Wujoob Tatbeeq al-Hudood al-Shar'iyaa
وجوب تطبيق الحدود الشرعية
Publisher
مكتبة ابن تيمية
Edition Number
الثانية
Publication Year
١٤٠٤ هـ - ١٩٨٤ م
Publisher Location
الكويت
Genres
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وجوب تطبيق الحدود الشرعية
Unknown page
مقدمة الطبعة الثانية
الحمدلله جل شأنه من إله عليم قادر، وتعالى اسمه وتباركت أسماءه وصفاته، الملك العدل الحق المبين والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة المبعوث بالحق لإقامة العدل، وقطع دابر المفسدين.. صلوات الله وسلامه عليه. وعلى آله وأصحابه وأنصاره ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد
فهذه هي الطبعة الثانية من كتاب وجوب تطبيق الحدود والشرعية نعيد طبعه بعد أن اشتدت الحاجة إليه بحمد الله وتوفيقه وبعد أن أضفنا له الردود على ما أثاره الدكتور سعاد جلال على صفحات جريدة الوطن بشأن الرجم حيث اتبع مذهب الخوارج السابقين في إنكار هذه الفريضة الجليلة، وحيث تشدق بمقابلته بعض المتشدقين ممن يريدون إقصاء الشريعة المطهرة عن حياة الناس ننشر ذلك -بحمد الله وتوفيقه- تنفيذًا للميثاق الذي أخذه الله على من حمل علمًا أن ينشره ولا يكتمه نسأل الله أن يكون في هذا أداء لبعض الحق الذي لله علينا، ونستغفره ونعوذ به من العجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال وأسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة، وأن يجعلها لنا في ميزان الحسنات والله ولي التوفيق إنه هو السميع العليم.
عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت في ٤ صفر ١٤٠٤هـ
الموافق ٩ نوفمبر ١٩٨٣
1 / 3
مقدمة الطبعة الأولى
الحمدلله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين، والذي أكمل الله له الدين وأتم عليه وعلى أمته النعمة وبعد.
فإن شريعة الإسلام المشتملة على كل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم قد أبعدت عن حياة الناس إلا في قضايا العبادات، وأما قضايا المعاملات والحدود والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية فإن عامة دول المسلمين إلا قليلًا قد استبدلت بتشريع الله فيها تشريعات من اختراع الإنسان. وكان لذلك أسباب، وليس هذا مجال ذكرها، ولكن الصحوة الإسلامية الحالية حملت معها وجوب العودة إلى الشريعة، والمطالبة الدائمة من جماهير المسلمين بوجوب الحكم بشريعة الله، ولكن أعداء هذه الشريعة لا يكادون يسمعون ذلك حتى تقفز قلوبهم إلى الحناجر وتحمر عيونهم ويصرخوا في كل ناد، ومن فوق كل منبر. دعونا من الشريعة أتريدون أن تعودوا بنا إلى الهمجية والوحشية؟
1 / 5
وبما أن معظم منابر التوجيه وأجهزة الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفاز ومدارس قد أضحت بيد من يجهلون هذه الشريعة ومن يعادونها، فإن هذه المنابر أصبحت تستخدم للتنفير من شريعة الله والصد عن سبيله.
وقد رأيت من واجبي التصدي لبعض هذه الحملات الظالمة بجهدي القليل فنشرت مقالات في صحيفة الوطن الكويتية بوجوب العودة إلى الشريعة، تطبيقًا وتحكيمًا وخاصة في قضايا الحدود، وبينت بركات هذه العودة على الجميع، وبينت بحمد الله وتوفيقه فساد العقوبات الوضعية القائمة الآن والتي أصبحت بديلًا من الشريعة المطهرة، ورددت في هذه المقالات أيضًا على فتوى نشرت لأحد العلماء بجواز السماح للسجين بمعاشرة زوجته مبينًا أن هذه الفتوى باطلة لأن السجن أصلًا ليس عقوبة شرعية (أي منصوصًا عليها، وإنما السجن في الشريعة عقوبة تعزيرية اجتهادية. فيما لا يتعدى الأيام القليلة)، ولذلك فلا يجوز أن يسند بالرأي الشرعي حتى لا نرقع القوانين الوضعية بالشريعة السماوية فنضفي بذلك على قوانين الظلم والجهل القداسة والطهارة وهي براء من ذلك.
