم في لوكندة، تأمل ضعف العقل، كان يحكم ويأمر في بيته فصار أجيرا للناس، وهكذا تم فينا قول المثل: راح الرزق مع أصحابه.» - ومن أين تأكلون اليوم يا أم نخول؟ - من ظهر الدابة، أجلك الله. كنا نشبع جبيل والبترون من خيرات أرضنا فصرنا نشتهي عنقود العنب في أيدي البشر، ما بقي من العمر أكثر مما مضى، ولكن يقول المثل: «تموت الدجاجة وعينها بفراخها»، عز علي خراب بيتي قدام عيني.
وأخذت تتفجع ولا تدري من تلوم، ثم هدأت ثورتها بغتة وشرعت تبدي نظرات عمرانية اقتصادية، لو عمل بها الناس لصارت كل قرية جنة، ثم عاودتها ذكرى أيامها السالفة، أيام كان بيتها يضيق عن غلة أرضها، فعلقت تعدد عقاراتها قطعة قطعة، وتتفجع على مواسمها واحدا واحدا، وتصفق على ركبتيها توجعا والتياعا، فنهضت إذ ذاك فقالت بانكسار: «اقعد.» فاعتذرت، فقبضت على يدي بيديها الثنتين وقالت: «كل مصائبي هينة عند خروجك من عندنا بلا أكل، آخ من الأيام.» ثم تنهدت وقالت: «ما لك جود إلا من الموجود، لا توآخذنا.» وما بلغت الباب حتى سمعتها تقول لي بصوت يخالطه بكاء: «رد الباب خلفك.»
وبلغت التينة التي رأيت تحتها أبا نخول بين أولاده فإذا هي معصفرة الإزار، بعد أن كانت كعذارى دوار، فخطرت في بالي كلمة قالها جبران: «مصيبة الأمم في من لا يستنبت بذرة، ولا يرفع حجرا، ولا يحوك ثوبا.»
وانتصبت قبالتها كلمة قالتها أم نخول في بحثها العمراني: «ماذا يصير بالبلاد لو هجر الضياع أهلها، ومن أين يأكل الحكام والتجار إذا خربت بيوت القرى مثلما خرب بيتنا؟»
وفي صباح اليوم التالي دق جرس القرية المعلقة حزنا على ربة الحقل، ماتت سيدة الضيعة ولحقت بمن سبقوها إلى ظل السنديانة العظمى.
صلاة نائب
Unknown page