ثم رأيت من واجبي جمع ذلك في هذه الرسالة مع إضافات وفقني الله إليها في بيان حكمة الشريعة ووجوب الأخذ بها، وذلك
1 / 6
نشرًا لهذه القضية الهامة وتحذيرًا لأئمة المسلمين وعامتهم من الركون والرضا بالشرائع الباطلة، وتنويهًا إلى وجوب العمل لوضع شريعة الله موضعها الصحيح حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله غالب على أمره، وهذا أداء لبعض الواجب عليّ. أسأل الله أن ينفع بها وأن تكون حافزًا لنا جميعًا بأن نعود إلى شريعة الله نحكمها في كل شئوننا وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت في ١٨ رجب سنة ١٣٩٩هـ
1 / 7
أولًا: فضل إقامة حدود الله في الأرض
مدخل:
لما عصى آدم ربه ﷾ في السماء، وأهبطه الله إلى الأرض كلمه قائلًا: ﴿قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ (طه: ١٢٣-١٢٤)، في هذه الآية بيان أن شريعة الله لآدم والرسل من بعده هي العاصمة من الضلال في الدنيا، والشقوة في الآخرة. ولذلك لم تقتصر شريعة الله للأنبياء على ما يقومون به من فروض تعبدية نحو الله بل شملت تنظيم سائر حياة البشر من زواج وطلاق وميراث، ومعاملات مالية، بل وكل ما يحتاجه الإنسان ليؤسس حياة طيبة طاهرة على الأرض. ولكن الشيطان الذي أخذ على نفسه عداء آدم وذريته استطاع أن يجتال طائفة كبيرة من بني آدم عن طريق ربهم ويصرفهم عن شريعته بشرائع أخرى اخترعوها لأنفسهم فوقع بها الشر والفساد والظلم في الأرض.
وإذا كانت البشرية في عصورها السابقة لم تمتلك التجارب الكافية لتقارن بين نتائج تطبيق شريعة الله وشرائع الشيطان فإنها في عصرنا هذا تمتلك تراثًا ضخمًا للإسلام والجاهليات المختلفة عبر العصور وتستطيع أن تشاهد إلى أي مدى يوجد الفارق الشاسع بين تطبيق شريعة الله حيث يحل النور والعدل والصلاح وبين تطبيق شرائع الشيطان حيث ينتشر الفساد والظلم بكل الصور والأشكال.
1 / 9
ولا شك أن شريعة الإسلام المنزلة على محمد ﷺ هي أكمل شرائع الله ففيها رفع الله الآصار والأغلال والتضييق الذي كان على الأمم السابقة ولم يجعل سبحانه فيها علينا حرجًا بوجه من الوجوه، كما قال تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (الحج: ٧٨)، وقد أتمها الله لتشمل شئون حياتنا كلها فلا تحتاج بعدها إلى غيرها ولا نحتاج لمزيد عليها كما قال تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾ (المائدة: ٣)، وقال: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء﴾ (النحل: ٨٩) .
بركات الشريعة:
ولا شك أيضًا أن بركات الشريعة المطهرة لا تحصى، فأول ذلك أن الله ﷾ قد أناط خير الدنيا بتطبيق شريعته. قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ (المائدة: ٦٦)، وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا أنها تنسحب علينا أيضًا، وقال أيضًا سبحانه: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا
1 / 10
فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ (الأعراف: ٩٦)، ولذلك ما أرسل الله رسولًا إلا ذكر قومه أن طاعة الله هي السبيل إلى استدرار رحمته في الدنيا، كما قال نوح لقومه: ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا* يرسل السماء عليكم مدرارًا* ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا﴾ (نوح: ١٠-١٢)، وكذلك قال هود لقومه: ﴿ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين﴾ (هود: ٥٢)، ونفس هذا تقريبًا ما أعلنه الله في شريعة محمد ﷺ حيث استفتح سورة من القرآن بقوله تعالى: ﴿الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير* وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمىّ ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير﴾ (هود: ١-٣)، ولا شك أن المؤمنين يصدقون بوعد الله ويعلمون يقينًا أن خير الدنيا والآخرة في اتباع مرضاته. وإذا كان ثم من يكذب بهذا الوعد ولا يرى رابطًا وسببًا بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم، وبين نزول المطر ووفرة الزراعات ورواج التجارات. فإن ثمة روابط مادية أيضًا يشاهدها كل ذي بصر من مؤمن وكافر بين هذا وذاك، فالصلاة والصيام تربية وتزكية لضمير الفرد وتوجيه له نحو البر والإحسان، ومحبة الخير للناس، ولا شك أن من هذا صفته أجاد
1 / 11
صناعته وزراعته، ولم يغش في تجارته، ولم يقبل رشوة إن كان موظفًا، وحافظ على الأموال العامة من الضياع، ولا شك أن مجتمعًا تكون عامته وأكثريته على هذا النحو سيكون مجتمعًا للرخاء والثروة وزيادة الإنتاج. ولا شك أيضًا أن في إخراج الزكاة أعظم فائدة لنماء الأموال والقضاء على الثورات والشحناء التي تشل الاقتصاد وتوصل البلدان إلى الخراب والدمار. وفضل الحج وهو عبادة في التقريب بين الشعوب الإسلامية لا ينكر ومع التقريب تحصل المودة وتتبادل المنافع التجارية والصناعية والزراعية، والعالم كله يسعى إلى إقامة مؤتمر كالحج تنتفي فيه الفروق بين البشر ولا يستطيع، وهذا في العبادات وأما المعاملات فهي أبلغ من ذلك لأنها تستهدف أصلًا رفع الظلم وإقامة العدل في الأرض، ولا شك أن الظلم يتبعه الخراب، وأن العدل يتبعه الرخاء والنماء. فلماذا لا تكون إقامة شريعة الله، تعني انفتاح البركات وزيادة الخيرات. ولا شك أيضًا عند كل ذي لب من مؤمن وكافر أن إقامة الحدود أعني العقوبات الشرعية هي من أكبر أسباب زيادة الخيرات والبركات فقطع يد السارق يعني المحافظة على الأموال وخروجها من المخابىء ليعمل بها في التجارات والزراعات والصناعات، لأن رأس المال جبان -كما يقولون- فإذا توفرت له الحماية خرج، وإذا انتشرت اللصوصية والظلم اختبأ أو هرب، ولا شك أيضًا أن قتل القاتل ردع عن هذه الجريمة المسببة لخراب العمران وتقطيع أوصال المجتمعات، وناهيك بتنفيذ حد الزنا حيث يقطع دابر البغاء، وإنفاق الأموال في غير وجهها، ويقطع الطريق على إنجاب أولاد الزنا الذين هم آفة المجتمعات، فالطفل الذي ينشأ لا يعلم له أبًا
1 / 12
يمتلئ قلبه بالحقد والكراهية للمجتمع، ولا شك أنه يظلم الناس إذا وجد الفرصة لذلك. ولهذا كان عامة المنحرفين والمجرمين من هؤلاء.
والمجتمع الإسلامي الذي يظهر على هذا النحو من النظافة والطهر لا شك أنه سيكون مجتمع الخير والبركة والنماء. فلماذا تنكر إذن أن يكون هناك رابط وسبب مباشر تراه كل عين ويفقهه كل قلب بين تطبيق الشريعة المطهرة وبين الرخاء المادي والسعادة الدنيوية. وصدق الله القائل: ﴿من عمل عملًا صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ (النحل: ٩٧) . ولذلك جاء عن النبي ﷺ أنه قال: [إقامة حد في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحًا] رواه النسائي وابن ماجة.
ثانيًا: التحذير من ترك إقامة الحدود
ولا يظنن ظان أن الله ﷾ قد أنزل شريعته وترك لنا الخيار في العمل بها أو إلغائها، أو أنه يأجرنا ويبارك لنا إذا أخذنا بها، ولا يعاقبنا إن تركناها. أعني ليس تنفيذ الشريعة من باب المستحب والمستحسن، بل من باب الفرض والواجب. فكما أن على تطبيق الشريعة يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة، فإن على تركها وإهمالها يتوجب الخسار والدمار في الدنيا والآخرة أيضًا، وإليك الأدلة الشرعية والعقلية على ذلك.
1 / 13
(أ) الأدلة الشرعية:
قال تعالى آمرًا رسوله بتنفيذ حدوده ﴿سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون﴾ (النور: ١)، وهذه الآية هي مطلع سورة النور وفيها يعلن الله ﷾ فرضية هذه السورة التي شرع فيها حد الزنا، والقذف، وضوابط اللعان، وكذلك كثيرًا من آداب الإسلام الأخرى كالحجاب والاستئذان وطاعة الرسول. وبدأ الله سورة المائدة بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ (المائدة: ١)، وهذا أمر بأن نوفي أي نكمل ونتمم كل ما عاهدنا الله عليه ثم ذكر الله في هذه السورة كثيرًا من العقود والحدود، ومنها تحريم أنواع من الأطعمة، ووجوب العدل مع الأعداء، والوضوء والتيمم، والقتال، والقصاص، والسرقة، وقال في هذه السورة سبحانه بعد ذكر طائفة من هذه العقود والحدود.
﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق﴾ (المائدة: ٤٨)، وقال أيضًا: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون. ومن أحسن من الله
1 / 14
حكمًا لقوم يوقنون﴾ (المائدة: ٤٩-٥٠) . وهكذا أوجب على رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزل الله إليه، وحذره أن يخرج عن بعض هذا المنزل، وبالطبع هذا الأمر للرسول أمر للأمة كلها، والتحذير تحذير للأمة وخاصة من بيدهم الحكم ومن ولاهم الله شئون المسلمين.
وفي هذه السورة أيضًا سورة المائدة حذرنا الله من أن يحل بنا ما حل باليهود والنصارى الذين بذلوا وتركوا ما أنزله الله عليهم من التوراة والإنجيل، ولذلك كفرهم ﷾ وفسقهم بذلك كما قال: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ (المائدة: ٤٤)، ومعلوم أن هذا نص عام، فكما كفر اليهود بترك كتابهم فإن هذه الأمة تكفر بترك كتابها ثم بين ﷾ أنه كتب على اليهود القصاص وأنهم تركوا ذلك فظلموا وخرجوا من الدين حيث قال سبحانه: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ (المائدة: ٤٥) . وذكر ﷾ نحو هذا في النصارى أيضًا وحكم عليهم وعلى أمثالهم ممن تركوا الشريعة بالفسق والمروق من الدين حيث قال سبحانه: ﴿وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم
1 / 15
مصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾ (المائدة: ٤٧) .
ولقد كان هذا الترك للشريعة المنزلة سببًا في لعن الله لليهود وغضبه عليهم، كما قال تعالى: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه﴾ (المائدة: ٧٩)، ومعلوم أن أكبر إنكار ونهي عن المنكر هو إقامة الحدود التي هي بمثابة الزواجر عن ارتكاب الفاحشة والظلم في الأرض، ولو أقاموا الحدود لكان هذا أكبر نهي عن المنكر، ولم يلعنهم الله في الآخرة فقط بمعنى أن يطردهم من رحمته، بل عاقبهم في الدنيا بألوان من الخزي والعار كما قال تعالى: ﴿ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ (آل عمران: ١١٢) . ومعلوم أيضًا أن ترك الحدود أعظم دليل على الكفر بآيات الله، وقد ذكر ﷾ أن هذه العقوبات ستظل أبدية عليهم إلا ما استثناه الله في الآية السابقة: ﴿إلا بحبل من الله وحبل من الناس﴾ حيث يقول: ﴿وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك
1 / 16
سريع العقاب وإنه لغفور رحيم﴾ (الأعراف: ١٦٧)، ولقد قال هذا سبحانه في سورة الأعراف بعد أن ذكر اعتداءهم في السبت بصيد السمك في يوم حرم عليهم العمل فيه ثم ترك بعضهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومثل هذه الآيات القوارع جاء مثلها بشأن النصارى أيضًا كما قال تعالى: ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ (المائدة: ١٤)، وكل من قرأ تاريخ النصرانية يعلم إلى أي حد فتكت عداوة النصارى -بعضهم بعضًا- بهم ومزقتهم كل ممزق. وما ادخره الله للكافرين منهم في الآخرة أعظم من ذلك.
ولا يظنن ظان أيضًا أن المسلمين من أمة محمد ليسوا كذلك، بل كل ما هدد به السابقون يقع مثله بالأمة إن فعلت فعلهم. إلا ما شاء الله كما قال تعالى في شأن إهلاك قرى لوط: ﴿فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود. مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد﴾ (هود: ٨٢-٨٣)، أي وما الحجارة التي أهلك الله بها قوم لوط ببعيدة عن الظالمين من أمة محمد إن فعلوا فعلهم وساروا على منوالهم. وكذلك قال سبحانه: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به﴾ (النساء: ١٢٣)،
1 / 17
أي كل من عمل سوءًا من يهودي أو نصراني أو مسلم فإنه يجازي به لأن الله لا يحابي أحدًا. وكذلك قال سبحانه: ﴿فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين﴾ (يونس: ١٠٢) . وقال أيضًا: ﴿وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير. فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون﴾ (هود: ١١١-١١٣)، وهذه الآيات كلها قوارع وزواجر تبين أن هذه الأمة يجب عليها أن تستقيم على أمر الله كما شرع الله، وأنها إن تركت ذلك وركنت إلى الظالمين في شيء من تشريعهم الباطل فإن لعنة الله وعقوبته تحل بهم كما حلت بالأمم السالفة.
وهذا الذي أخبر الله ﷾ به واقع أمامنا نراه ونشاهده كل يوم، فاندحار هذه الأمة وذلتها وتشريد أبنائها، وركوعها أمام اليهود وكل أعداء الله في الأرض، ثم فرقتها وشتاتها أليس كل ذلك شاهد واضح على صدق وعد الله وأنه سبحانه لا يخلف، وأنه لا يحابي أحدًا سبحانه، وأن أمة محمد لا تنصر إلا بتطبيق شريعته وابتغاء مرضاته سبحانه، فهل بعد هذا يماري مجادل في أننا لا نعتز إلا بتطبيق شريعته وأن ذلتنا الحاضرة إنما هي من ترك هذه الشريعة الغراء.
1 / 18
(ب) الأدلة العقلية:
يستطيع أي عاقل منصف ينظر إلى الشريعة الإسلامية ومنهجها في الزجر عن الفساد في الأرض واستئصال دابر الجريمة، وكيفية إقامة العدل بين الناس أن يصل إلى يقين بأن ترك هذه الشريعة يعني زرع الفساد في الأرض. وخاصة أرض العرب إذ أن هذا الجنس من البشر لا يجتمع إلا على سلطان ديني، فما اجتمع العرب في تاريخهم الطويل إلا على هذا السلطان الذي ألف بين قلوبهم ووحد صراطهم ومنهجهم في الحياة، وردع أهل الشر منهم والفساد عن شرهم وفسادهم، ولا يكاد يخرج هذا الدين من أوساطهم حتى يعودوا إلى مثل الجاهلية الأولى شرًا وفسادًا وفرقة.
ولا نعني بهذا أن الدين لا يصلح إلا للعرب خاصة، بل الدين فيه صلاح العالمين والعرب على وجه الخصوص واليقين. فالعالم اليوم يعج بأحط أنواع الفساد والانحلال. فالظلم والطغيان في ظل القوانين الاقتصادية الجائرة أمر شاهد لكل عين سواء في ظل النظام الرأسمالي الذي يبيح الربا وأنواعًا من الاحتكار أو في ظل النظام الشيوعي الذي ينتهك حرمة الإنسان بتجريده من أهم ما يقوم حياته وهو رأس المال ووسيلة الإنتاج. ويجعل منه عبدًا لصنم يسمى (المجموع) وحيث يذهب المال في النهاية إلى طوائف من المنتفعين ممن يبقون على رأس السلطة في المجتمعات الشيوعية والاشتراكية. وكذلك الحال في النظام السياسي فبإقصاء الشريعة عم الظلم وناهيك بالنظم الاجتماعية والأخلاقية حيث
1 / 19
انهارت الأسرة وفقد التواصل والترابط بين الأرحام وكل ذلك بانتشار الزنا وإباحة اللواط حيث انعدم الوفاء والإخلاص والحب الحقيقي بين الزوجين وبالتالي بين الأم وأبنائها، والأب وأولاده، والإخوة بعضهم مع بعض، وأصبح المجتمع أشبه بمجتمع الحيوانات، حيث يتقاتل الذكور على الإناث وقت السفاد دون خجل أو حياء، ومثل هذا المجتمع الذي يفقد الإنسان فيه آدميته ويلتحق بالبهائم لا شك أنه مجتمع شر وفساد.
وهل من الممكن أن تصلح هذه المجتمعات دون نظام إسلامي يردع عن الفواحش ويضع العلاقة بين الرجل والمرأة في مكانها الصحيح ويقيم أسس الاجتماع على التراحم بين الأقارب، ويعرف الإنسان فيه أبًا حقيقيًا وأمًا رحيمة وأخوة يشاركونه نفس الأب. وكذلك أعمامًا وأخوالًا وأحفادًا، بدلًا من أن يعيش الناس في مجتمع لا يشكلون فيه أكثر من أرقام عددية كهذه الأرقام التي نعلقها على الطيور والحيوانات في مزارع تربية الماشية والدواجن.
وإذا كان العالم اليوم يشكو من السرقة التي استفحل أمرها، ومن حوادث الاغتصاب التي باتت تهدد كل فتاة، ومن حوادث القتل التي لا تكاد تأمن منها نفس، فمن لهذا العالم يخرجه من الفساد إلا نظام الله وقانونه الذي ما إن يطبق في مجتمع ما تطبيقًا عادلًا حتى تستقر الأوضاع ويأمن الناس وينقطع دابر الشر والفساد.
ومثل هذه الدعوى التي ندعيها لا تحتاج إلى برهان لأن التاريخ كله شاهد بذلك قديمًا وحديثًا. ومقارنة يسيرة إلى أي
1 / 20
مجتمع جاهلي يطبق قوانين الإنسان الجاهلية، ومجتمع مسلم طبق قانون الله العليم سيطلع أي منصف على الفارق الشاسع بين نظام البشر حيث الجهل والظلم والانحراف وبين نظام الله حيث الرحمة والعدل والطهارة.
ولذلك فكل عاقل من البشر مدعو أن يطالب بملء فهمه وبغاية جهده أن يعود الناس إلى نظام الله لنأمن في الدنيا ونسعد قبل الآخرة، وأقول كل إنسان سواء كان مؤمنًا أو كافرًا يجب أن يسعى لهذا ما دام يملك شيئًا من الإنصاف والحق. وذلك أن كل منصف وصاحب حق سواء اهتدى إلى الإيمان أم لم يهتد سيجد في تشريع الله ضالته المنشودة في إقامة العدل بين الناس وفيما يسمى بالمجتمع الفاضل والمدينة الفاضلة، فالحريات السياسية والدينية قد كفلها الله للجميع في ظل هذا النظام والمحافظة على عقول الناس وأعراضهم وأموالهم، ودمائهم ونسلهم ودينهم قد شرع الله لها من التشريعات ما يصونها ويحفظها، وهل يريد أي عاقل أن يعيش في مجتمع خير من هذا المجتمع الذي يصون له كل مقومات حياته، ويطلق يده في كل باب من أبواب الخير يعود عليه بالنفع. بالطبع لا يعارض إلا المجرمون من أهل الظلم والسرقات والغضب أو من أهل الخنا والخسة والدناءة الذي يحبون أن تشيع الفاحشة ليعيشوا في حمأتها وأن ينتشر الزنا ليصيبوا منه ما وسعهم ولا يسألون بعد ذلك على بناتهم أو أمهاتهم أو أرحامهم. أمثال هؤلاء هم الذين تشرق حلوقهم بذكر تشريع الله ويصيبهم الهلع والجزع إذا سمعوا بحدوده ويتحسون ظهورهم وأيديهم وأعناقهم خوفًا من الجلد والقطع لما اقترفوه من زنا وفاحشة وسرقة وقتل وفساد.
1 / 21
والواجب ألا نعبأ بهؤلاء لأن هؤلاء هم آفة المجتمعات وسوسها وتخليص المجتمعات من شرورهم هو أكبر رحمة للبلاد والعباد. فهل يتنادى العقلاء بعد ذلك من كل ملة وجنس بالعودة إلى تشريع الله وتطبيق حدوده في الأرض؟
1 / 22
ثالثًا: رد الحكم الشرعي كفر
تثير الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية خوفًا وهلعًا عند فئات شتى. فالحكام يخافون على مناصبهم، وأصحاب الأموال يخافون على ثرواتهم، وأهل الفجور والمعاصي يخافون على ما هم فيه من دنس وقذارة. وقد يكون في وسط هؤلاء وهؤلاء بعض من يصلون ويزعمون حب الله ورسوله والامتثال برسالة الإسلام. وحتى يكون في هذا الكتاب موعظة لكل هؤلاء فإننا نذكرهم جميعًا بما يلي: -
١- رد الحكم الشرعي كفر:
لا يشك مسلم أن من لوازم الإيمان الإقرار بشرع الله سبحانه، والتسليم لأمره، وهذا معنى الإسلام أي التسليم والإذعان والانقياد لأمر الله، وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا﴾ وكقوله جل وعلا: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا﴾، وفي هذه الآية تعجب الله سبحانه ممن يدعي الإيمان وهو يريد أن يتحاكم إلى غير حكم الله وحكم رسوله وأخبر أنه لا يؤمن إلا من حكم الله ورسوله في كل شجار يكون بينه وبين آخرين، ورضي بحكم الله وحكم رسوله وسلم تسليمًا كاملًا لذلك.
ولا شك أن الحدود الشرعية للجرائم المعروفة: السرقة، والقتل،
1 / 23